وطن من لحم

في مثل هذا الظلام الخطر الذي نعيش فيه، تذكرت قصة “بيت من لحم” ليوسف إدريس، وتذكرت تعبيره المكثف في القصة: “الظلام يعم، وفى الظلام تعمى العيون”.

إهداء: إلى يوسف إدريس وهوميروس

(1)

في مثل هذا الظلام الخطر الذي نعيش فيه، عادة ما يفكر الناس في “المصابيح” ويتلمسون بصيصاً من الضوء، لكن أحدهم كان يبحث عن شيء آخر، لأن المصابيح (في رأيه) ستزيد من المخاطر عندما يستخدمها الأعداء كدليل إلى مكان وجودهم، ولما سألوه ساخرين: عن أي شيء تبحث في الظلام أيها المعتوه؟

قال بهدوء: عن آلهة الظلام.. عن الأبطال الخارقين الذين انتصروا على الظلام وجعلوه خادماً لهم.. أبحث عن العميان.

(2)

في مثل هذا الظلام الخطر الذي نعيش فيه، شعرت بالافتقاد لمصابيح مضيئة أتلمس بها طريقي، وكنت أفتش في الكتب، وفي آراء ومواقف المثقفين الكبار في أجيال سابقة، وتذكرت بالأمس يوسف إدريس، وسألت نفسي: ماذا لو كان الكاتب المثير للجدل حياً فاعلاً بيننا في مثل هذه الأيام المظلمة الخطرة؟.. ماذا كان سيكتب في مقاله الأسبوعي الرصين؟، ماذا كان سيكتب في قصصه؟، ماذا كان سيقول في ندواته ولقاءاته الصحفية والإذاعية والتليفزيونية؟، ولما تذكرت أن ذكرى ميلاد إدريس على الأبواب تشجعت أكثر في طرح الأسئلة لعلها توقظه أو توقظ المثقفين من النوم الثقيل، لكن الاسئلة كانت تكبر وتتضخم وتصرخ بأصوات عالية تزيد الظلام خطورة ورهبة، حينها عدت لتذكر العميان باعتبارهم أدلة طريق النجاة.

(3)

تحكى الأساطير عن وجود فترة تسمى “كاوس” سبقت نشأة الحياة في الكون، وكلمة “كاوس” أو “كايوس” تعنى الفوضى، والهيولة، والفراغ المطلق، والظلام الدائم، وقد اعتبرها الإغريق هي الربة الأم، أول الآلهة، السديم الأول الذي نشأ الكون على أساسه، حتى أن الشاعر أوفيديوس عندما عاش مثلنا في مثل هذا الظلام الخطر تفلسف قائلاً: “إن الفوضى هي الأصل.. هي المادة الخام لما صارت عليه الحياة حتى الآن”!، وإذا صدقنا كلام أوفيد بحكم تشابه الحياة في الظلام، فإن هذا يعني أن العلم (كالمصابيح) يوفر رؤية منقوصة  قد تفيد العدو المتربص بنا أكثر ما تفيدنا، لأننا سنمضي في الطريق مكشوفين لرؤيته تحت تهديد ضرباته الموجهة، لهذا استطاع الحدس أن يعيش بالتوازي مع العلم، واستطاع الأعمى في كل الأساطير أن يكون هو العراف الأوثق وصاحب النبوءات، وهو ما عبر عنه الأدب، وعبرت عنه الدراما الحديثة أيضاً، ولعلنا نذكر شخصية الشيخ حسني في رواية “مالك الحزين” وفيلم “الكيت كات”، ونذكر أيضا شخصيات كثيرة في الخيال وفي الواقع تؤكد تفوق العميان على الحياة في الظلام، بينما يشعر المبصرون بوطأة العجز أكثر وأكثر.

(4)

في مثل هذا الظلام الخطر الذي نعيش فيه، تذكرت قصة «بيت من لحم» ليوسف إدريس، وتذكرت تعبيره المكثف في القصة: “الظلام يعم، وفي الظلام تعمى العيون”، العبرة إذن ليست في وجود العيون، العبرة في البيئة التي توجد فيها، فالأم وبناتها الثلاث مبصرات، لكنهن يصبحن أكثر عماء وأكثر صمتا وأكثر هماً من الشيخ الضرير، فالفقر ظلام، والجوع ظلام، والحرمان ظلام، والصمت ظلام، والتواطؤ ظلام، وفي مثل هذه الظلمات الخطرة يصبح من العبث الحديث عن وضوح الرؤية، وفي رأيي أن قصة يوسف إدريس تضعنا مباشرة في قلب المأساة: فالمبصر الذي يتفاخر بامتلاك الرؤية في هذا الظلام الخطر، ويصف نفسه بالحكمة وبأنه “طبيب الفلاسفة” هو في حقيقة الحل والحال “أعمى القلب والعقل والبصيرة” حتى وإن كان يملك عينين، إذ كيف تنفع عيناه في هذا الظلام الخطر.. في زمن الكاوس.. زمن العماء.. زمن الفوضى الأخلاقية.

(5)

في مثل هذا الظلام الخطر الذي نعيش فيه، كما في “قصة بيت من لحم”، لا يفيد المصباح في تلمس الطريق الصحيح، بل يساعد على المضي في طريق الرذيلة،

فالمصباح في البيت تحول إلى علامة للفعل الأثيم، حيث تضع الأم بجواره الخاتم الذي تلبسه ليتعرف عليها زوجها الضرير الجديد، أثناء نومهما في حجرة ضيقة مع بناتها الثلاث، وعندما تلاحظ البنات ما يحدث، ترتديه واحدة منهن فينام معها الأعمى متصورا في البداية أنها الأم، ومن خلال التواطؤ الصامت تدخل البنات القسمة الآثمة مع الأم، ويكتشف “الزوج الأعمى” ما يحدث عن طريق الحدس، لكن للأسف عندما يتأخر الحدس تفقد المعرفة قيمتها بحكم التورط، ويصبح التواطؤ هو الفعل الأنسب للاستمرار، ويصبح الصمت هو المكمل للظلام.

(6)

في مثل هذا الظلام الخطر الذي نعيش فيه، نتحدث كثيراً عن الحلول والمشاريع والمصابيح، ونتحرك ونتصرف كأصحاب رؤية، لكن ظروف الفقر والقهر الذي نعيشه في بيت ضيق مظلم يجعلنا جميعا مجرد مجموعة من الفقراء الجائعين المحرومين، الذين يهتمون بالمصباح ليس من أجل المضي في طريق، لكن كي نستخدمه كعلامة نضع بجوارها “خاتم التواطؤ” لنختلس المتعة المسروقة في الظلام الخطر الذي نعيش فيه، ثم نقول: ليس على الأعمى حرج.

أم على الأعمى حرج؟!

بهذا السؤال أنهى يوسف إدريس قصة “وطن من لحم”

عذراً.. أقصد “بيت من لحم”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه