الهوية بين الطيب صالح ويوليوس نايريري (1)

الأديب والكاتب السوداني الطيب صالح
الأديب والكاتب السوداني الطيب صالح

تتجلي قضية الهوية في أبرز وجوهها عنفا ودموية في مناطق التماس العربي الأفريقي جنوب الصحراء في بلاد مثل السودان لتعبر عن نفسها بعنف بالغ وحروب مطوله وصدام ثقافي عريض.

الجدل المحموم حول قضية الهوية في غير مكان من عالمنا العربي والأفريقي يكاد يمزق استقرار المجتمعات وأواصر السلم الاجتماعي فيها.

فبينما يتخذ الجدل الصبغة الثقافية ابتداء، إلا أنه ليس من العسير أن نرى تجليات ذلك الجدل ماثلة في عدة أماكن صراعا بل وقتالا دمويا بالمدافع والراجمات الفاتكة ليكون أولي الضحايا في الغالب هم أضعف فئات تلك المجتمعات من الأبرياء قتلا وتشريدا ونزوحا.

كثيرا ما تنادي بعض المجموعات العرقية و الثقافية هنا وهناك وترفع عقيرتها بدعاوى التهميش الثقافي والسياسي، وعرائض المظالم لتطالب بالإنصاف السياسي وبإعادة تعريف نفسها عرقيا أو تاريخيا في قوالب جديده تبدو في كثير من الأحيان مفارقة للهوية الوطنية الجمعية والراسخة منذ نشأة الدولة القومية.

بل وتنادي أحيانا تلك المجموعات  بالعودة الي حقب تاريخية أثيرة لديها دون تحديد واضح وعملي لماهية المطلوبات وشروط العودة المرجوه، ولا كيفية السبيل لإنجازها.

ولعل هذا ما يجعل القضية والمطالب عسيرة علي الفهم والحل خاصة مع تعدد الأطراف المطالبة وعدم انتظامها في نسق جامع.

وهكذا تتمدد المسارات الأفقية والرأاسية المبهمة لهذه السجلات الحادة على امتداد المنطقة العربية الأفريقية.

تتجلي قضية الهوية في أبرز وجوهها عنفا ودموية في مناطق التماس العربي الأفريقي جنوب الصحراء في بلاد مثل السودان  لتعبر عن نفسها بعنف بالغ وحروب مطوله وصدام ثقافي عريض.

 فمن سجالات القضية الكردية شرقا، التي تنتظم أربع دول مرورا  ببلد يعرف  نفسه بمركز العروبة وهو مصر، حيث تبرز فيه قضية الهوية القبطية  وقضايا النوبيين في أقصي الجنوب، وتمتد رقعه السجال إلي دول المغرب العربي حيث تبرز القضية الأمازيغية في دوله في مقابل الثقافة العربية وتداخلات الهوية الفرانكفونية.

 لكن تتجلي قضية الهوية في أبرز وجوهها عنفا ودموية في مناطق التماس العربي الأفريقي جنوب الصحراء في بلاد مثل السودان  لتعبر عن نفسها بعنف بالغ وحروب مطوله وصدام ثقافي عريض.

تتمدد ظلال الظاهرة في السودان شمالا بالنزوع الي التاريخ الكوشي القديم تارة وبالرغبة فى تعزيز الأفريقانية عند البعض تارة أخري .

هكذا تتمدد القضية أفقيا لتشمل بقاع غير قليلة من أقطار أفريقيا والوطن العربي الذي أعيد تسميته خلال العقود المتأخرة ب(الشرق الأوسط) .

الشرق الأوسط

 

يلاحظ أن التمدد الرأسي للقضية داخل كل قطر كثيرا ما يتخذ اشكالا مطلبيه تسعي الي إعادة تشكيل الممارسة السياسية بشكل لا يخلو من تعارض وتصادم مع الانظمة والحكومات القائمة، وبدرجات قد تهدد النظم الاجتماعية والسياسة القائمة وتهدر بذاك الصراع كثيرا من الطاقات والموارد.

ومع استمرار تشكل مجموعات الضغط الثقافي والايدلوجي تتسلل أحيانا إلى شرايينها روافد العمل الايديلوجي والمخابراتي المدعوم من خارج الحدود بما لا يمكن إخفاؤه في كثير من الأحيان وبكل ما قد يحمله هذا التدخل من  اجندات مغايرة لأصالة القضية الوطنية وعدالتها.

بل وبما يمكن أن يحمله من بعض ملامح وأعراض حروب الجيل الرابع على الدول والمجتمعات في أحيان كثيرة.

ولعل تجربة الصراع الايدلوجي والعرقي في السودان عبر ستين عاما تجعلها نموذجا يستحق  التوقف لقراءة أبعاد القضية ومآلاتها، ولهذا السبب ستكون التجربة السودانية هي محور هذه السلسلة من المقالات آملين أن تفتح أبوابا لنقاش قضايا الهوية في كل مكان وأن تستفيد النخب الثقافية والسياسية  من انتكاسات التجربة السودانية واشراقاتها.

ولعلي قبل الاسترسال في الموضوع أعلق علي سؤال جال في ذهني بداية، وهو لماذا يتحمس كاتبا غير متخصص في الخوض في قضية فائقة التعقيد، متعددة الاوجة كقضية الهوية؟.

ربما تكون الإجابة الأقرب قد ذكرت سابقا، وأزيد بأن المخاطر المتعلقه بجدالات الهوية وانفلاتاتها قد جعلت إثارة القضية أقرب لان تكون دعوة حرب على الدولة والمجتمعات وتهديدا حقيقيا لاستقرارها. مما يجعل تناول الظاهرة في تقديري في مقام فرض العين علي كافة المثقفين والمهتمين.

تجربة الصراع الإيدلوجي والعرقي في السودان عبر ستين عاما  تجعلها نموذجا يستحق  التوقف لقراءة أبعاد القضية ومألاتها

وذلك لنقاش الظاهرة و تحجيمها في اطارها ونزع بعض أشواكها ومن ما يهدد السلم الاجتماعي.

ولعلي بهذا الفهم أتجرأ في الخوض في هذه المرافعات عبر هذه السلسلة من المقالات التي قد يلاحظ القارئ لها ميلا مقصودا للاقتباس المباشر عوضا عن إعادة صياغة الفكرة لعدد غير قليل من المثقفين وأصحاب الرأي علي اختلاف زوايا نظرتهم للقضية، وذلك عبر الاقتباسات المطولة التي تتيحها براحات عالم التدوين وكتابة البحوث اكثر منها في مقالات الرأي المحكمة . 

يقول الدكتور محمد المختار الشنقيطي الأكاديمي المعروف:  إن ميل المجتمعات البشرية الغريزي للاحتماء  بالبيئة هو جوهر الحاجة إلى تشكل الهوية الجامعة في مجتمع ما .

ويضيف أن  الهوية قد تكون  صفة ما مشتركة، فطرية كانت مثل العرق أو اللون أو صفة مكتسبة مثل العقيدة واللغة او حتي المواطنة. ويبين الشنقيطي أن الهويات المتعددة تتراكم في الحيز الزماني وتتزاحم في حيز المكان.

بمعني أن سكان مصر مثلا تراكمت هوياتهم الفرعونية ثم القطبية ثم العربية الإسلامية عبر عصور التاريخ المختلفة، بينما في ذات الوقت تتزاحم هذه الهويات وغيرها في ذات الحيز المكاني بمختلف عناصرها ومعطياتها.

الدكتور الشنقيطي، عند تناوله للقضية ينحو بقلمه الي براحات التاريخ الإسلامي باطروحات ونماذج ذاخرة نتطرق لبعضها لاحقا في سياق المقالات، جمع بعضها في كتابه (تراكم الهويات وتزاحمهما)

لكني سوف ابدأ هذه المقالات بعرض أبعاد القضية في الافق الثقافي السوداني عبر قراءة مفصلة بعض الشئ لرؤية مثقف موسوعي المعرفة هو الاستاذ الطيب صالح، رحمه الله.

المثقف والأديب الذي حلق عاليا في فضاءات الأدب العالمي ولكنه ظل طوال حياته مهموما بالقضية وتفاعلاتها وبآثارها  في بلده الام،السودان، علاوة على انه ظل منشغلا بقضية صدام الهويات والحضارات عموما وعبر عن ذلك  في العديد من اعماله الأدبية ومنها روايته الاشهر (موسم الهجرة الى الشمال).

وتكتسب كلمات الطيب صالح أهمية ومصداقية إضافيه في تقديري نظرا لبعده وبراءة طرفه عن الاستقطاب السياسي وبعده عن أهل السلطة المتهمين في نظر كثيرين بالمسؤولية عن سياسات أسهمت وفق كثيرين في إذكاء نار الصراع السياسي في  السودان.

ولعل القارئ يذكر مقال الأستاذ الطيب صالح الشهير (من أين أتي هؤلاء) الذي لم يتردد عبره في التندبد ببعض السياسات وأهلها.

يتواصل المقال وعرض رؤية الأستاذ الطيب صالح في موضوع الهوية عبر المقال رقم 2 وما بعده.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها