وهكذا أصيب المثقفون بالجنون

يذكر أهل اللاذقية حكاية “نعمان العجيل” المحامي المشهور، الذي فقد عقله في أواسط الثمانينات حيث كان يمشي في شوارع اللاذقية، ويسبّ الرئيس شخصياً، وبصوت مرتفع! لكنّ المخابرات لم تتعرّض له.

 ابتسام تريسي*


“هذا جنون” حكمٌ نطلقه على كلِّ مالا ينضوي داخل منظومة ثقافية أو سياسية ذات أطر موضوعة مسبقاً. بمعنى كلّ ما يخرج عن نطاق مفاهيمنا الثقافية والسياسية الثابتة، والموضوعة بمقاييس “الحكماء والعقلاء” هو جنون.
إذن نحن نستند على الفعل الثقافي المرتبط بحضارة المجتمع للفصل بين ما هو مقبول لأنّه ينتمي “للعقل” وما هو مرفوض لأنّه غير عقلاني. فإذا قلنا إنّ الوسطية هي الفاصل بين العقل والجنون، تصبح كصراط إن لم يستطع المرء المشي عليه بشكل مستقيم، سينحدر حتماً ملتهماً المسافة الفاصلة نحو الجنون.
يتمظهر الجنون في أعنف صوره، بحاكم يطلق النار على شعبه، متجاهلاً العدو على الحدود.  إذا كان المجتمع قد تعارف على منطق الدفاع عن الوطن، والتضحية لأجله بأبنائه، لا التضحية بهم ليبقى الحاكم متشبثاً بالسلطة التي يرمز لها بالكرسي! في هذه الحالة فقط ربما تصل الخيانة مرتبة عليا من الجنون، إذ تذهب بعيداً عن العقل وما تم التعارف عليه. كما يتمظهر الجنون وبشكل مرعب في شرائح اجتماعية ارتضت العيش تحت ظلال كلمة (سيدي) لدرجة أنّها إن فقدت سيداً تبحث عن آخر يستعبدها، إنّه جنون الأمان الذي يصنعه المستبد في عقول بشر يُفترض أنّهم أحرار. أما من يتلوث بجرثومة المعرفة فمآله الجنون حتماً، نذكر أنَّ أحد أهم الضغوطات الذي عانى منها المثقفون في بداية حكم الأسد هي إعطاء السلطة المطلقة للمخابرات بكلّ أفرعها لقمع وقتل أيّ مواطن يحاول التعبير عن رأيه بحريّة. ولم يكن أمام المواطن السوري سوى الصمت والرضى بحياة الذل. لكنّ بعض المثقفين لم يحتملوا تلك السلطة الجائرة، فسقطوا في هوة الجنون. “هذه حرية” نستطيع القول في حالة هؤلاء إنّهم اختاروا أن يكونوا أحراراً.
يذكر أهل اللاذقية حكاية “نعمان العجيل” المحامي المشهور، الذي فقد عقله في أواسط الثمانينات حيث كان يمشي في شوارع اللاذقية، ويسبّ الرئيس شخصياً، وبصوت مرتفع! لكنّ المخابرات لم تتعرّض له، بل جعلوه تسليتهم، وصار الناس يخترعون النكات السياسية وينسبونها إليه. لم يكن ذلك المحامي فاشلاً ولا فقيراً، بل ابن عائلة غنية معروفة في الشيخ ضاهر، ولم يخسر في حياته قضية واحدة.. لكن طاقته الروحية على احتمال القمع كانت محدودة. فأفلت جسده من أسر العقل، وساح في الشوارع ليذكّر الناس بعجزهم وعبوديتهم.
لم يقتصر الجنون على المثقفين الذين لم يتحمّلوا الضغوطات التي مورست عليهم في عهد الأسد الأب، بل طالت الابن أيضاً الذي تثبت تصرفاته مدى الحمق الذي يتمتع به، أليس ما يقوم به في سوريا نوعاً من الجنون؟ وإن كنا في هذه الحالة نتحفظ على كلمة جنون إذ إنّها تعفي صاحبها من تبعات المحاسبة فليس على المجنون حرج، وذلك كي لا نخلط بين ادّعاء الجنون وسفالة العمالة للخارج ، العمالة التي نقلت الخيانة إلى إحدى مراتب الجنون.
وفي مقلب آخر تؤكد السلطة الحاكمة بأمرها، دائماً في تصرفاتها الحمقاء، أنّها سلطة مجنونة.. أليس جنوناً ـ على سبيل المثال ـ قتل أشخاص لمجرد أنّهم لا يحملون تذاكر الدخول إلى الملعب؟
“هذا جنون” الفرنسيون الذين عاملوا المجانين على أنّهم حيوانات في سيرك، وقاموا بتقييدهم وسجنهم، واستعراضهم أمام السياح الانكليز في العصور المظلمة.. هم المجانين. إذ لا يمكن أن ينفصل العقلاني عن الأخلاقي.. العقل هو مخزن الخوف والحذر والمحاكمات الدقيقة، وحين يصل الإنسان إلى المعرفة الكاملة يُطلق لعقله الحريّة الكاملة “هذا ليس جنوناً” وإن رأى ميشيل فوكو في كتابه “تاريخ الجنون” أنّ تلك المعرفة بلا قيمة إذا كان الجنون من يمثلها!
يصنف فوكو الجنون، حيث يرى الجنون العادل منتمياً إلى عالم الأخلاق، وله مهمة سامية هي معاقبة فوضى القلب، من خلال فوضى الذهن. كما أنّ للجنون سلطات أخرى، فالعقاب الذي ينزله بالذهن “يتضاعف من تلقاء نفسه” ويكشف أثناء العقاب عن الحقيقة. عدالة هذا الجنون عدالةٌ حقيقية، لأنّ المتهم (المجنون) يحس أثناء (استيهاماته) بألم العقاب إلى الأبد.
وهذا التشفي الواضح في أقوال فوكو، وتأكيده على أنّ الجنون عقاب أخلاقي استحقه (المجنون).. يبرّر المعاملة التي تلقّاها المجانين في أوروبا عبر التاريخ الذي أرّخ له فوكو.
أحد الأسباب التي تؤدي إلى الحروب هي طموح البرجوازية في إعادة تنظيم العالم البائس.. ممارسات غامضة تقوم بها الدول البرجوازية الكبيرة. تدعم الصراعات الدائرة بيد، وتمد اليد الأخرى بالإغاثة والدعم المادي لإعادة الإعمار، والدعم المعنوي بإعادة التوطين وإيجاد المأوى للاجئين! السوريون في بلاد اللجوء أكبر دليل على الانفصام الذي تعيشه تلك الدول في سياستها الخارجية ومواقفها من الشعوب. ويتبدى الانفصام على أشده في الدعاية الإعلامية التي تبرز الوجه الحضاري والأخلاقي للدول الغربية، وترحيبها باللاجئين في حين تضع القوانين الصارمة التي تحدُّ من اللجوء ليكون مصير الهاربين من القمع معتماً في جوف أسماك المتوسط.
لا، ليس جنوناً ما يجري، إنّها لعبة المصالح الخاصة تحت حماية الأقوى الذي يفرض شرطه على الضعيف الذي لا يستطيع احتمال الحدث، فيفقد قدرته على المحاكمة الدقيقة، وينزلق إلى حيث الأمان، مضحياً بعقله إن كان حرّاً، أو بحريّته وكرامته إن كان قد تعود الخضوع. ولأنّ الاعتراف بذهاب العقل أمرٌ محرج جداً وغير وارد في قواميس البشر، فقد قاربوا بين الجنون والفن وسجلت الذاكرة الشعبية عبارتها الخالدة الجنون فنون!
وظهر الكثير من المبدعين ممن انتهت حياتهم إلى هذه النهاية، لأنّهم عاشوا مأساتهم الخاصة تحت ضغط العقل، ولم يستطيعوا تحمّل قيده. فالعقل هو الذي يقوم بدور الرقيب على الأفكار والسلوك.

 وغالباً ما نجد مبدعاً يرضى بتلك السلطة، وأوّل خطوات التمرد هي الثورة على الرقيب، وبإلغاء وجوده، يضع المبدع قدمه في عالم الحريّة 

______________

*روائية سورية 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه