يقولون ما لا يفعلون

يقول المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» صدق الله العظيم، والمقت يا سادة هو البغض والكره الشديد بسبب أمر سيء أو سلوك قبيح، وما أدراكم ما هو غضب الله.

والنفاق كل النفاق ادعاء وقول ما لن تفعله أو لم تفعله، فهو نوع من الخداع والمراوغة والنفاق الممهد للخيانة.

بالأمس القريب تلقيت أخبارا، شبه معتادة الآن، عن اعتداءات وحشية من العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين العزل واستشهاد عدد منهم وإصابة عدد كبير، وقبلها بساعات كان حاكم مصر يقف على منصة الأمم المتحدة يتشدق بكلمات فارغة المحتوى عن القضية الفلسطينية ويحث المجتمع الدولي على التدخل لحماية الدولة الفلسطينية، لتقف كل جهوده الإيجابية تجاه الانتهاكات والمذابح اليومية للفلسطينيين عند حد كلمات جوفاء حدودها الكلمات والخطابة، وليست هذه هي الخطورة وإنما الأخطر أن سياسات النظام الحاكم المصري ورأسه تتجه بشكل عملي يوميا إلى دعم العدو الصهيوني وتأمينه باعتباره شريكا وصديقا في تحالف شيطاني تقوده الولايات المتحدة وتدعم فيه الأنظمة العربية الفاشية، مقابل السيطرة على الشعوب وضمان استمرار المشروع الصهيوأمريكي عن طريق زرع دولة إسرائيلية كبرى تهيمن على المنطقة العربية كلها وتتحكم في مقدراتها.

والحقيقة أن الهيمنة على المنطقة العربية وتدمير وحدتها عن طريق التحالف الخائن مع الحكام هو أمر له جذور قديمة، فمنذ عام 1948 ومواقف الحكام العرب متناقضة بشكل واضح مع مواقف الشعوب من القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني، ربما تتقارب بعض الأحيان بفعل الضغوط الشعبية وتتباعد كثيرا بفعل مصالح الحكام وضمان وجودهم في الحكم تحت حماية العدو، إلا أن الشاهد أن مواقف معظم الحكام العرب من هذه القضية كانت لا تخرج عن حدود الخطابة الفارغة وادعاء الوطنية بينما تصرفاتهم في مجملها تصب في صالح العدو.

السلطان والامتيازات

المؤكد أن ارتباك مواقف الحكام حول القضية الفلسطينية والوجود الصهيوني في المنطقة يربك بدوره المشهد كله ويجعل الرؤية ضبابية وغير واضحة، فعلى سبيل المثال كان موقف السلطان العثماني عبد الحميد من وجود امتيازات يهودية في المنطقة موقفا شديد العنف في الرفض، في حين أنه ذاته الذي رضخ وقبل الاحتلال الإنجليزي لمصر وهو الاحتلال الذي دعم الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين وفي المنطقة من ناحية أخرى!، فما بين نهاية القرن الثامن عشر ومداخل القرن التاسع عشر كان اليهودي التركي «قره صو» يمهد لضغوط على السلطان العثماني عبد الحميد للسماح لليهود بامتيازات وتملك أراض في المنطقة مستغلا ضعف الدولة العثمانية والمشاكل والانهيارات الاقتصادية المحيطة بدولة الخلافة، ورغم كل هذه الظروف السلبية والتدهور إلا أن موقف السلطان عبد الحميد كان حاسما قاطعا ثابتا ربما دفع ثمنه بعد ذلك بتعرضه لمؤامرات أطاحت به ولكنه رد يستحق تناوله ببعض من التفاصيل عندما قال «قره صو» للسلطان: «إني قادم مندوباً عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسين مليون ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة، على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين»، فانفعل السلطان على «قره صو» وقال له «اخرج من وجهي يا سافل»، وبعدها توعده «صو» بأن هذا الرفض سيكلفه ممتلكاته شخصيا وبعدها كانت المؤامرات على السلطان، وحاول بعدها اليهودي «تيودر هرتزل» ولكن السلطان العثماني رفض واستمرت المحاولات والضغوط عن طريق حزب الاتحاد والترقي (يهود الدونمة)، الذي مارس ضغوطا على السلطان في تواز مع مؤامرات على عرشه وأصر السلطان على الرفض قائلا: «لقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، ولن أقبل هذا الأمر» وكانت النهاية بالنسبة للسلطان حيث دفع ثمن موقفه بخلعه وإبعاده إلى «سلانيك» بعد مؤامرة قادها اليهود ودفعوا فيها الكثير.

حكام منبطحون

 ويبدو أن هذا كان آخر موقف لحاكم في المنطقة ضد المشروع الصهيوني حيث إن موقف السلطان العثماني لم يكن له أثر إيجابي على الحكام العرب بعد ذلك، بل على العكس كانت له آثاره السلبية التي جعلت معظم الحكام العرب يعملون تحت عقيدة ومبدأ أن الحماية لهم ولعروشهم ومناصبهم مصدرها الصهيونية وحلفاؤها في الغرب حتى لو كان على حساب قمع شعوبهم، وهي الشعوب التي كان دائما موقفها من القضية الفلسطينية والوجود اليهودي في المنطقة أكثر شرفا ووطنية من مواقف الحكام، ومن هنا كان التناقض في المواقف التي تجلت لدى الحكام والأنظمة العربية في مقولات وأقوال جوفاء يدغدغون بها مشاعر شعوبهم الثائرة في حين أن كل مخططاتهم وسياساتهم تصب في مصلحة المشروع الصهيوني.

جدير بالذكر أنه حتى موقف السلطان عبد الحميد كان به بعض من الارتباك والشوائب التي أضرت بالقضية الفلسطينية، فالسلطان عبد الحميد هو نفسه الذي أعلن رفضه للاحتلال الإنجليزي في مصر وهو ما استند إليه عرابي وزملاؤه في المقاومة إلا أنه سرعان ما أصدر بيانا بعصيان عرابي والتمهيد للاحتلال البريطاني لمصر وكان هذا البيان أحد العوامل الرئيسية في انهيار عرابي وانهيار مقاومة الجيش المصري وهزيمته وبدء مرحلة الاحتلال الإنجليزي والذي كان له دور كبير في دعم الدولة الصهيونية في فلسطين

علامات استفهام

وأثناء حرب 1948 كان موقف الحكام العرب يحمل العديد من علامات الاستفهام ولن نقف عند فضيحة الأسلحة الفاسدة في مصر، ففي 18 مارس 1950 نشرت جريدة أخبار اليوم المصرية بالعدد 280 خمس وثائق خطيرة بخط ملك عربي وبخط كبار رجال حكومة الاحتلال الإسرائيلية تثبت أن الملك كان على اتصال باليهود طيلة مدة حرب فلسطين وبعدها، وقد نشرت المطبعة السلفية بالقاهرة مجموع تلك الوثائق تحت عنوان «وثائق خطيرة عن اتصال حاكم عربي باليهود قبل حرب فلسطين عام 1948»، ودلت تلك الوثائق على اتصال الملك الذي كان قائداً أعلى للجيوش العربية واعترافه بإسرائيل في الوقت الذي كان يُقتل فيه الآلاف من أبناء العرب المسلمين برصاص اليهود، وتضمنت مفاوضاته تسليم مناطق كثيرة في فلسطين لليهود والتعهد بوقف الحرب ومنع الجهات الأخرى من القتال كالجبهة العراقية، وتعهد لليهود بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب.

والحقيقة أن مواقف معظم الحكام العرب كان حولها العديد من علامات الاستفهام، بل إن منهم من كانت له مصالح ومشروعات غير معلنة مع الصهاينة وعلاقات لم يتم الكشف عنها إلا بعد قيام أنور السادات بكسر حاجز المقاطعة مع إسرائيل باتفاقية السلام عام 1979م، ومن ذلك التاريخ أصبح موقف معظم الحكام العرب وتبعيتهم للمشروع الصهيوني واضحا بل كانوا يتسابقون نحو إقامة علاقات مع إسرائيل دولة تلو الأخرى.

الرؤى الفردية والخيانة 

لا أريد أن أخوض في منطقية رؤية أنور السادات للسلام مع إسرائيل إلا أنه ومن المؤكد أنها رؤية فردية لم ترجع لرأي الجماعة والمجتمع، ولم تقس الرأي العام ووجهات النظر بشفافية بل استند إلى استفتاءات زائفة، ولهذه الأسباب لم تخرج اتفاقية السادات مع إسرائيل من دائرة الحكم بخيانتها وخيانته، فالنوايا والمعتقدات والحجج الفردية ليست مبررا على الإطلاق لخيانة الموقف الجماعي.

إلا أن حقيقة واحدة ثابتة في هذا الموضوع، وهو أن معظم الحكام العرب مفروضون على شعوبهم، ومن المحال أن يكون حاكما مفروضا على شعبه ويقمع الحريات ويتلاعب بالديمقراطية بعيدا عن خيانة مصالح شعبه الذي لم يختره. هذا هو القول الفصل.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه