تاريخنا بعيون أجنبية

لا مراء أن زينب شغوفة بالسياسة: تهوى الخوض في الحسابات وإحكام الخطط، ركوب الحِيلة، السيطرة، السؤدد، النصر وقد تلجأ للضرب أحيانا. ولئن كانت تتوسل بكل قواها من أجل تحقيق طموحها.

صدرت سنة 2004، بدار ﭙلون بفرنسا، رواية تاريخية هامة عن شخصية نسائية من التاريخ الإسلامي، وأعني زينب النفزاوية زوجة السلطان الشهير يوسف بن تاشفين، وقد أتيح لي شخصيا أن ترجمتُ العملَ للغة العربية، وأطمح ها هنا أن أقدم للقارئ العربي فكرة ولو مقتضبة عن الكيفية التي تصورت بها الكاتبة زكية داود (اسمها في الأصل جاكلين داﭭيد، وهي متزوجة من مغربي وتعيش الآن بين باريس ومراكش)، ملامحَ زينب التي يقال بأنْ كان لها تأثير كبير على أهم سلاطين الغرب الإسلامي، بحيث إذا ذُكر المغرب الأقصى ذُكر مباشرةً اسمه. من المفارقات التاريخية العجيبة أننا، رغم هذا، لا نظفر عنها، في المراجع العربية المعتمدة،  بشيء سوى أنها كانت ذات جمال وعقل.  

تقول زكية داود، التي هي وجه بارز في الحركة النسوية بالمغرب، بأن فكرة الكتابة عن زينب النفزاوية أو قل الهوارية، قد راودتها لمدة  ثلاثين سنة، قبل أن تجسدها في عملها الرائع هذا،  الذي أرى، من وجهة نظر خاصة، أنه من أهم ما أنجِز في باب السرد في المغرب المعاصر.

ولا يهمني هنا الحديث عن تجربتي في ترجمة النص، ولا تلخيصه نوعَ تلحيص، بقدر ما يهمني أن أقدم للقارئ المفترض فقرات توضح بجلاء طبيعة تَمَثل الكاتبة للشخصيتين المذكورتين آنفا،  وأقصد زينب النفزاوية (نسبة لنفزة بتونس، ذلك أن زينب لها أصول تونسية، ويبدو أن أباها إسحاق الهواري قد قدِم للمغرب واستقر به)، ويوسف بن تاشفين الصنهاجي الآتي، حسب رواية من حدود السنغال، وحسب أخرى من موريتانيا حيث رباط المرابطين الذي اشتق منه اسمهم بمنطقة ازوﮔي، الواقعة شمالي غرب مدينة أطار، حيث يرقد جثمان أحد منظري دولتهم الكبار وهو الشيخ الحضرمي المرادي.

تقول زكية في مستهل الفصل السابع من روايتها ما يلي بخصوص زينب:
عند زواجها بيوسف بن تاشفين، في مايو من سنة 1071م، كانت زينب في ربيعها الثاني والثلاثين. الآن، قد اكتمل حسنها وتم عقلها: ولئن ذاقت النصر والهزيمة، الغنى والفقر، الحرية والأسْر، فقد يجوز لها القول إن فؤادها ما يزال فارغا. كانت دوما مرفوعة الرأس. وها هي تتقدم بخطى رشيقة ثابتة، في ثوبها المطرز الأخضر الأخاذ. شَعرها فاحم كما كان وعيناها براقتان. تنتظر، منذ مدة، هذه الزيجة وتحلم بها. ما أشد ما كانت ترجو أن تجتمع لها أسباب المجد والحب !

تضيف، في الفقرة الثانية من الفصل الثامن، مشيرةً إلى الطريقة التي تعتقد أن زينب كانت تصرف بها وقتها، عندما تأسست عاصمة المرابطين:

تنعم زينب في قصرها بالراحة، تمضي ساعات في الحمام، تتنزه بالحديقة… تصيب من طيبات الحياة. في المساء، وقد طفلت الشمسُ وباخ حرها، ترافق تميما إلى الساحة المركزية بمراكش حيث يجتمع، بشكل يومي، المَهرة  في الألاعيب السحرية، المطربون، القصاص والبهلوانات، يزاحمهم المتسولون، مرضى الجذام والبرص والسقاءون. يصفق تميم ويضحك للمَشاهد التي تتجدد كل يوم بهذه الرحبة التي لم تُسَم بعد بجامع الفناء.

هذا من الناحية الاجتماعية، أما من الناحية السياسية، فتقول:

لا مراء أن زينب شغوفة بالسياسة: تهوى الخوض في الحسابات وإحكام الخطط، ركوب الحِيلة، السيطرة، السؤدد، النصر وقد تلجأ للضرب أحيانا. ولئن كانت تتوسل بكل قواها من أجل تحقيق طموحها، فأكثر ما تكرهه هو الجشع الذي تقرأه في عيون الرجال. منتهى أملها أن تشارك في صنع جزء من التاريخ. وحده يوسف يفهم سلوكها.  

هذا بخصوص زينب، أما ابن تاشفين فقد حظي عند الكاتبة بوصف دقيق إنْ على المستوى الجسدي أو النفسي، أما على المستوى الأول، فتقول:

تجاوز يوسف مرحلة الشباب بأشواط، هو الآن يناهز عامه الستين وقد تصرفَت به الأحوال. خرج من رحم الصحراء إلى قلب المعارك وتداولَته الانتصارات والانكسارات… بادي الرأي، هيئته لا توحي بشيء من التفرد. قَضيف، متوسط الطول، آدم، تبدو جَمته من تحت عمامته. كث الحاجبين، أقرنهما، أحوى المقلتين، أقنى الأنف وأملد الخدين ! تظهر شخصية الرجل أكثر ما تظهر من خلال عينيه السوداوين الحادتين. رجل سيكون أعظم ملوك المرابطين على وجه الإطلاق ومن أهم الملوك الذين سيحكمون المغرب. هو، باختصار، زعيم فريد جادت به الصحراء… خرج من رحمها ولم يعد إليها.

وأما على المستوى الآخر، فتؤكد الآتي:

 ثابت العزم،  فَعال لما يقول، كاظم للغيظ، مخفوض الجناح وعلى جانب من البساطة. كريم، لا يرفع صوته بالحديث، غير أنه ذو بأس شديد خلال المعارك. ليس فظا ولا غليظ القلب: ومثاله أنه إنْ عاقب مسيئا بِجرم، اكتفى بحبسه ولم يتجاوز الحد المعقول، إيمانه قوي لا مجالَ للغمز فيه وخِلالُه فاضلة. لم تُغيره أسباب السلطة. السند الحقيقي، كما يطيب له القول، ليس هو الشوكة ولا المال والجيش بل الشعب. هو صارم في اعتدال، زاهد، جعل الدنيا وراء ظهره، قد عرف ولزم، صلب في القتال، سريع الكَر، لديه ميزانُ الوقت. رجل تخطيط لا يُقهر.

تبدأ الرواية بمشهد الوداع بين زينب ويوسف في أغمات، المدينة التي فقدت أهميتها السياسية والاقتصادية بمجرد بناء مدينة مراكش، وهي اليوم لا تساوي شيئا تقريبا من الناحية السياحية مقارنةً بها ولو أنها تضم بين جنباتها قبري الأمير والشاعر الأندلسي المعروف المعتمد بن عباد وزوجته اعتماد الرميكية، والمشهدُ مكتوب بحساسية مفرطة وجمال كبير.

دار بينهما الحوار الآتي:

– جئت، يا زينب، إلى أغمات ليكتحل ناظري برؤيتك قبل أنْ أسلِم الروح إلى بارئها.

– لا تقل هذا !

– أشعر أن زَو المَنية قد أدركني، فأحببتُ أن أبادلك الحديث للمرة الأخيرة. تالله ما تفتئين بارعةَ الحسن. علم الله، يا زينب، أنك في سواد القلب من الشغاف.. وايم الله ما تفكرتُ في الخوالي من الأيام إلا ازددتُ يقينا أنك وأمي قد ملأتما علي كياني دون سواكما من النساء.

– أسَرني هذا. أما والله ما يُدانيكَ عندي من أحد.

– أعلم.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها