هل هو صدام حضاري مع الغرب؟

صلاح سليمان*
 
هل نحن في مرحة صدام حضاري مع حضارة الغرب؟، لماذا كل هذا التباعد والنفور؟ ،ألم تلتقي الحضارتين يوما ما؟، ثم
هل يمكن أن ينكر أحداً مساهمة الحضارة العربية في نهضة أوروبا وقت أن كانت غارقة في الظلام؟
 
تدافعت كل هذه الأسئلة في رأسي أثناء مروري بالصدفة في ميدان أحد المدن الصغيرة في أقصي الجنوب الألماني عندما وقعت عيني فجأة علي تمثال لشخص يتوسط الميدان ممسكاً بآلة العود الموسيقية ، بنفس حجمها وشكلها الذي اعتدنا أن نراه مع العوادين العرب المصاحبين للفرق الموسيقية في بلادنا. التمثال كتب علي قاعدته ( صانع العود كسبار تيفنبروكر من 1514 إلي1571) ، وهنا قفز سؤال إلي ذهني مباشرة ـ مالذي أتي بهذا العود إلي هنا ؟
 
في متحف المدينة تتبعت صناعة العود مشاهدةً وبحثاً في الأرشيف ، وخلال تلك الرحلة البحثية عرفت أنه يرجع في الأصل إلي الحضارة العربية في الأندلس، ومنها انتقل إلي يد الصّناع البافاريين، وساعد في وصوله إلي هنا وقوع تلك المدينة الصغيرة ” فوسين” علي نهر الليخ أحد أهم الممرات التجارية القديمة التي ربطت بين العواصم الأوروبية المهمة ، ثم تطور الأمر بعد ذلك حتي أصبحت فوسين أهم مركز لصناعة العود في أوروبا في القرنين 16 و17 ، وفي تلك الفترة دخل الثقافة الأوروبية بشدة وأصبح أهم آلة موسيقية موجودة في حفلات بلاط ملوك وأمراء أوربا .

يذكر التاريخ أن الفضل في إدخال العود إلى الأندلس يرجع إلي زرياب ابن الحسن علي بن نافع المهدي العباسي أحد أهم العازفين علي آله العود في العصر العباسي، وأول من أسس معهد لدراسة الموسيقي في أوروبا تعلم فيه الأوربيون ثقافة العود عزفاً وتلحيناً  حتي انتشر في بلادهم لعدة قرون قبل أن يندثر ويحل محلة الجيتار والبيانو .

قد يبدو الأمر ليس بالجديد عندما نتحدث عن فضل الحضارة العربية الإسلامية علي حضارة الغرب، فالمؤرخين الغربيين هم أول من يعلمون أن المسلمين كانوا منفتحين علي كافة التيارات أثناء وجودهم في الأندلس، ولم يكن هناك تمييز ولا تحيز ضد عرق أو دين، فنهل الجميع من حضارتهم مسيحيين ويهود ،وكان هذا هو سر الإبداع والتفوق ،فكل أمراء ونبلاء أوروبا حجوا إلى الأندلس لتلقي العلم ولم يمنعهم العرب ،حتي أن المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبان كتب عام 1884 عن حضارة العرب بأن التاريخ “لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب” ،وعندما عاد كل هؤلاء من الأندلس إلى بلادهم نشروا العلم والمعرفة التي كانت بداية تباشير عصر النهضة في أوروبا .
 
قبل عدة سنوات قمت بعرض كتاب للإذاعة الألمانية وكان قد ظهر حديثا في ألمانيا بعنوان “فلورنسا وبغداد وتاريخ البصريات” للكاتب والمؤرخ وأستاذ علم البصريات الألماني هانز بليتنج واكتشفت انه يشيد بالحضارة العربية الإسلامية وعلمائها الذين ساهموا عبر نظرياتهم العلمية مساهمة فعالة في حضارة الغرب ،ولولاهم ما تفوق الغرب ،فمثلا الكاميرا التي هي في كل بيت الآن يرجع الفضل في اختراعها إلى نظريات الضوء لابن الهيثم .
لقد تحدث الكتاب عبر صفحاته الثلاثمئة عشر عن العلاقة بين أهم عاصمتين في ذلك الوقت وهما بغداد وفلورنسا وكيف انتقلت المعرفة من بغداد إلى فلورنسا خاصة في مجال الفن والرسم والتصوير،كما تحدث الكتاب بإسهاب عن دور العالم العربي محمد بن الحسن بن الهيثم البصري965م ـ1039م وفضله في تأسيس علم الضوء ودراسة خواصه في صوره الثلاثة الاستقامة والانعكاس والانعطاف ،وكيف أن كتابه المناظر الذي ألفه سنة 1021 م هو أساس علوم  الضوء ،ثم كيف ترجمه الغرب حرفيا وأعطاه عنوانا لاتنيا Perspectiva   بالرغم من أن جميع المتخصصين يعرفون أنه  ترجمة حرفية لكتاب ابن الهيثم الذي جمع فيه كل أسس علم الضوء وعلم العدسات ورسومات تشريحية للعين ، والذي اعتبر في حينه أحد أهم المراجع التي استند إليها علماء الغرب في تطوير تقنيات الضوء وكل ما ترتب عليها فيما بعد من اختراعات بصرية.
 
الحقيقة أنه ليس كل مفكرين الغرب منصفين في ذكر فضل الحضارة العربية، بل إن بعضهم يحاول تجاهلها بشكل متعمد ويرجع تفوق الغرب إلى الحضارة الإغريقية متجاهلا في ذلك الحضارات الأقدم التي ظهرت في مصر وبلاد الشام وحضارة ما بين النهرين ، فمثلاً شيد الأغريق  معبد الأكروبوليس في اليونان حوالي العام 500 قبل الميلاد  فيما كانت حضارة مصر القديمة قد شيدت الأهرامات ومعابد الأقصر قبل ذلك بآلاف السنين  . كذلك فإن علماء الإغريق تعلموا في مصر قبل أن يعودوا إلى بلادهم في القرون الخمسة قبل الميلاد ، وكما هومعروف أيضا فإن فيثاغوروث تعلم في سوريا والعراق قبل أن يصل إلى آسيا الصغرى واليونان.
 
في ألمانيا يعيش الكاتب والمؤرخ السوري سامي عصاصة وهو صديق أعرفه منذ سنوات عديدة ،وكان قد أهداني كتابا قيما عنوانه ثمار الكلام تحدث فيه عن أسباب تفوق حضارة الغرب وكيف بني الغرب تفوقه علي علوم الحضارة العربية وكان دائما يقول لي :ما كان الغرب ليكون متقدما لولا استفادته من حضارة الشرق ومعارفه وعلومه، ولولا أن حكام الغرب استندوا  إلى الحضارة العربية الإسلامية في المشرق وتحصيلهم للعلم في الأندلس الإسلامي المنفتح على كل طلاب العلم لكانوا قد استمروا قروناً إضافية في عصور الظلام .
كان الدكتور عصاصة المثقف البارع يصر دائما علي أن  حكام الغرب قد تفننوا عبر التاريخ في نهب خيرات العالم على مدى ستمائة عام ،حي استطاعوا تأسيس تفوقهم الحاضر الآن على حساب الدول المستضعفة المنهوبة، وذات مرة سألته لماذا تبدو هكذا متحيز ضد الغرب؟: فقال ليس ذلك صحيحا علي الاطلاق، لكن لاتنسي أن الغرب جمع المعارف والثروات من  حوالي 90% من الكرة الأرضية ونقلها إلى بقعة صغيرة أسمها غرب أوربا وبعد أن أصبحت متقدمة حجب معارفه وعلومه عن الآخرين.

بغض النظر عن هذه القراءة في التاريخ ،فإن واقع الحال يقول الآن أن هناك تحيزاً متزايداً ضد العرب والمسلمين يظهر متتابعاً في كل شوارع أوروبا ،وأن العرب في حالة من الضعف لا تمكنهم من الدفاع عن انفسهم ، وشواهد التصادم الحضاري موجودة منذ مدة ويمكن رؤيتها بالفعل ،وإذا لم يفق العرب من كبوتهم سريعا ويبدأون في لم الشمل وأيقاظ حضارتهم فقد يتم الفتك بهم سريعاً وتتداعي حضارتهم ويتم طمس كل معالمها إلي الأبد.

___________________

*كاتب مصري مقيم في ألمانيا
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه