ومهما كان.. انتِ مصر

مع كل غضب، ومع كل شدة، ومع كل أمل مكسور يؤلم النفوس، أتذكر كلمات صلاح جاهين التي تفوق أي كلام في حب مصر.

(1)

في منتصف حفل مارسيل خليفة على مضيق البوسفور، وفور انتهاء الأوركسترا من عزف سيمفونية الشرق، انطلق هتاف مُنَغَّم من كلمة واحدة مكررة بانتظام كطلقات مدافع الاحتفال: مصر.. مصر.. مصر، كان المنتخب الوطني المصري قد سجل هدفه الثاني في مرمى الكونغو، ليتأهل للمشاركة في كأس العالم بعد غياب طويل استمر 27 عاماً، ربما كان الهتاف مخالفا لتقاليد تنظيم الحفل الموسيقي، لكن العاطفة الجارفة عند المصريين تدفقت في القاعة، وحول بعضهم إعادة ترديد الهتاف لتصويره بهواتفهم ومشاركة الأصدقاء في الفرحة والاحتفال، لكن اللجنة المنظمة انتشرت في القاعة وطلبت التوقف عن الهتاف، لكن صديقي الدكتور (…) أستاذ الإعلام المصري وقف بكبرياء وسط القاعة ليعبر عن غضبه من منع الهتاف، وهتفنا منفردين، لأن الهتاف لم يخالف النظام، فالناس هتفت من مقاعدها ولم تتسبب في أي فوضى، كما أن التعبير عن الفرحة بالتأهل عاطفة وطنية راقية يجب تفهمها بدلا من قمعها، وفجأة تطاول أحد المتهورين موجها كلامه للدكتور: “احترم البلد التي تستضيفكم.. انتو هنا ضيوف فلا تخالفوا النظام”، وزاد غضب الدكتور مؤكدا أن المصريين ليسوا لاجئين، ولا تصح معاملتهم بهذه الطريقة، وانتهى الأمر بتدخل عقلاء وإدانة اللغة التي تحدث به أحد المسؤولين عن القاعة.

(2)

في تلك اللحظة تذكرت ملاحظات صديقة كانت في زيارة سريعة إلى إسطنبول، فدعوتها لحضور مؤتمر “الشباب والمستقبل” ولاحظت الصديقة أن اسم مصر لم يتم ذكره على الإطلاق، حتى أثناء الحديث عن حضارات الشرق، وقد بدأت الملاحظة تنمو في رأسي، حتى تحولت البذرة إلى شجرة عملاقة من الشوك: لماذا يتم إغفال اسم مصر، كما لو أن هناك تحريم متفق عليه؟، وهل الخلاف السياسي مع نظام حكم يدفعنا للتساهل مع مثل هذه الملاحظة التي تجرح الشعور الوطني لأي مصري؟، ولما تابعت الكلمة الطويلة للسيد إبراهيم قالين، وهو مسؤول سياسي بارز ومستشار خاص للرئيس التركي، وتأكد لي تعمده إغفال اسم مصر، نذرت أن أكتب في ذلك، لأن مصر عندي ليست اسما يتم إسقاطه بالنسيان أو التعمد.. أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء.

(3)

مع كل غضب، ومع كل شدة، ومع كل أمل مكسور يؤلم النفوس، أتذكر كلمات صلاح جاهين التي تفوق أي كلام في حب مصر:

“باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب/ وباحبها وهي مرمية جريحة حرب/ على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء/ وأنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء”.

(4)

يا بلادي يا بلادي/ بَحبك يا بلادي / يا مصر بحبك/ بحبك يا مصر

بحبك وقلبي/ مرفرف في جنبي / في لحظة ما أقولك/ بحبك يامصر

بحبك وحبك/ يخضر ربيعي/ يفرح دموعي.. بِحُبك يا مصر

بَحِبك يامصر.. بَحبك يا بلادي

(5)

تابعت أفراح المصريين في الشوارع التي خلت من المتظاهرين المعارضين للتفريط والفساد والخيانات السياسية، واحتشدت بالمهللين لنصر كروي، لكن حب مصر كان أكبر من أي عقل نقدي، بحثت عن أغنية تسكن وجداني كتب كلماتها العزيز الراحل محسن الخياط، وغنتها فايزة أحمد للوطن الذي سكنها قبل أن تسكنه.. البلد الساحر الذي نغضب منه ونلعنه كثيرًا، ثم نخاف عليه ونذوب في حبه وثراه، ونردد مع فايزة أحمد: “ولو خيروني/ أقول يحرموني/ ولو نور عيوني/ واحبك يامصر”.

بحبك يا مصر.. بحبك يابلادي.

(6)

كبرت في حب الوطن، فلم أعُد أطمع في ثروة أو شهرة أو مجد شخصي، عشت حياتي كلها معارضًا عنيدًا على رصيف السلطة، عندما كانت السلطة مغنمًا، تملك ذهب المعز في يد، وسيفه في يد… لم يغرِني الذهب، ولم يرهبني السيف، ظللت أحلم بدولة عدل تنصر الفقراء، وتحترم العمال والفلاحين والكادحين في كل مهنة، تصون الكرامة، وتسعى إلى المجد، ولما استشرى الفساد، وهانت أمور العباد، وضاع ما ضاع، ووصلنا إلى القاع، لم أيأس.. ظللت قابضًا على جمر حلمي، باحثًا عن العدل والخير والعمل والكرامة، لكن الأحلام كانت تبتعد أكثر، الأمل يبهت، الاستقلال يتحول إلى تبعية، الكرامة تتحول إلى سلعة تحت شعار: “معاك قرش تساوي قرش”، العقل يترنح تحت ضربات العبث والغيبيات والخزعبلات، المستقبل ينسحق تحت صراخ اللحظة العشوائية المتعجلة، والوطن يغيب.. يغييييب!، ومن فرط خوفي وبرغم شدة غيظي، ظللت أغني دامع العينين: ولو عشت أفدي.. بكل اللي عندي.. ما أوفي بوعدي.. في حبك يا مصر/ في عمري اللي باقي.. لو أشوفك في شدة.. أكون الفدائي.. في حبك يا مصر.

بحبك يا مصر.. بحبك يا بلادي.

(7)

يسحلونك يا وطني، فأشعر بالجراح تدمي قلبي، يسرقونك فأجوع، يضعون على رأسك إكليل الشوك ويقودونك إلى الجلجلة، فأصرخ: أنا الفداء، ولا أنكرك مهما صاحت الديوك، تغيب فأقتفي آثار نعليك على الأرض السليبة، وأكتب على جبينك يا وطني: “عيش.. حرية.. كرامة إنسانية”، وأغني مع نجاح سلام من كلمات اسماعيل الحبروك: ومهما كان.. انتِ مصر.

بحبك يامصر.. بحبك يا بلادي.   

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه