الهوية بين الطيب صالح ويوليوس نايريري (3)

توقيف عدد من السودانيين كانوا في طريقهم إلى ليبيا "للعمل كمرتزقة"
توقيف عدد من السودانيين كانوا في طريقهم إلى ليبيا "للعمل كمرتزقة"

الهوية السودانية تراكمت عناصرها عبر الحقب التاريخية المختلفة على هذه الرقعة من الأرض بمختلف مسمياتها..

نواصل الاقتباس من حديت الإستاذ الطيب صالح رحمه الله عن قضية الهوية؛  للتعرف أكثر على رؤيته الشخصية للقضية ومضاعفاتها في بلد مزقته الصراعات الايدلوجية والعراك الثقافي.
 وذلك لقراءة مجمل الآراء التي عبر عنها في حوار قديم كنت أجريته معه ونشر في صحيفة (الخرطوم) السودانية المعارضة في عددي 26-27 أبريل 1998.
سألت الأستاذ الطيب صالح :ولكن أين إذا موقعنا نحن في السودان من القائمة العربية ونحن أكثر من عشرين مليون عربى
أجاب الأستاذ الطيب صالح بسؤال ، لماذا تشغل نفسك بهذه القائمة أو بغيرها …أنت بلد طويل عريض…لديك تاريخ حافل وممتد.
أنت كما أنت ..إذا كان من حولك يجدون فيك شيئا يفيدهم، حتما سوف يأتون إليك … ثم أن السودان،  ليس مجهولا ولا هو محتقر كما تظن ..
هناك جهلاء فى العامة يسيئون : نعم … ولكن هناك أناس يعرفون قيمة السودان و يعرفون علماءه منذ وقت طويل ..وأسألك،هل الناس هنا يعرفون موريتانيا أكثر من السودان؟.. الصومال؟

مظاهرات في السودان -أرشيف

عندما تسأل عن (عمان) دولة قديمة وعرب معروف عروبتهم …أسألهم عن اليمن ….هذه أمور من طبيعة الظروف ونحن لأننا حساسين، وفى هذا الجو كل فرد يعالج الأمر بطريقته …البعض بالضحك والسخرية منا.
ولكن لا يجب أن تأخذ هذه المواقف وتبنى عليها قرارات …خلاص يجب أن ندير ظهورنا للعرب …أنت الشمالى العربى المسلم لا خيار لك.
ويوضح الأستاذ الطيب صالح بالمناسبة اذا كنت تبحث عن قضية الهوية، كلمة (هوية) هذه كلمة جديدة فى المعجم وأدخلت حديثا للتضليل
و ليس للتعريف! يضيف، السياسي والمثقف الجنوبي فرانسيس دينق قال لي ذات مرة : يجب عليكم أن تعترفوا أنكم لستم بعرب! .. وأضاف الأستاذ، فى النهاية سوف يآتى من يقول لك هل أنت متأكد من أنك مسلم ؟
لعلي أكتفي مؤقتا بهذا القدر من الاقتباس المطول من حديث الاستاذ الطيب صالح والذي يوضح كيف تأزمت قضية الهوية في السودان الحديث مع تراكم الأخطاء السياسية والمجتمعية التي أفضت  في نهاية الأمر لانفصال جنوب السودان عن شماله بعد صراع مرير أمتد لأكثر من نصف قرن.
وأظنه ضروريا أن نتطرق للظرف التاريخي والمناخ السياسي عبر الحقب المتعاقبة لما له من تأثير كبير في تشكيل الوعي وتشكل عناصر الهوية في السودان .
يمكن القول أن الهوية السودانية تراكمت عناصرها عبر الحقب التاريخية المختلفة على هذه الرقعة من الأرض بمختلف مسمياتها.
 فقد عرفت البلاد في فترة ما قبل الميلاد باسم (كوش ) وهو الاسم الذي ذكر في التوراة  وعرفت أيضا باسم بلاد الأقواس (تاسيتي) مرورا باسم بلاد النوبة (أرض الذهب) في  المصرية القديمة
كما عرفت باسم إثيوبيا في اللغة اليونانية القديمة وتعني بلاد الوجوه المحروقة وشمل اسم إثيوبيا رقعة كبيرة امتدت من ساحل البحر الأحمر إلي غرب أفريقيا.
 لكن بلاشك تراكمت معطيات الحضارة في هذه الأرض عبر حضارات زاهرة على مر العصور في عدة ممالك ودول حيث وفرة الماء في حوض النيل مثل مملكة كرمة  ومملكة مروى؛ ومملكة نبته ، التي تمددت حدودها من شمال السودان، حتي حكمت فلسطين ومصر حتى  ساحل البحر المتوسط.

 إثيوبيا في اللغة اليونانية القديمة وتعني بلاد الوجوه المحروقة وشمل اسم إثيوبيا رقعة كبيرة امتدت من ساحل البحر الأحمر إلي غرب أفريقيا.

وقد عاد تاريخ الملوك الكوشيين للذاكرة العالمية مؤخرا مع  ﻛﺸوفات الآثاري النمساوي ﺍﻟﺒﺮﻭﻓﻴﺴﻮﺭ ﺷﺎﺭﻟﺲ ﺑﻮﻧﻴﺔ الباحث في تاريخ  ﺍﻟﻤﻤﺎﻟﻚ ﺍﻟﻜﻮﺷﻴﺔ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻪ ..
كما ﺻﺪر مؤخرا ﻛﺘﺎﺏ (الفرعون الأخير) لمؤلفه  ﺍﻟﻜﻨﺪﻯ ﻫﻨﺮﻯ أﻭﺑﻴﻦ والذي يحكي قصة إﻧﻘﺎﺫ  الكوشيين ﺑﻘﻴﺎﺩﺓ الملك ﺗﺮﻫﺎﻗﺎ لأﻭﺭﺷﻠﻴﻢ ؛ وهي قصة اثيرة في التاريخ الباكر لليهودية حدثت ﺍﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﺤﺼﺎﺭ ﺍﻵﺷﻮﺭﻯ ﻟﻠﻘﺪﺱ ‏ ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 701 ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩ وذكرت ﻓﻰ العهد القديم ﺳﻔﺮ  ﺣﺰﻗﻴﺎﻝ حيث أنقذ الملك الكوشي ترهاقا أبناء يعقوب من بطش الاشوريين.

أعقب ذلك دخول وانتشار المسيحية و قيام الممالك المسيحية في وادي النيل ؛ مثل ممالك نوباتيا، مملكة المقرة ومملكة علوه؛  في منطقة سوبا جنوب الخرطوم حاليا.
والتي يرجح تأثر هذه الممالك بمملكة أكسوم المسيحية في الحبشة التي قامت علي مذهب القسيس الموحد آريوس الذي انتشر في مصر وأفريقيا وإسبانيا؛  بعد رفضة القاطع لعقيدة الثالوث المقدس،  وفكرة الوهية المسيح التي تبناها مجمع نيقيا الكنسي في عهد قسطنطين الأول عام 325 ميلادية.
 ولعل هذا ما يفسر احتفاء النجاشي بالمسلمين الأوائل و قبول كثير من هذه الشعوب الأريسية الموحدة لدعوة الإسلام لاحقا كما حدث في مصر والأندلس وأفريقيا ومنها السودان .
وقد جاء ذكر القسيس آريوس في رسالة الرسول (ص) الي هرقل عظيم الروم (أسلم، تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين، بمعني إثم اضطهادهم وارغامهم ليقبلوا عقيدة الثالوث).
أعقب ذلك دخول الإسلام صلحا لا فتحا وذلك عبر معاهدة (البقط) بين المسلمين القادمين من مصر، ومملكة المقرة  المسيحية في شمال السودان وذلك بعد فشل جيوش عبدالله بن أبي السرح في دخول السودان حربا.
عقدت الاتفاقية عام 651 م واستمرت لأكثر من 700 عام دخل خلالها الإسلام السودان سلما مع حركة التجارة والبشر عبر شمال السودان.

أن مواقع قيام الممالك الإسلامية الأولي في السودان هي الآن من أكثر المواقع التي يحتدم حولها الصراع السياسي والجدل حول قضية الهوية.

ومع انتشار الإسلام المضطرد في ارجاء البلاد قامت الممالك الإسلامية لاحقا في كل من مملكة تقلي في جنوب كردفان وكذلك مملكة الفور في غرب السودان .

كما قامت السلطنة الزرقاء أو مملكة سنار في النيل الأزرق عبر تحالف كبير بين القبائل العربية من“ العبدلاب ” والأفريقية من الفونج في العام 1504 م وذلك بعيد سقوط الأندلس مما حدا  بالمفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد إلي وصف ميلاد مملكة سنار الإسلامية  بالفردوس الموجود عوضا للمسلمين عن فقدان فردوس الأندلس المفقود.

ولعله من الغريب أن نذكر بحزن أن مواقع قيام الممالك الإسلاميه الأولي في السودان هي الآن من أكثر المواقع التي يحتدم حولها الصراع السياسي والجدل حول قضية الهوية.
سقطت مملكة سنار تحت ضربات جيش الغزو التركي المصري في عهد الخديوي محمد علي والذي ارسل حملته في العام 1821م بحثا عن المال والرجال واعقب ذلك قيام الثورة المهدية في العام 1881 وانضمام كثيرين الي دعوتها لتحرير البلاد وحتي فتح الخرطوم  وطرد المستعمر ولكن اعقب ذلك عودة الاستعمار الانجليزي للانتقام واعادة الاحتلال عبر مصر بما عرف بالحكم الثنائي لستة عقود تم خلالها ضم إقليم جنوب السودان في العام 1870 بينما تم ضم مديرية دارفور بعد الحرب العالمية الأولى في العام 1916.
لم يكن غريبا انتشار الثقافة العربية الإسلامية في بقاع السودان تبعا لقيام الممالك الإسلامية والهجرات المتتالية من البلاد العربية للسودان علاوة علي هجرات بعض القبائل العربية العائدة من الأندلس الي غرب السودان وكذلك هجرات القوافل العابرة من غرب إفريقيا في طريق الحج.

 شكل كل هذا الزخم والتداخل تأصيلا للثقافة العربية الإسلامية في وسط وشمال السودان رغم بقاء بعض المناطق بعيدة عن هذا الانصهار الثقافي.

يعلل البعض عزلة جنوب السودان ومناطق أخري عن التأثر بالثقافة العربية الإسلامية بمحدودية حركة القبائل العربية الرعوية اساسا في المناخ الاستوائي الماطر والذي لا يناسب حياة الرعاة ولا يشبه البيئة الرعوية شبه الصحراوية في شمال السودان والجزيرة العربية.

وقد ذكر البروفيسور عبدالله علي ابراهيم ملاحظة طريفه مفادها ان البعوض يعتبر حشرة ذات حس وطني عال، دافعت عن الأفارقة في وسط القارة لازمان ضد هجمات وتوغل تجار الرقيق الغربيين وحتي اكتشاف الغرب للأدوية في القرن السابع عشر، ويورد الأستاذ كريم طرابلسي
 أن السير رونالد روس  عاد من رحلة استكشافية إلى سيراليون قاد خلالها الطبيب البريطاني الجهود لمكافحة مرض الملاريا الذي قتل العديد من المستعمرين الإنجليز في البلاد.

وعقب عودته في  1899 ألقى روس محاضرة في ليفربول حول تجربته، حيث أعلن بأن “نجاح الإمبريالية في القرن القادم سوف يعتمد إلى حد كبير على النجاح الذي سنحرزه من وراء المجهر و البحث العلمي.
  السير روس، فاز لاحقا بجائزة نوبل للطب بفضل أبحاثه عن الملاريا، لكنه أنكر لاحقا أنه كان يتحدث تحديدا عن دور عمله. لكن مقولتة أوجزت بدقة كيف أن جهود العلماء البريطانيين كانت لا تنفصل عن محاولات حكومتهم الحثيثه لغزو وإخضاع العالم.

رغم كل هذه العوامل الطبيعية والجغرافية وتأثيرها في محدودية التواصل بين اطراف البلد القارة إلا أنه لا يمكن إغفال أسباب وسياسات المستعمر التي عمدت إلي تعزيز عزل جنوب السودان عن شماله بغرض افساح المجال واسعا للنشاط التبشيري عبر مجلس الكنائس العالمي.

فقد أصدرت السلطات الإنجليزية في الحكم الثنائي في العام 1922 قانون المناطق المقفولة والذي يمنع السودانيين الشماليين من الدخول والإقامة في 7 مناطق منها دارفور وجبال النوبة ولاحقا إنحصر القانون علي جنوب السودان إلا بإذن مسبق ومسبب من المستعمر ويمنع إنشاء المدارس العربية بل وحتي في حالة الزواج من امرأة جنوبية يحظر علي الأب الشمالي أخذ أبناءه معه عند عودته إلي شمال السودان.

كذلك تم عزل دارفور وإهمال التنمية ومد الطرق وخطوط السكك الحديدية إليها ربما عقابا لها علي وقوف سلطنة دارفور مع الثورة المهدية وأيضا وقوفها مع الدولة العثمانية المسلمة ضد بريطانيا في الحرب العالمية الأولى.
يتواصل الحديث في المقال الرابع عن  بواكير تشكل الهوية الوطنية بين الثقافي والسياسي

للإطلاع على الجزء الأول والثاني من المقال

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها