هكذا الديمقراطية في البرازيل!

هكذا كان الوضع في مصر خلال العام الوحيد الذي أمضاه الرئيس المعزول محمد مرسي، وكبّل نفسه بوعود براقة بحل خمسة ملفات أساسية في مئة يوم فقط

 

اليمينُ الذي يُوصف بأنّه متطرفٌ، أو متشدّدٌ، أو قوميٌّ عنيفٌ، فاز بالرئاسة في البرازيل في جولة انتخابات الإعادة الأحد الماضي.

الضّابط السابق غايير بولسونارو صار رئيساً بنسبة 55% من مجموع الأصوات، وخسر أمامه مرشّح حزب العمال اليساري فرناندو حداد – وهو من أصولٍ لبنانيةٍ، مثل الرئيس الضّعيف المنتهية ولايته ميشال تامر- وحصل على 45%.

حداد كان ظلّاً للرئيس التاريخيّ الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا المسجون حالياً  لمدة 12 عاماً لحصوله على شقة فاخرة في قضية فساد كبرى أطاحت آخرين، والفساد واحدة من القضايا التي تغرق فيها البرازيل، بجانب البطالة، والفوضى، وتردّي الحالة الأمنية، وتعثّر الاقتصاد الثامن عالميّاً، وقد استثمر بولسونارو هذه الملفّات، وقدّم خطاباً صارخاً وشعبوياً بشأنها، ووعد بحلّها جذرياً، وبتحقيق إنجازات مهمة فيها، وهذا جذب إليه شرائح من البرازيليين لم تهتم بكونه يُوصف بالتطرف السياسي، ولا بأنه ضابط سابق، أو حتى معجب بالحقبة الديكتاتورية العسكرية “1964 – 1985″، أو إشادته بجنرالات القمع والتعذيب في بلاده، باعتبارهم رمزاً للسيطرة في مواجهة الفوضى والانفلات، إنما الذي تريده هذه الفئات هو رغيف خبز، وفرصة عمل، وعلاج، ومسكن، والشعور بالأمن في البيت والشارع، وهي مطالب أساسية لدى الجمهور العام في أي بلد في العالم حتى لو كان محكوماً بمستبدّ متوحّش.

معركة المئة يوم

هكذا كان الوضع في مصر خلال العام الوحيد الذي أمضاه الرئيس المعزول محمد مرسي، وكبّل نفسه بوعود براقة بحل خمسة ملفات أساسية في مئة يوم فقط، ومرت الأيام سريعاً ولم تُحل أزمة واحدة منها، وانتهى العام وقد غرقت البلاد في المشاكل والأزمات، ومنها ماهو مفتعل لكسره وتبرير طرده من السلطة، ومنها ما هو إخفاق بسبب طبيعة إدارته للحكم، ولم تُحل المشاكل بعده، ولا في ألف يوم.

كيف سيتصرّف الرئيس البرازيلي الجديد في دولة سكانُها 208 ملايين نسمة، وفيها مئات القضايا المعقّدة التي تنتظر حلولاً عاجلة، لا أعتقد أنه سينجز الكثير إذا ركّز جهده في كيفية التحوّل إلى ديكتاتور بوجه مدني وخلفية عسكرية قديمة، أو اتّجه للقمع لتكميم المعارضة، والأصوات الناقدة له، وهي المخاوف التي سرت لدى دعاة الديمقراطية والحريات في البرازيل وأمريكا اللاتينية والعالم من انتكاس الديمقراطية الناشئة في البرازيل والارتداد إلى فاشية جديدة.

ولا أظنّ أنه سيكون قادراً على الإطاحة بتجربة ديمقراطية عمرُها 33 عاماً اليوم، لأنه جاء عبر صندوق انتخابي، وليس على ظهر دبابة، هناك فارق بين الحالتين، في البرازيل مؤسّسات باتت تؤمن بالديمقراطية، ومجتمع مدني شبّ عن الطوق، وقوى معارضة، وأصوات ناخبة صوتت لخصمه وهي تكاد تقترب ممن صوتوا له، ومثل هذا المجتمع المتنوّع الحي لن يكفر بالديمقراطية، أو يشجع من يريد الإطاحة بها.

والتحوّلات في أمريكا اللاتينية، وفي غيرها من مناطق العالم، من حكم اليسار، إلى اليمين، واليمين المتطرف، هو تفاعل ديمقراطي طبيعي، وتداول سلمي للسلطة، وهو أمر معتاد، هكذا الديمقراطية الشفافة، فهو ليس انقلابات تثير الفزع على حكم القانون والدستور في القارة التي تحرّرت من الطغيان وحكم الجنرالات المرعب.

النهج الديمقراطي سبيلا

والشرق الأوسط، وفي القلب منه المنطقة العربية، لن يخرج من حالته الراهنة، وهي حالة تدمير ذاتي، وإنهاك للدول والشعوب حتى السقوط التام أرضاً دون قيامة، ما لم يعتمد النهج الديمقراطي سبيلاً وحيداً وأخيراً ونهائياً للحكم، الحكم المطلق بكل أشكاله يقود المنطقة منذ استقلالها من سيء إلى أسوأ، وهناك إصرار بالغ من جماعات المصالح الحاكمة القابضة على السلطة والمؤسسات وأصحاب الثروات ألا تفسح طريقاً للإرادة الشعبية والحكم النابع من اختيار شعبي حقيقي ونزيه، وكلها تزعم أنها تدفع بلدانها نحو التنمية والتحديث، لكن مجمل الأوضاع يؤكّد تساقط هذه الادعاءات.

لا قلق من وصول اليمين المتطرف للسلطة في أي بلد طالما توجد ديمقراطية ترسخ قواعدها، وطبيعي في التنافس السياسي السلمي أن يصل المرشح الذي يقنع الجمهور ببرنامجه للحكم كما فعل بولسونارو، منافسه لم يكن جاذباً، ولم يكن مرشحاً أصلاً للرئاسة، اضطر لترشيح نفسه بعد أن قطع القضاء البرازيلي كل الطرق على لولا دا سيلفا في الترشح.

يصعب على الرئيس الجديد الانقلاب على الديمقراطية بسهولة، لن يسمح له البرازيليون أصحاب الديمقراطية الرابعة في العالم بذلك، ولن يتهاون العالم الحر معه، الحالة المصرية كانت لها خصوصية، لم تكن هناك تجربة ديمقراطية حقيقية بعد، كانت مجرد مؤشرات وبوادر، وكانت الجماعة التي تحكم لا تثير ارتياح قطاعات من الشعب، والمؤسسات في الداخل، وفي الإقليم، والعالم، رغم ترحيب خجول بالحكم الجديد، وتم تغطية تغيير النظام، وعزل الرئيس بحشود شعبية، وبقوى المعارضة التي كانت شريكة للسلطة الجديدة في الميدان، وكان المطلب هو انتخابات رئاسية مبكرة، أي مواصلة طريق الديمقراطية، ثم حدث نكوص بعد ذلك عن هذا الطريق.

تعثر اليسار

هل من حقّ اليسار وحده أن يظل يحكم في أمريكا اللاتينية، وليس من حقّ التيارات الأخرى الوصول للسلطة، خاصة إذا كان اليسار ينتقل من النجاح في مرحلة سابقة، ومع زعامات تاريخية، إلى التعثر في الفترة الحالية؟ لأن هناك من يدق نواقيس الخطر من زحف يميني متطرف، وطالما أن آليات التنافس الانتخابي قائمة، فمن حق أي تيار إقناع الناخبين بأجندته، والوصول للحكم، والمتطرفون الزاحفون على السلطة من أوروبا، إلى الولايات المتحدة، وصولاً لأمريكا اللاتينية، يستغلون إخفاقات تيارات اليسار، ويسار الوسط، ويخاطبون احتياجات ومطالب الجمهور، والناس كما تريد الحرية، تريد العيش الكريم أيضاً، لا انفصال بينهما، فهما حاجتان متلازمتان، لا يغني أحدهما عن الآخر، لكن المشكلة عندما يميل شعب إلى الخبز فقط، ويتجاهل حريته، فإنه يكشف عن أزمة في الوعي، وعدم استفادة من تجارب العالم حوله.

طالما هناك مؤسّسات ديمقراطية قوية، وتيارات وقوى سياسية مؤمنة بالديمقراطية ولا تفرط فيها أبداً، أو تنخدع بخطابات القوى المضادة للحريات، فلا قلق من وصول أمثال ترمب للبيت الأبيض في أمريكا، وبولسونارو لرئاسة البرازيل، وتحالف ماتيو سالفيني، ولويجي دي مايو في تشكيل حكومة إيطاليا، ومشاركة هاينز كريستيان شتراخه في الحكومة النمساوية، وغيرهم في بلدان أخرى، وكذلك صعود أحزاب متطرفة، ودخولها برلمانات غالبية دول أوربا، فهؤلاء مدنيون يأتون ويذهبون بالانتخابات، والمؤسسات المؤمنة بالديمقراطية باقية، وتقاوم أي نزعات استبدادية لديهم، وهذا ما يحدث مع ترمب، فالكونغرس العتيد، والدولة العميقة، والإعلام رأس حربة القوى الناعمة، ينجحون في قمع رغباته في أن يكون مستبداً في زي ديمقراطي.

صمام الأمان

انتهت انتخابات البرازيل، وذهب كل مواطن لبيته، وعمله، وحياته، من دون تفجّر كراهية شعبية، أو تحريض مجتمعي، أو قمع سلطوي، أو نشوب صراعات دموية، وسبق وعزل البرلمان البرازيلي الرئيسة المنتمية لحزب العمال ديلما روسيف في 31 من أغسطس/آب 2016 فيما يشبه الانقلاب السياسي – وهي شديدة القرب من لولا دا سيلفا – ولم يتحارب المجتمع، وهذه كلها علامات صحة، وإشارات مطمئنة على نجاعة نهج الحياة السياسية الحرة.

لهذا تبقى الديمقراطية صمام الأمان للأوطان، وأساس الاستقرار للمجتمعات، والباب الوحيد المضمون للنهوض والتحديث.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه