يا قضاة مصر لمن الملك اليوم؟!

 

عندما تموت كل المخلوقات بموت ملك الموت يطلع الله تبارك وتعالى إلى الدنيا فيقول: يا دنيا أين أنهارك أين أشجارك وأين عمارك؟ أين الملوك وأبناء الملوك وأين الجبابرة وأبناء الجبابرة؟ أين الذين أكلوا رزقي وتقلبوا في نعمتي وعبدوا غيري، لمن ٱلْمُلْكُ اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيرد الله عز وجل فيقول ٱلْمُلْكُ لله الواحد القهار.

«ٱلْمُلْكُ» حق مطلق يختص به الله نفسه يوم القيامة، ولا يحق لأي كائن مخلوق أن يشاركه فيه، والغرض الذي استقبلته من هذه الحقيقة هو أنه لا مخلوق ولا أي كيان على الأرض له ٱلْمُلْكُ المطلق وله الإرادة والمشيئة التي لا تُناقش أو تُرد، أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا أنه لا ملك مطلقا خارج حدود النقاش والجدل إلا ملك الله، وغير هذا قابل للأخذ والرد والنقاش والشورى، حتى الأنبياء الذين لا ينطقون عن الهوى، تفاعلوا مع قواعد دنيا المخلوقات وأخذوا بالمشورة.

مذبحة الاعتصام السلمي

 وأصارحكم أن هذه الأفكار هاجمت رأسي واستنفرت عقلي بوجدان ملتهب، منذ منتصف اليوم الذي صدر فيه الحكم بإعدام 76 شخص في القضية المعروفة بفض رابعة، واندهاشي لا يتعلق بصدور أحكام الإعدام في حد ذاتها، فهو أمر متكرر منذ استلقاء الجنرال على عرش مصر، وإنما هذه المرة متعلق بطبيعة القضية الصادر فيها الحكم! اعتصام رابعة فاعلية يراها البعض سياسية ويراها البعض مؤامرة من جماعة الإخوان ويراها البعض دفاعا عن الشرعية، لا يتمنى اختلاف الآراء هنا حول طبيعة الاعتصام، وأنا شخصيا لم أشارك فيه ولم أكن متعاطفا معه، وليس مطلوب من أي شخص أن يكون متعاطفا بالضرورة مع أي فعالية جماعية، ما علينا… هو في النهاية اعتصام سلمي حسب ما أكدت كل الشواهد الواضحة والتي لم تخف على أحد سواء كان مؤيدا للاعتصام أم رافضا له، وبغض النظر عن الأقاويل حول تسليح الاعتصام، وهو ما لم تؤكده أي أدلة أو مؤشرات، كان الفض بقسوة وعنف بل وإجرام لا يتناسب إطلاقا مع موضوع وطبيعة الحدث، وراح الآلاف ضحايا لهذا الفض الذي تدثر بحجة حفظ الأمن ولكنه في الحقيقة أقرب لجرائم الحرب.

أكذوبة حصانة القضاء

 المجتمع الدولي لم يعترف بالحروب كمبرر للجرائم البشعة فما بالنا بجرائم ارتكبت لفض اعتصام سلمي. ولم يستح القتلة أو يتواروا، بل فاجأونا بعد خمس سنوات من جريمتهم بمعاقبة عدد من المعتصمين الناجين من المجزرة بالإعدام والسجن مددا طويلة دون التطرق لأي إشارة أو مناقشة لمدى مسؤولية القائمين على الفض عن إزهاق أرواح الآلاف من العزل، ومن هنا مبعث الدهشة، والدهشة الأكبر عندما كنت أتناقش مع أحد «المبرراتية»، فقال: «أنه حكم قضائي فلا بد أنه عدل وليس من حق أحد مناقشة حكم قضائي، هو سلطة مطلقة في ذاتها فوق المناقشة والرد»، وبصرف النظر أيضا عن الرد العامي الشعبي الذي القيته في وجهه إلا أنني توقفت عند هذه المقولة المتكررة، لماذا سلطة القضاء محصنة ضد الاعتراض والمناقشة والنقد؟ وعلى أي أساس صدرت هذه القاعدة ؟ وما هي الدلالات المؤكدة لحتمية عدالة القضاء والقضاة في الأرض؟ الله سبحانه وتعالى أكد لنا أنه لا ملك مطلقا في الكون إلا ملكه فهل يشارك القضاة الله في ملكه؟!الجدل والنقاش والاختلاف سمة لصيقة بالبشر منذ اللحظة الأولى للخلق، جادلت حواء آدم وناقشته، وتحاور آدم مع الشيطان حوارا خاسرا، المولى ذاته صاحب السلطة المطلقة والذي لا يُناقش بما قدر وشاء، أراد بحكمته أنة يُلقن عباده في الدنيا درسا فناقش عبده وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما سأله الخليل «أرني كيف تحيي الموتى» فقال المولى «أو لم تؤمن» فأجاب الخليل» ولكن ليطمئن قلبي»، واستجاب الله له وقدم له الدليل والبرهان ولم يغضب ولم يتهمه بالعصيان ومناقشة أوامر الله، أين انتم أيها القضاة من الله؟!!.

الطبيعة البشرية حرة

 فلنغض الطرف مؤقتا عن العقائد والأديان والإيمان ونحتكم إلى الفكر الإنساني المطلق منذ بدء الخليقة وقبل التوحيد، فالمنطق الإنساني بطبيعته يميل إلى العدل والنقاش والتحقق والاعتراض على الظلم، ولا يؤمن بالسلطة المطلقة لبشري حتى لو ادعى أنه يحكم باسم الإلهة والأرباب. قبل الميلاد وفي الأسرة العاشرة الفرعونية رفع فلاح بسيط رأسه محتجا في وجه الوزير الأول والذي كان مختصا بإقامة العدل، وعند الفراعنة الحاكم ممثل الإله وأحيانا نصف له، ومجرد أن تنظر إليه تصبح عاصيا أو كافرا فما بالك بأن يقوم فلاح بسيط بالاحتجاج على من يقيم العدل. الفلاح الذي ظلمه أحد النبلاء ظلما بينا ضاقت به الدنيا فرفع شكواه للوزير الأول فلم ينصفه فقال له محتجا (أنت يا من نُصبت لتقيم العدل قد تحالفت مع الظالم. والناس تحترمك رغم أنك معتد.لقد نُصبت لتنصف المظلوم ولكن انظر ها أنت تغرقه بيدك)، لم يغضب الوزير مقيم العدل بل فكر في كلمات الفلاح المظلوم وحركت الكلمات مشاعره ورغبته في إقامة العدل فنصف الفلاح، لم يتمسح الوزير الأول مقيم العدل في قيم كاذبة زائفة مثل إهانة القضاء. والحقيقة أن القيم الزائفة والمبادئ الأخلاقية الكاذبة خالية المحتوى، بل والمعايير الدينية كانت دائما ما تستخدم لتبرير ظلم الحكام وبطشهم وفسادهم، وكانت تؤتي أكلها في حالة تدهور الوعي الشعبي وارتباكه، وكثيرا ما رفضتها الشعوب وهي في حالة صعود وطني واستيقاظ وعي…. عندما أراد خورشيد باشا أن يحصل على موافقة المصريين بتوليه حكم مصر بناء على أوامر السلطان العثماني عقب خروج الفرنسيين من مصر عام 1801 حاول أن يفرض شرعية دينية مستندا إلى ما جاء في الآية القرآنية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»، وهو مالم يخدع المصريين الذين كانوا في أعلى مراحل اليقظة والوعي بعد مقاومتهم للفرنسيين ورد عليه السيد عمر مكرم قائلاً: «أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل».، وعلى العكس كان موقف عرابي الذي كان يقود حربا غير متكافئة للدفاع عن الوطن ضد الإنجليز محاطا بالخيانة من الحكام وغيرهم، فما أن أصدر السلطان العثماني عبد الحميد فرمانا بأن «عرابي» عاصيا وخارجا عن طوعه حتى بكى عرابي وانهار وكان الفرمان أحد عوامل انهيار المقاومة واحتلال الإنجليز مصر، ورغم ذلك وبعد انهيار عرابي بسنوات قليلة استمرت المقاومة الشعبية المصرية للاحتلال غير مهتمة بموقف السلطان الجالس على كرسي خليفة المسلمين والذين اعتبروه خائنا وحليفا للمستعمر، ولم تهز مشاعرهم الأكاذيب والسواتر الدينية والعقائدية.

التخفي وراء القيم الأخلاقية

 وفعلها السادات بعد انتفاضة 1977 عندما تكرر حديثه عن أخلاق القرية وكبير العائلة واحترام الكبير، واتخذ من مبدأ احترام الكبير مبررا لإدانة وتجريم أى معارضة له حتى إنه أصدر قانونا باسم «حماية القيم من العيب»، ربما أتت هذه الإجراءات وهذا القانون بثمار مؤقتة حمت النظام من غضبة الشعب على كثير من السياسات والقرارات الاقتصادية، إلا أنها لم تحم السادات نفسه من الاغتيال عقب الغضبة الكبرى التي تلت اتفاقية السلام مع إسرائيل وإجراءات تقييد الحريات في مصر تمهيدا للدخول في مشروعات مشتركة مع إسرائيل والتي هي ممتدة حتى الآن. والحقيقة أن رأس النظام الآن لم يخرج عن منهج التمسك بالملك المطلق الذي لا يقبل نقاشا أو حوارا، مستخدما كل الأدوات التي استخدمها من سبقه من الحكام بل وزيادة حتى إنه كان أول حاكم يستخدم الدموع في خطاباته مع الشعب، كذلك استخدام التعبيرات الأخلاقية والقيمية وكرر كلمات «عيب، مايصحش»، وحاول التحصن بركاكة في الخطاب الديني عندما قال بلا مناسبة «ففهمناها سليمان»في محاولة لإضفاء قدسية على شخصه بينما هو يسير في نفس الخط السياسي الذي يقيم مشروعات كبرى مع أخطر قوة تمثل عداء للوطن. كل هذه الوسائل الكاذبة والخادعة إلى زوال أمام حقيقة واحده وهي أن ٱلْمُلْكُ المطلق لله وحده وغير ذلك قابل للنقاش والأخذ والرد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه