نور الدين العلوي يكتب: دولة الحد الأدنى

“في بلاد الحد الأدنى” عنوان رواية كتبتها ثم نشرتها تحت حكم بن علي وقد حملتها قناعتي أن الشعب أي شعب إذا فقد طموحه صار قطيعا من السوائم الراضية بتناول علفها المتاح مع حمد الله كثيرا على السلامة إن بقيت لها تحت الدكتاتورية ألْسُنٌ تردد عبارات الحمد. يتبع

*نور الدين العلوي

“في بلاد  الحد الأدنى” عنوان رواية كتبتها ثم نشرتها تحت حكم بن علي وقد حملتها قناعتي أن الشعب أي شعب إذا فقد طموحه صار قطيعا من السوائم الراضية بتناول علفها المتاح مع حمد الله كثيرا على السلامة إن بقيت لها تحت الدكتاتورية ألْسُنٌ تردد عبارات الحمد.

فلّما حدثت الثورة في صف هذا القطيع خجلت من توقعي وقلت لقد أسأت الظن بأهلي إذ يوجد تحت ركام الإحباط جذوة نار قابلة للانفجار وسرت مع الانفجار الشعبي وآمنت وقلت “يمكن” ورددتها بالإنجليزية وبالإسبانية؛ لكني بعد خمس سنوات أقف مذهولا  من قدرة الوقائع على تغيير جلدها والعبث بحدس الروائي. وسأدفع هنا خيالي المتشائم إلى مداه. وأرى الكارثة عيانا فخيالي يجمح إلى خراب سيكون له ضحايا. ولكني سأدعو أن يحفظ الله دولة الحد الأدنى التي أبقت علي أـنفس وأحمد الله على السلامة.

الكابوس

يبدأ الكابوس الذي أراه بعجز الحكومة عن المرور إلى حلول فعلية  للاحتجاج الاجتماعي الذي لا يزال يفاوض الحكومة على حلول هادئة. لقد بدأ الاحتجاج المدني العقلاني المؤسس بطلب الشفافية حول موارد الطاقة وأفلحت الحكومة في ملاعبته وإسكاته ثم كرَّ عليها وهي تراوغ لإعفاء اللصوص مطالبا إياها بمحاسبة المفسدين. فتم اقتسام المسافة أو تأجيل معركة المحاسبة فنجا الفاسدون بعد.

ثم فغرت حفرة التشغيل فاها كشدق غول خرافي من الأساطير800 ألف عاطل يتم تسويفهم منذ أطلقوا ثورتهم تحت شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السّراق”. تبين أن الحكومة مشغولة بسعر الشاي. وجمهور الموظفين يقتنص الزيادات السانحة ويهدد بتخريب كل شيء بواسطة نقابات مرتاحة في مقاهي مكيفة وتسجل مشاهد الوزراء يتبلون أمامها في سراويلهم. والكارثة تتعتق حتى اللحظة.
هذا وصف محايد نسبيا للوقائع لكن ماذا لو انهارت الحكومة والتركيبة الحزبية التي تسندها وانفرط العقد الاجتماعي القائم على الحد الأدنى؟  كثيرون يعتقدون أن هذا الاحتمال غير وارد إلا في خيال مريض؛ فالدولة عريقة ولها مؤسسات ثابتة و جيش وطني سيكون درعا لها في لحظات الاضطراب. لكن للروائي حق دفع الاحتمال إلى مداه دون أن يتوهم أحد أني أخوِّف الناس بالوضع السوري لكي يحتفظ وزراء الشاي بكراسيهم.

 انهيار الإدارة تحت ضربات الشارع

سيقول لي أنصار الأحزاب الحاكمة وخاصة الحزبين الكبيرين الشارع عندنا ولن يفلح (كمشة) من الأطفال في زعزعة المرحلة. فأقول لهم بن علي ظل يعتقد ذلك حتى صباح 14 يناير/كانون الثاني؛ لذلك أنا لا أنصحهم بالانتباه (فهم عقلاء جدا ويفهمون) ولكني أضع هذا الاحتمال في خلفية تخيلي للكابوس التونسي المؤجل بحلول ترقيعية فاقدة للخيال وللشجاعة.

انفجار العنف المؤدي إلى سقوط الإدارة (وهو ما لم يحدث في ينايرّ 2011) هو بوابة نهاية الحكومة ثم انهيار الدولة والدخول في مرحلة فوضى عارمة بعد فقدان السيطرة الأمنية ثم العسكرية على شارع منفلت) لا يحكمها إلا منطق القوة والأنانيات المنفلتة فضلا عن انفتاح بوابات التدخل الخارجي من الجار القريب قبل الطامع البعيد. في الأثناء سينفتح باب الانتقام على مصراعيه. هناك ملفات عالقة. كل تونسي  في كل  موقع لديه بنك أهدافه الخاصة.

النّار الأولى: محرقة التوانسة أفرادا وقرى وأحياء مفقرة ضد رئيس الشعبة التجمعي وقبيلته. ثأر قديم تم  كضمه في أول الثورة فإذا اختفت الدولة فإن التجمعي الذي لم يعتذر ولم يرعو عن إعادة التصويت للنظام القديم سيكون هدفا للمذبحة. هدف جيد للانتقام المقدس.ومن عفا عنه مرة لن يغفر له ثانية. ستكون معارك أهلية صغيرة على المستوى القروي والريفي خاصة ولها سند عائلي وعروشي وقبلي. وستشتعل النار في الممتلكات إذا تعذر الوصول إلى الرقاب.

النار الثانية: الثأر الإسلامي اليساري فالفصيلان مستعدان لمحق بعضها محقا، وبينهما حقد عمره 40 سنة أو يزيد. وإذا كان ساد في المرحلة الانتقالية حديث ديمقراطي علني يسجل المواقف السلمية ويتهم الآخر بالإرهاب إلا أنه في غياب الدولة سيجد أنصار الفصيلين (أو الفصائل لأن الأسماء عديدة) في مواجهة مفتوحة وساعتها سيدعو كل عدده. وستكون مواجهات في شوارع المدن خاصة (ستكون الجامعات مغلقة أو مخربة) ولذلك سينقل القتل والطعن إلى الأحياء والحواري. وسنعثر على كثير من رؤوس الزعماء معلقة في أعواد الكهرباء. لا مجال للهدنة بين اليسار التونسي المتعدد والإسلاميين بمختلف فصائلهم (نهضة وتحرير وسلفية علمية وجهادية). بحكم العدد سيكون الإسلاميون في قوة وبحكم الفقر ليس للإسلاميين وخاصة الشباب السلفي الفقير ما يخسره. وسيتمتع باستعمال سيوفه في رقاب العذل وسيكون عنترة في صفهم.

النار الثالثة: ثأر الشباب السلفي العنيف. لن يكون لديه مجال للدفع بالتي هي أحسن؛ بل سيكون الانتقام  في كل اتجاه كرشاش على قاعدة دوارة أولا حزب النهضة أو جمهور المنافقين الذين وصلوا السلطة ولم يفرضوا دولة الإسلام  لذلك يجب ذبحهم واليسار الكافر لا يستتاب مجرد الاستتابة؛ بل يذبح وينحر ثم جند الطاغوت الذي  ليس له شجاعة حرب الشوارع؛  ولكن يصير فحلا في غرفة التعذيب. كل هؤلاء ضد كل أولئك والسلفي سيعتبر الأمر استشهاديا فلا يتراجع.

النار الرابعة ّ: سيدخل المهربون وتجار الحرب على المشهد وقد جاءتهم الفرصة حتى أيديهم سيملؤون البلد سلعا من الإبرة حتى الصاروخ. وكما في كل فوضى سيكون للمهربين حُمَاتهم من فلول الأمن والجيش، وسيكون للفلول شبكاتهم للاقتصاد الموازي الذي سيكون الاقتصاد الوحيد ثم ندرة السلع والاحتكار ونكوص الفلاحين عن الزرع  وإقفار السوق.

النار الخامسة الجوار الغاضب والخائف على حدوده والمالك لقوته يتدخل وهو حق يمنحه لنفسه (وقد غابت الدولة الجار) ضد الفوضى ليحمي حدوده ثم يتقدم خطوات للمغنم بأسماء كثيرة منها حماية اللاجئين الهاربين من الفوضى وإعالتهم ثم فرض مناطق عازلة ثم السيطرة على مصادر المياه (ما أسهل ما يقطع الماء على العاصمة التونسية من مصادره في سدود الشمال). وقد يتفق مع جهة ماء على اقتسام الجغرافيا.إنها الحرب الأهلية المؤدية إلى الفوضى الشاملة وتقسيم الأوطان.

حتى اللحظة هذه رواية لا ترغب أن تكون واقعية لتنتمي بمزاجها إلى خيال بلا ضوابط. ولكن البلد عرف مثل هذه الفوضى ذات يوم وبقي لمدة قرن ونصف بدون دولة مركزية فأقامت كل مدينة دولتها لحماية مجموعتها الصغيرة بداخلها وتأمين حياة القلة الباقية كان ذلك بعد الزحف الهلالي القادم من المشرق. ولم يتم استعادة شكل مركزي للحكم إلا بتدخل خارجي قادم من المغرب. سنجد لفوضانا أسماء حديثة كثيرة كالصوملة مثلا أو الأفغنة. ولكن سنتوقف عن كتابة التاريخ بقلم رومانسي ملون وندخل في صناعة فصل دام منه نستعمل فيه الفؤوس والسواطير. ثم نكتشف بعد خراب كثير أنه كان لدينا خيار ولم ننتبه.

خيار الحد الأدنى ؟

هل خيار الحد الأدنى من الدولة ومن الحرية ومن التنمية ومن المواطنة خيار حقيقي؟ ومنتج وبناء؟  نحن اللحظة في هذا الخيار وخاصة بعد أن عاد النظام القديم إلى السلطة وأعاد تركيز قوته المالية بيد أصحابها الذين دفعونا سابقا إلى خيار الحد الأدنى من كل شيء جميل. لقد كان بن علي خيار الحد الأدنى وقد خبرنا الخيار وثرنا عليه على أمل الصعود فوق الحد الأدنى وبناء الدولة التي دفعنا ثمنها شهداء. لكن قوة المال المحافظة والرجعية والمتواطئة ضد شعبها أعادتنا إلى مربع السفالات اليومية وفقدنا بوصلة تقدمنا لنبقى نراوح في الحفاظ على القوت وانتظار الموت وهو الحد الأدنى من كل شيء.

هذه الفئة استولت على الدولة وعلى أجهزة الحكم و ووظفتها. قبل الثورة بل حرفت الثورة عن مسارها ودفعت أسوء ما في التونسيين إلى السطح عبر  المطلبية الأنانية فلما تورطت الحكومات المرتجفة في خيار الإبقاء على جهاز الحكم كانت هي المستفيد الوحيد.  فمنعت تطويره وإعادة التموقع  لجني مغانمها مبقية على البقية تحت الحد الأدنى من أسباب الحياة. وهنا سيكون باب جهنم وإن تغابى الجميع.

تدفع هذه الطبقة الناس إلى صورة ما قدمت أعلاه أي النزول تحت الحد الأدنى حيث الدم للركب وانهيار كل شيء ليس لأقدم للقارئ حل كسر العزيمة أقبل بالموجود لكي لا ننزل تحته(احذر الوضع السوري). بل لأقول لبطل رواية شعبية حلمت بكتابتها في الطرقات.

انظر أيها القارئ يوجد احتمال لا يجوز هدره هو الصعود بنفسك وببلدك فوق الحد الأدنى. أيها النازف في الرواية وفي الحقيقة هل يمكنك الآن رؤية من يعوقك عن الصعود؟  
_______________
*أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه