هل تخطت تركيا مرحلة الخطر؟

مر عام على المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري في تركيا، هو العام الأبرز في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام ١٩٢٣م، عام مر على تصدي الشعب التركي لمحاولة الانقلاب الفاشلة ليلة الخامس عشر من يوليو تموز ٢٠١٦، جرت تحت الجسر مياه كثيرة، باتت مرحلة مفصلية يؤرخ بها لما قبلها وبعدها، فتركيا قبل محاولة الانقلاب الفاشلة ليست هي تركيا بعدها، فأربع محاولات سابقة بدأت بعام ١٩٦٠ حتى عام ١٩٩٧ تنوعت فيها الانقلابات ما بين انقلابات خشنة ممهورة بقوة السلاح، ومشفوعة بهدير الدبابات والمجنزرات، إلى انقلابات ناعمة كان العسكر فيها يكتفون بمجرد ” مذكرة” ليفهم الساسة حينها أن عليهم الإذعان ومن ثمّ الرحيل، فعلوها مع سليمان ديميريل عام ١٩٧١ فرحل الرجل دون ضجيج، ثم كرروها مع نجم الدين أربكان عام ١٩٩٧ فلم يقاوم كثيراً ورحل ناوياً العودة في جولة جديدة، لكن ليلة الخامس عشر من يوليو كانت ليلة مختلفة، إذ قرر فيها أردوغان المواجهة داعياً الشعب التركي إلى الدفاع عن حريته وكرامته، مخبراً إياه في مداخلة تليفونية عبر تطبيق فايس تايم أنه سيتواجد في مطار إسطنبول وعلى الشعب أن يسبقه إلى هناك، حينها أدرك الأتراك أن بوسعهم أن يفعلوا شيئاً، وإلا فمصير مصر وسوريا والعراق ينتظرهم دون تردد، ولو ترددوا لحظة، فلربما ضاقت بهم الأرض من حولهم بعد ذلك كلاجئين ومشردين، ولصاروا مثاراً للشفقة كما قال أردوغان، فنزلوا إلى الشوارع ليضعوا نقطة النهاية لفصل الانقلابات.

عام حطمت فيه تركيا تابوهات لم يكن بوسع أحد الاقتراب منها، وليس إخضاعها وتطهيرها، فحركة التطهير التي مازالت مستمرة حتى الآن مدت يدها بعنف داخل المؤسسة العسكرية والقضاء وبقية الوزارات ومفاصل الدولة، لتخرج أحشاء الدولة العميقة المتحالفة مع الفساد إلى العلن، وإعادة هيكلة القوات المسلحة على النحو التالي:

1 – إلحاق قيادات القوات الجوية والبرية والبحرية بوزارة الدفاع بدل هيئة الأركان العامة

2 – توسيع المجلس العسكري الأعلى ليشمل مسؤولين سياسيين ويترأسه رئيس الوزراء

3- إغلاق الكليات والمدارس والمعاهد العسكرية وتأسيس جامعة  الدفاع الوطني

4- لرئيسي الجمهورية والوزراء حق الحصول على معلومات مباشرة عن القيادات العسكرية وإعطاء أوامر لها

5- جميع قادة الجيوش مسؤولون أمام وزير الدفاع مباشرة وليس أمام رئيس الأركان العامة

6- وضع هيئة الاستخبارات التركية العامة وهيئة الأركان العامة تحت سلطة رئيس الجمهورية مباشرة

7- إلحاق جميع المؤسسات العسكرية الطبية بوزارة الصحة بدل قيادة الجيش.

أما القضاة المتورطون في محاولة الانقلاب، فقد تم البدء في اعتقالهم منذ الساعات الأولى التي تلت فشل الانقلاب، بل ومن داخل المحاكم نفسها.

إجراءات غير مسبوقة ولا معهودة كان تبرق رسالة واضحة للداخل والخارج، مفادها أن تركيا مصممة على طي صفحة الانقلابات طيَّاً نهائياً، الأمر الذي أكده أردوغان أكثر من مرة في خطابات موجهة لعموم الأتراك، بأنه لن تقوم للانقلابات قائمة بعد ذلك في تركيا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تمكنت تركيا من تجاوز الخطر وإهالة التراب على عهد الانقلابات؟

مرت مرحلة الخطر ولكن؟

لا يمكن لأي متابع للشأن التركي، أن يقلل من تأثير الإجراءات الوقائية التي لاتزال الحكومة التركية مستمرة فيها في إضعاف بنية الدولة العميقة، التي كانت تتشكل في الماضي من تحالف العسكر والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام ورجال المال والاقتصاد، هذا التحالف تمكن من شلّ حركة تركيا على مدار عقود، وعمد إلى إبقائها حبيسة الدائرة الضيقة التي رسمها لها النظام العالمي، لكن أحد أوجه نجاحات تجربة حزب العدالة والتنمية المتعددة، أنه تمكن بصبر وأناة من تفكيك هذا التحالف، عبر سلسة من الإصلاحات القانونية والدستورية التي كانت تخول للمؤسسة العسكرية التحرك بشكل منفرد حال “استشعارها” خطراً يتهدد الدولة، وهي نصوص فضفاضة مكنت العسكر من التدخل الدائم في الحياة السياسية قبل مجيء العدالة والتنمية إلى الحكم.

وقد انعكست تلك الإجراءات السابقة على انقلاب ١٥ يوليو تموز، إذ افتقد الانقلابيون في بيانهم الأول المبرر القانوني والأخلاقي لتنفيذ انقلابهم، ولم يعد ثمة نصوص تحمي تحركاتهم كما كان في الماضي، تلك الاجراءات استكملها أردوغان وعمد إلى تتويجها بتعديلات دستورية مهمة حولت نظام إدارة الحكم من البرلماني إلى الرئاسي.

أيضاً لا يمكن إغفال الجهود التي بذلتها الحكومة على مدار العام المنصرم في تفكيك بنية التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم فتح الله غولن الرافعة الرئيسية لمحاولة الانقلاب والعقل المدبر له، كما شملت التدابير تنظيمي بي كا كا وداعش.

هذه النجاحات التي حققتها تركيا أضعفت قدرة الانقلابيين على القيام بحركة مضادة للإطاحة بالحكومة المدنية المنتخبة، كما أن تنظيم غولن تكفل قبل سنوات بتوجيه ضربة للضباط الكماليين داخل الجيش، عن طريق الزج بأسماء كثير منهم -وعلى رأسهم رئيس الأركان الأسبق إلكر باشبوغ- في قضية أرجينيكون حيث اتهموا بمحاولة الإطاحة بأردوغان الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء حينها، وقد اتضح بعد عدة سنوات أن القضية ملفقة من قبل التنظيم لفسح المجال أمام عناصره لتولي مناصب قيادية داخل الجيش.

لكن ومع تراجع أسهم الانقلابات العسكرية في تركيا، فإن بقايا هذه التنظيمات تحاول نشر وإشاعة الفوضى في البلاد حيث شهدت تركيا مؤخراً حملة ضارية استهدفت تواجد اللاجئين السوريين في البلاد عن طريق استغلال بعض التصرفات الخاطئة من بعض الشباب السوريين لسكب الزيت على النار، وإشعال الفتنة في البلاد عبر المطالبة بطرد السوريين من تركيا، وكان من الواضح أن الحملة ليست عفوية بل تسير وفق خطط مسبقة، وهو ما استدعى تدخلاً حكومياً للرد على على اتهام السوريين بنشر الجريمة في البلاد حيث أكد وزير الداخلية سليمان صويلو أن نسبة ارتكاب السوريين للجرائم داخل تركيا لا تتجاوز ١.٣٪ ووصل الأمر ذروته في الجريمة البشعة التي شهدتها ولاية سكاريا، إذ أقدم شابان تركيان على اغتصاب لاجئة سورية حامل في شهرها التاسع ثم قتلاها هي ورضيع لها لايتجاوز عمرة عشرة أشهر، ورغم أن الجريمة كانت بدوافع انتقامية على إثر خلاف مالي مع زوجها، إلا أن الحكومة اعتبرتها انعكاساً لحملة الكراهية التي أطلقتها قوى يسارية وعلمانية ضد السوريين.وأحدثت الجريمة تعاطفاً هائلاً لدى الرأي العام التركي مع السوريين، وشهدت سكاريا مسرح الجريمة مظاهرة كبيرة احتشد فيها مئات الأتراك أمام مركز للشرطة بالمدينة يتواجد فيه القاتلان، حيث حاولوا الفتك بهما، كما شهدت جنازة السيدة المغدور بها حضوراً شعبياً ورسمياً كبيراً يتقدمة د. محمد غورماز رئيس الشؤون الدينية بالبلاد.

في موازاة هذه الحملة، نظم زعيم المعارضة كمال كليتشدارأوغلو مسيرة بدأها من أنقرة وصولاً إلى إسطنبول ( يفترض دخولها إلى إسطنبول وقت الانتهاء من المقال) سيراً على الأقدام أطلق عليها مسيرة العدالة احتجاجاً على صدور حكم قضائي بالسجن لمدة خمس وعشرين عاماً بحق القيادي بحزبه أنيس بربرأوغلو على خلفية قضية شاحنات المخابرات، وكان واضحاً أن الأمر يتعدى سجن بربرأوغلو إلى محاولة من جانب حزب الشعب الجمهوري لإحداث حالة من الفوضى داخل الشارع التركي، وقالت الحكومة إن المسيرة تتلقى دعماً من عناصر تنظيمي غولن وبي كا كا، وأحبطت الشرطة في اللحظات الأخيرة هجوماً على المسيرة كان تنظيم داعش قد أعده لدهس المتظاهرين بحافلة وضعوا داخلها أعلاماً لحزب العدالة والتنمية الحاكم، من أجل إشعال الموقف.

هذه الأحداث الأخيرة، لا يمكن فصلها عما تمر به المنطقة وحضور تركيا القوي فيها والذي يزعج دونما شكٍّ قوى إقليمية ودولية، إذ تستعد أنقرة لبدء عملية عسكرية جديدة ضد الميليشيات الكردية في شمال سوريا، وحشدت لها قرابة سبعة آلاف جندي على الحدود، كما ألقت أنقرة بثقلها في الأزمة الخليجية ولم تتردد في إعلان دعمها لقطر، وسارعت إلى إرسال جنودها إلى الدوحة تفعيلاً لاتفاقيات مشتركة بين الجانبين.

ومن هنا فإن خطر الانقلابات وإن كان قد تراجع بدرجة كبيرة، فإن خطر التربص الإقليمي والدولي بتركيا يبقى هو التحدي الأكبر، يضاف إليه التحالف غير المعلن بين تنظيمي غولن وبي كا كا وبين أحزاب سياسية قائمة، ولعل هذا ما دفع الرئيس أردوغان في كلمة له منذ أيام قليلة أمام تجمع لحزب العدالة والتنمية، إلى التأكيد على أن تركيا لن تنسى ما حدث ليلة الخامس عشر من يوليو تموز، وستظل تذكره، داعياً الشعب إلى تجديد نزوله إلى الشوارع والميادين لحماية الديمقراطية، مؤكداً لهم أنه سيكون معهم ولن يتركهم.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه