وقفات مع تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

منذ أعوام ولا تخلو ساحة النقاش العام من طرح موضوع تهنئة المسلمين لغير المسلمين بأعيادهم، والعلاقة مع غير المسلمين بوجه عام، بين من يتشدد فيها، ومن ييسر، ويقف الجمهور العام من المسلمين حائرا بين الفريقين، أيهما صواب، وأيهما خطأ؟ وإن كانت المسألة ما دامت خلافية، فلا يسع كل صاحب رأي إلا أن يحترم رأي المخالف له، دون تعنيف له، أو تشنيع به أو برأيه، أو اتهام له في دينه وعلمه. ولكنا نقف هنا بعض وقفات تضاف لما كتبناه من قبل في موضوع (تهنئة غير المسلمين بأعيادهم)، ولكن من حيث النظرة العامة له.  

أولا:

هذه القضية تحديدا، لم يرد فيها أي نص قرآني أو نبوي مباشر، سواء بالإجازة أو المنع، ولم يرد عن الصحابة كذلك، رغم وجود يهود وغير مسلمين في عهد النبوة، ولو كان الأمر في باب العقيدة، لوجب التوضيح والنص عليها سواء من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة، فلو كانت من قضايا العقيدة كما يتناولها البعض لوجب بيانها، أو الإشارة إليها، فهي إذن قضية تخلو من وجود نص يستند إليه تحريما وإجازة. وإن كان من يجيز لا يحتاج لنص، لأن الأصل في الأشياء الإباحة.

ثانيا:

 حديث من يتحدث في الموضوع، يتكلم عن التهنئة، وهم ما يقع فيه الخلط عند تناول البعض، وبخاصة من يحرمون، فهم يخلطون بين التهنئة، وبين الاحتفال والمشاركة الدينية مع غير المسلم في أمر عقدي تعبدي يخصه، ولذا يغيب كثيرا في النقاش ما يسميه فقهاؤنا: تحرير موضع النزاع، هل النزاع بين المجيزين والمحرمين، حول التهنئة أم حول المشاركة والاحتفال بأعياد غير المسلمين؟ فالجميع لا يختلف في عدم جواز الاحتفال بأعياد غير المسلمين، ولا المشاركة الدينية له في أعياده، ولذا وجب الفصل بين القضيتين.

ثالثا:

 المسألة ليست موضع إجماع، وعلى من يزعم الإجماع أن يدلل عليه، وإلا كيف يتجاسر على مخالفة الإجماع المزعوم كل هؤلاء العلماء الذين أجازوا تهنئة غير المسلم بعيده؟ وهم علماء كبار لا يشك عاقل في دينهم ولا علمهم، وهم كثر وليسوا قلة؟!! والاستناد لنقل ينقله عالم في كتاب يزعم فيه الإجماع فليس دليلا على صحة وقوع الإجماع!

رابعا:

 إطلاق كلمة (حرام) والتشديد فيها، وهي مفردة في التشريع الإسلامي يبنى عليها أحكام، من حيث الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، ليست كلمة هينة يطلقها المسلم بدون بينة، فالحرام في علم أصول الفقه، له ضوابط وشروط، فحتى تخرج فتوى تقول فيها: يحرم كذا، حتى تطلق كلمة حرام على قضية ما، هناك شروط في النص الذي تحرم به، فمن الأصوليين من يشترط في (الحرام) أن يكون نصا قرآنيا، أو حديثا نبويا متواترا، ويختلف الأصوليون في حديث الآحاد هل يثبت به التحريم أم لا، ويفرقون في ذلك بين الفرض والواجب بهذه التفرقة، وإن كان جمهور الأصوليين على عدم التفرقة، لكن الأحناف ومدرستهم يفرقون، وهذا ما لا يتوافر مطلقا في قضية تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، فلا بد من ورود نص صحيح صريح في التحريم، وهو ما لا يجرؤ أحد ممن يحرم أن يجزم به، أو يدعيه، وإلا لسكت من يجيز إذا وجد هذا الدليل.

خامسا:

 البعض يتعامل مع القضية من حيث تدينه هو، ومن حيث بيئته هو، فهو مسلم يعيش بين مسلمين، ومتدين بين متدينين من نفس طبيعة تدينه في الغالب، ولا ينظر إلى أن الإسلام دين عالمي، لم يأت ليحكم بيئة جغرافية، ولا مدة زمنية، فقد كانت الدنيا من قبل تقسم في عرف الفقهاء إلى: دار الإسلام، ودار الحرب، والآن اختلطت هذه التسمية، وهي تسمية ومصطلح لم ينزل بها نص صريح، سواء في التقسيم، أو التسيمة، ومع ذلك أصبحت الدنيا الآن منفتحة على بعضها جغرافيا، وأصبح هناك مسلمون يعيشون في بلاد غربية، بلاد يغلب على أهلها أنهم ليسوا مسلمين، ويكون المسلمون فيها أقلية، وربما تجد مدينة كاملة لا يوجد فيها إلا مسلم واحد، ووجدت حالات مسلمين جدد، يكون فيها الفرد المسلم وحده في عائلة كاملة غير مسلمة، وهو ما جعل الفقهاء المعاصرين يفردون كتبا وبحوثا ومجالس علمية وفقهية تتكلم عن (فقه الأقليات)، وهو ما لم يهتم به كثيرا تراثنا الفقهي من قبل، لأنها كانت حالات قليلة، بينما الآن صار واقعا ملموسا، وحالات متكررة بشكل كبير، مما يجعل الفقيه المسلم يراعي في مثل هذه القضايا أمورا لم يرها الفقهاء القدامى، واعتبارات فقهية لم تكن في مخيال الفقيه المسلم سابقا، ليس لتقصير منه، بل لأنها لم تكون موجودة وملحّة، وهذا ما يفسر تشدد بعض فقهائنا من قبل في مثل هذه المسائل.

سادسا:

 من الواضح أن فقه التعامل مع غير المسلم يحتاج لمراجعة، وقد كنا بدأنا بعض هذه المراجعات، دون أن نكملها، ونحتاج للتأمل في الكتابات التي كتبت في التراث عن أحكام غير المسلمين، تحت باب: أحكام أهل الذمة، أو فصول في كتب الفقه المذهبي. ومثلا كتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم رحمه الله، عليه ملاحظات مهمة، من حيث أصل بنائه لمعظم قضايا الكتاب على نص معين، وهو (العهدة العمرية)، وعليها نقاش كبير، نفرده بمقال إن شاء الله، وهناك قضايا أخرى تغيب عن بعض من يتعامل مع هذه القضايا من خلال كتب التراث، وهو ما نكمل الحديث عنه في مقالات منفصلة إن شاء الله.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه