هل تغير الأفاعي أثوابها في الشتاء؟

إنهم يتحركون. يغيرون مواقعهم أو يغيرون مواقفهم وسياساتهم حتى أن الكفر يتحوّل عندهم إلى إيمان فيصير الكفّار إخوة، هناك شيء يحدث في الشرق العربي. لا تتبين لي ملامحه كاملة بعد لكن رياح تغيير تهب ولن أجزم هنا إن كانت رياح لواقح أم رياح أمشير، فتحت الطاولة تختفي دوافع ونوايا وضغوطات أيضا. وحدهم العارفون بالكواليس يعرفون أين يدفعون المنطقة وقد حددوا لها مصائر أخرى بعد أن استنفد الوضع الحالي صلاحيته ولم يعد قابل للاستمرار.

من وقائع هذا التغيير الفجائي زيارة ملك السعودية إلى روسيا، ومنها قبول حركة حماس مصالحة فلسطينية بشروط الحكم العسكري المصري، ومنها تقسيم العراق ومنها هدوء مستراب على الأرض السورية. قد لا تبدو للناظر المتعجل علاقة بين هذه الوقائع ولكن خريطة سياسية جديدة ترسم للمنطقة فما حظ شعوب المنطقة من الخريطة الجديدة، وهل يستعيدون فيها وجودا حقيقيا ليحكموا أرضهم أم سيظلون في الخريطة الجديدة كما كانوا في الخريطة القديمة غرباء في أوطانهم تتلاعب بهم الأيدي الخفية وتسوقهم كالقطعان إلى مراع مجدبة؟

السعودية تنفتح على التحديث؟

بعد طول جمود تهب رياح تغيير على مملكة آل سعود. التيار الليبرالي فيها (أو تيار التحديث) يستبق التيار الأصولي المحافظ ويفرض قواعد اللعب فيخرج النساء من مخادعهن إلى الشارع بل يصل الأمر وبشكل فجائي إلى الرقص المختلط في الشوارع. وهو ما لم يكن يتوقعه حتى أكثر المتفائلين بالتغيير. الملك القادم محمد بن سلمان أو الملك الحقيقي الذي يحكم بالديوان من وراء أبيه يقود عملية التحديث. يكسر المحرمات ويزرع بذور التغيير ولكن أي تغيير؟

لقد كان أمر منع النساء من قيادة السيارات عارا يخجل أي مواطن في دولته. وكان منع الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة مثيرا للسخرية وكانت فتاوى التحريم فقها معاكسا لتيار التقدم الإنساني. ولكن هل يكفي كسر هذه المحرمات وتغيير الفتاوي بين مغرب وعشاء ليقال أن المجتمع قد تجدد؟

لقد أنجز هذا النوع من التحديث الشكلي في بقية البلدان العربية واكتفت هذه البلدان بذلك وتناست أو منعت في الحقيقة مهام تحديثية أخرى أهمها تحديث المؤسسات السياسية وصولا إلى بناء أنظمة مشاركة ديمقراطية يكون فيها المواطن مسؤولا لا رعية. لا يمكن القول إن المجتمعات العربية مجتمعات حديثة سياسية وتغيير أشكال السلوك الفردي لم تنتج تحديثا. ففي البلدان العربية التي فتحت أبوابها للسياحة (مصر وتونس والمغرب ولبنان) مجتمعات تعيش شكل من الحداثة السلوكية؛ ولكنها مجتمعات متخلفة سياسيا بعد بل هي تتردى سياسيا واقتصاديا بقدر الانفتاح السلوكي الذي تحول في بعض مظاهره إلى تجارة الجنس فصارت البلدان السياحية وجهات سياحة جنسية لا تختلف عن تايلاند وبلدان الكاريبي في حين أن مشاركة المواطن في إدارة بلده تساوي صفرا أو ما دونه. فهل يكون التحديث السعودي الجديد مختلفا وقد بدأ فقط بتحرير الرقص في الشوارع؟ من خطط لذلك؟ ولماذا اختار هذا المظهر دون غيره؟ هنا نرى هبوب رياح تغيير لكنها رياح خماسين حارقة لا رياح صبا ندية. من الواضح أن تيار التحديث السعودي لم يقرأ ما يحدث في بلدان عربية تجاوره ولا يريد أن يقرأ. فالتغيير الحقيقي الذي يمس إدارة البلد يزلزل مشروعية الأسرة الحاكمة وهنا يقف التغيير والتحديث وتعود الفتوى.

انفتاح آخر يبدو غريبا ويربك التحليل، ملك السعودية في قلب موسكو. منذ أكثر من سبعين عاما وموسكو كافرة لا تزار بل تحارب في أفغانستان والشيشان وتجيش ضدها جيوش الإسلام العظيم بمال لا يمكن تقديره. وتلمع أسماء القادة المجاهدين وفجأة لحس التكفير وحلت الصداقة وجاء السلاح الكافر ليخزن مع السلاح المؤمن في مخازن الصدأ والعناكب.

تغيير فجائي في السياسة الخارجية هل تفطن قادة المملكة إلى أن تغير الأحلاف مفيد في خلق توازنات محلية هل هو التلويح بالرد على قانون جاستا المعلق كسيف ديمقليدس فوق رأس الملك الجديد؟ هل هو اختراق روسي لمناطق النفوذ الإنجليزي والأمريكي بعد الحرب في سوريا وبعد خسارة المعركة ضد قطر التي وقفت فيها روسيا مع الدولة الصغيرة ضد الشقيقة الكبرى. هل علامة تغيير يعسر رد هذا التوجه إلى استقلال القرار الوطني السيادي فلم نشهد لهذا البلد قرارا مستقلا ذات يوم. ولكنه خطوة عملاقة  في اتجاه تبعية أخرى لا في اتجاه تحرر سيادي فمن العسير على من عاش معتمدا على غيره أن يقرر يوما الاستقلال. إنه تحديث في التبعية بصفقات السلاح يقوده تيار التحديث على خطى التيار المحافظ لا جديد إذن ولكن رياح خماسين.

الفلسطينيون يتصالحون

ريح أخرى تهب بعد طول خصام فلسطيني تعقد اتفاقات صلح بين فتح وحماس بين الضفة وغزة ولكن هذه المرة لا لقاء في مكة ولا في عمان لا الملك عبد الله راعي الحوار ولا مبارك وعمرو سليمان. بل العسكر الانقلابي الذي أعدم الديمقراطية في مصر (104 ملايين ساكن تحت خط الفقر) ليصبح فجأة طيبا في غزة ويقود التصالح الفلسطيني. ماذا جرى للفلسطينيين؟ أو بالأحرى من أمر بفرض الصلح أما السؤال عن مصير السلاح الفلسطيني المقاوم فسيؤجل حتى حين.

لسنا في موضع الاعتراض على شيء من ذلك وإن كانت العواطف تجيش مع السلاح المقاوم بقطع النظر عمن يمسكه ويوجهه إلى صدر الكيان العدو. المصالحة ستجعلنا نرتبك في تسميه الكيان العدو قد لا يكون عدوا بعد أيام قليلة. فهو ليس عدو العسكر المصري راعي المصالحة وللراعي حقوق على رعاياه. نتبين مصدر الريح واتجاهها إنهاء وضع المقاومة فقد حوصرت مصريا حتى لم تعد تتنفس والآن حان موعد الإخضاع هي مصالحة بطعم الاستسلام، هل نزايد على الفلسطيني في أرضه وقضيته فقد حصل اتفاق ذات يوم أن الموقف العربي يقف خلف القرار الفلسطيني وقد قرر الفلسطيني أن يصالح لذلك نقف عند حدود التحليل ولا نقول لهم ما ينبغي. (سنحول التعاطف القديم إلى قصيدة رثاء ونحفظه في ديوان العرب) والآن نحاول فهم ما يجري فقط.

العسكر المصري يبحث عن سبب للبقاء لم يجده في تنمية شعبه ولا في تحريره بل إن وجوده نفسه يقوم ضد وجود الشعب المصري. لقد أُمر العسكر بالانقلاب على الديمقراطية وإعدام الدولة المدنية الناشئة، فلبى الأمر (الجهة الآمرة معروفة للجميع وليست كاترين أشتون إلا الصوت الذي نطق)بعد ذلك توقف عن أن يكون حاكما واكتفى بدور الجلاد فعرفت الجهات الآمرة أن وجوده قد أذن بنهاية لذلك سعى في تقديم خدمة أخرى مصالحة الفلسطينيين بشروط إنهاء المقاومة وهذا سبب جيد لكي يبقى في مكانه بقطع النظر عن قدرة احتمال الشعب المصري.

هذه مهمة تغيير أيضا ولكن في اتجاه مخطط غلق الملف الفلسطيني وإنهاء وجع الرأس الأوربي منه وخاصة وجع الرأس الصهيوني الذي عجز عن تشريع بقائه في أرض ليست له. لكن عندما يذهب الفلسطينيون إليه راغبين في بقائه (تحت تهديد السلاح المصري الذي لا يظهر في الصورة ولا يشير إليه رعاة الصلح) فإنه يصير كيانا من لحم المنطقة ودمها ولا ينظر إليه كجسم سرطاني مؤذ. هذه مهمة كافية ليبقى العسكر في حكم مصر ويضمن تمويلا كافيا لوجبات الفول للمصريين.

هل هو التغيير في المنطقة؟

نعم ويمكن تعداد وقائع أخرى قد لا يتسع لها المقال لكن أي تغيير؟ إنه تغيير في الشكل الخارجي عبر ترتيب أولويات المهتمين بالمنطقة من خارجها لا ترتيب أولويات شعوب المنطقة أي جوهرها الحقيقي الذي يهمه أن يحدث تغيير في العمق تنتج عنه ديمقراطية ومشاركة سياسية وتحرير شامل للأرض المحتلة.

لقد تزامن مع دخول فصل الشتاء لذلك يعسر علينا بلاغيا أن نشبهه بتغيير الأفاعي لأثوابها في أول الصيف ولكن لأنه تغيير قسري مفروض فإنه يحدث أن تجبر الأفاعي على تغيير أثوابها في الشتاء وما نراه الآن هو إجبار أفاعي المنطقة وفي مقدمتها النظام السياسي المتخلف في نجد والحجاز وفي مصر وفي سوريا وفي العراق وفي الأردن على القبول بتغييرات خارجية يكون المستفيد الأول منها الكيان الصهيوني الذي يصير كيانا شرعيا وتفتح له الأبواب بعد طول تظاهر بالخجل من التطبيع.

لقد كانت المنطقة على أبواب تغيير حقيقي سنة 2011 وليس ربيعا كاذبا برياح أمشير القاسية. كانت بداية ربيع لا ينكرها إلا جاهل أحمق خائن وعميل. وعلى من وقف مع العسكر المصري لينهي بواكير الربيع العربي في مهدها أن يخرس نهائيا خاصة في موضوع تحرير الأرض المحتلة الذي عاش مزايدا به على خلق الله منذ سبعين عاما. فهذه الموجة المدفوعة الأجر من التغيير المزيف هي بنت الانقلاب المصري المأمور الذي ركب ظهور المصريين ليبيع أرضهم ويتخلى عن نيلهم ثم يحمل السلاح المصري (سلاح المعونة) على الفلسطيني بعد تجويعه وقطع أوصاله ليجبره على الرضوخ والاستسلام.

نعم التغيير يخترق المنطقة لكن نحو التردي والانهيار. وربما علينا كأمل أخير أن ننتظر نبوءة الشاعر المضطهد.. إن خرابا بالحق بناء بالحق. لننتظر الخراب فالرقص في الشوارع بداية سريعة له.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه