هزيمة التطرف في هولندا .. لكن المعركة مستمرة

حالة من الارتياح في عموم أوربا وخارجها بنتائج الانتخابات التشريعية في هولندا التي انتهت بهزيمة تيار التطرف اليميني القومي بزعامة خيرت فيلدرز أحد أبرز الشعبويين في القارة العجوز.

هى هزيمة في معركة سياسية وفكرية طويلة، لكنها لا تعني نهاية الحرب، ولا زوال الحركات المتطرفة، لا في هولندا، ولا في غيرها، فالحزب زاد خمسة مقاعد عما كانت عليه حصته في البرلمان السابق، صار له اليوم 20 مقعدا، بعد أن كانت 15، أي زاد وزنه داخل البرلمان، وفي الشارع الانتخابيP لكنه فشل في بلوغ الهدف الذي خطط له، وهو الفوز بعدد أكبر من المقاعد، وتصدر نتائج الأحزاب الـ 28 المشاركة في الانتخابات ليتاح له عقد تحالفات، وتشكيل وقيادة الحكومة.

إخفاق المتطرفين

أخفقت استطلاعات الرأي مرة أخرى حيث كانت تضع فيلدرز وحزبه في المقدمة، مثلما أخفقت مع هيلاري كلينتون في أمريكا في انتخابات الرئاسة حيث كانت تؤكد انتصارها بسهولة، لكن إخفاقها في هولندا أفضل مما جرى في أمريكا، حيث خسر متطرف هولندا، وفاز متطرف أمريكا.

كما أخفقت خطط فيلدرز، وتحطمت آماله في طرد المهاجرين، ورفض اللاجئين، وغلق المساجد، ومنع الحجاب والقرآن، والإعداد للخروج من الاتحاد الأوربي، هذه أبرز أهدافه التي يستميل بها جمهوره، وهو نزوع فاشي ونازي، وكأنه يصر على التذكير بماض سيء يعود للحرب العالمية الثانية، إذ بعد احتلال ألمانيا لهولندا ظهر تيار يتبنى نهج الفاشية والنازية وتعامل مع هتلر، وعندما يتحدث الرئيس التركي أردوغان عن فلول الفاشيين والنازيين في هولندا على خلفية الأزمة بين البلدين فإنه لم يكن يتهم من فراغ، فهناك ظل من الحقيقة لما يفعله فيلدرز ورفاقه، وما يفعله نظرائهم في ألمانيا وفرنسا، وفي غيرها من بلدان أوربا التي يضربها فيروس تطرف اليمين القومي، تمر السنوات، وتتغير الأنظمة، وتولد أجيال جديدة، لكن مخاطر الأفكار والممارسات السياسية اللإنسانية والإجرامية التي قادت أوربا والعالم إلى الدمار تطل برأسها رويدا رويدا.

أيضا لم تأت رياح فوز دونالد ترمب – الرمز المهم للشعبوية على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي – برئاسة أمريكا، ولا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي بدفع قوي من القوميين الانعزاليين، ولا الحملات العدوانية المكثفة ضد الإسلام، ولا المغالاة في الحديث عن الإسلاموفوبيا، بالثمرة التي كان يريد فيلدرز قطفها في قيادة حكومة تنقل هولندا من خانة الانفتاح والتسامح والاعتدال إلى خانة الانغلاق والانعزال والفاشية، ولتكون أول بلد أوربي يسقط في حجر الفاشيين الجدد، بعد أشهر قليلة من انتكاسة أمريكا.

المعارضة المزعجة

لكن ذلك لا يعني استسلام المتطرفين في هولندا، حزب الحرية الذي يمثلهم في حالة صعود وهبوط، من 24 مقعدا في برلمان 2010، إلى 15 في 2012 ، إلى 20 في 2017، الحزب سيكون معارضة مزعجة، وأفكاره ستزداد عنصرية، ورفضا للآخر، وإعلان الكراهية الصريحة لكل ما هو مسلم، أفكار وتنظيمات التطرف لا تنتهي، هى موجودة في المجتمعات الإنسانية تاريخيا، تأخذ أشكالا وأسماء مختلفة، وتشهد صعودا وتراجعا، لكن قوتها وتمكنها تكون مرهونة دوما بمدى قدرة العقلاء في العالم على تعزيز التفاهم والحوار، وتقليل مساحات الصراع وإزالة التناقضات بينهم لقطع الطريق على من يريدون جعل العيش على الأرض موحشا، ويسعون لفك الشراكات الإنسانية، وتدمير التعايش السلمي بين بني البشر جميعا، ودق طبول الكراهية والحروب بين الأمم والحضارات والثقافات والأديان.

يلفت الانتباه السعادة الغامرة التي سيطرت على قادة أوربا خاصة في فرنسا وألمانيا اللتين تشهدان انتخابات رئاسية وتشريعية مهمة هذا العام، ويعتري البلدان مخاوف من تحقيق اليمين المتطرف فيهما مكاسب كبيرة تحدث انقلابا في السياسة التقليدية ومنظومات الحكم، ومبعث السعادة أن التصويت الشعبي ضد وصول المتطرفين للحكم في هولندا يقدم مؤشرات شبه مطمئنة لكل من باريس وبرلين بأن اليمين القومي لديهما فقد دفعة معنوية هائلة، وتلقت مساعيه لجذب المترددين إلى جانبه ضربة مؤثرة، مؤشرات نتائج هولندا تدل على أن المزاج الشعبي العام في أوربا لا يرغب في تسليم الحكم للفوضى، كما هو حاصل اليوم في أمريكا تحت الرئاسة الشعبوية لترامب.

اهتمام ميركل وهولاند

أكثر زعيمين في أوربا كانا مهتمين بالانتخابات النيابية في هولندا، وكانا أول المعلقين عليها هما: الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، والمستشارة الألمانية أنغيلاا ميركل، وهولندا تقع في حضن ألمانيا، وهى قريبة جغرافيا من فرنسا، والتأثير والتأثر السياسي المتبادل قائم، الثقافة السياسية في غرب أوربا شبه موحدة، وهنا كان الخوف من تفشي عدوى صعود أحزاب اليمين المتطرف في البلدين للحكم انطلاقا من هولندا، ثم يكون سريانه في بقية بلدان أوربا أمرا شبه مؤكد، فإذا كان الزلزال قادرا على ضرب فرنسا وألمانيا، وهما قاعدتان صلبتان في البناء الأوربي، وقبلهما ضرب بريطانيا بالخروج من الاتحاد، فإن توابعه كفيلة بتهديد بقية الجوانب الضعيفة للبنيان.

هولاند رحب بفوز رئيس الوزراء مارك روته الذي ينتمي إلى يمين الوسط، ويقود حزب “الشعب من أجل الحرية والديمقراطية” الليبرالي، وهنأه بانتصاره الكبير على التطرف، وقال إن قيم الانفتاح واحترام الآخر والإيمان بمستقبل أوربا هو الرد الوحيد على الاندفاعات القومية والانطواء على الذات اللذين يهددان العالم، ووزير خارجيته جان مارك إيرولت هنأ الهولنديين أيضا على وقف صعود اليمين المتطرف.

وميركل قالت إنها سعدت للغاية، واعتبرت أن نتائج الانتخابات في هولندا كانت يوما جيدا لصالح الديمقراطية، وفوزا لمناصري أوربا، وانتصار على الشعبوية .

أما جان أسيلبورن وزير خارجية لوكسمبورغ فكان ينظر للمستقبل حيث اعتبر أن نتيجة هولندا تعد هزيمة للشعبويين اليمينيين في ألمانيا وفرنسا أيضاً، وتظهر بأنه ليس هناك تذكرة دخول مجانية لمن يرغبون في إفساد أوربا، وأن المواطنين لا يرغبون في أن يتم إعادتهم إلى فوضى القرن العشرين. ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أكد أن النتيجة تصويتاً ضد المتطرفين. واعتبر رئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني أن اليمين المناهض للاتحاد الأوربي خسر الانتخابات في هولندا. وقال رئيس البرلمان الأوربي أنطونيو تاجاني إننا رأينا المعاديين لأوربا لم ينجحوا في هولندا.

يتأكد أن الأوربين كانوا قلقين من حدوث مفاجأة في هولندا تقلب موازين القارة، وهم لم يفيقوا بعد من نتائج استفتاء بريطانيا حتى لو كانت النتيجة جاءت لصالح تيار العزلة الداعي لمغادرة الاتحاد الأوربي بفارق محدود عن الرافضين ، خشية مؤسسات الحكم في أوربا من تفكك التنظيم الذي جعل لهم وزنا دوليا، وبالتبعية تهديد تماسك ووحدة القارة ووقوعهم بين ضغوط واستهداف في أقصى الشرق من روسيا الصاعدة المتحفزة، وتهديد في أقصى الغرب من ترامب الشعبوي الذي يتنكر لحلفائه، ويريد تفكيك منظومتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية.

قيمة انتخابات هولندا أنها كانت افتتاحية مطمئنة إلى حد ما لانتخابات مفصلية في أوربا 2017 حيث ستجري انتخابات الرئاسة في فرنسا 23 أبريل، والانتخابات التشريعية في ألمانيا 8 سبتمبر، فهل يكون الفشل قرين مارين لوبان، ويتحطم حلمها في الوصول إلى قصر الإليزيه، ويلحق بها حزب “البديل من أجل ألمانيا” بالإخفاق في دخول البرلمان “البوندستاغ”، أو تحقيق نتائج متواضعة ؟

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه