نوبار باشا : الترجمان الذي أفلس الخديو إسماعيل و شوّه القائد إبراهيم

 

نوبار باشا هو النموذج الزاعق للسياسي الذي يُجيد استغلال وظيفته لنفسه ولنفسه فقط ، وليس في المقام الأول فحسب ، وإنما هو يوظف مناصبه لنفسه ، ولا يبذل من نفسه لوظيفته إلا بقدر ما  يتربّحُ منها، وبقدر ما يصعد من خلالها إلى وظيفة أخرى، ليفعل فيها مثل ما فعل في الأولى ، ويظلُّ يُكرّرُ هذا طيلة حياته من دون أن تُعرفَ عنه أية تضحية من أجل موقف مهني أوخلقي ، ومن دون أن يُسجل له أي موقف وطني يرفع من شأن ذكره في التاريخ الموثق أو التاريخ المُتناقل على ألسنة الناس، ومن دون أن يُسهِمَ إسهاماً حقيقياً في تطوير حقيقي لقُدُرات الوطن الذي عمل فيه ، وذلك على الرغم من مُمارسته الإشراف على كثير من الأعمال والمشاريع والإنجازات.

في الأغلب الأعم من أدبياتنا التاريخية تصور قيمة نوبار باشا  على أنه كان أول رئيس للنظار(الوزراء)  في مصر حسب التعريف الرسمي الذي يقتضي أن تشكل نظارة (وزارة) برئيس من بين أعضائها، و كانت قيمته الحقيقية في هذا المنصب تكمن للأسف في أن هذه الوزارة كانت تُسمّى بالوزارة الأوربية بما يدل عليه هذا الاسم من معنيين: الأول أنها شُكّلت بناء على رغبة أو طلب أو قرار من أوربا. و الثاني وهو المشكل أنها ضمّت لأول و آخر مرة وزيرين أوربيين بالفعل مُمثلين للبلدين الذين كانا يُسيطران على مقدرات الأمور الاقتصادية وفاء لحقهما في الديون التي أثقل الخديو إسماعيل (١٨٣٠ ـ ١٨٩٥) بها وطنه وشعبه و نفسه شيئاً فشيئاً طيلة حكمه لمصر (1863 ـ 1879)، وها هو يصل في العام الأخير من حكمه إلى التسليم التام للدائنين ، فيقبل خاضعا خانعا ، وليس مضطرا فحسب ،أمرا من أوربا بتشكيل وزارة ، ويكون على رأس هذه الوزارة ذلك الرجل الذي لا يصلح في المقام الأول إلا أن يكون أداة للمُستعمر ضد الوطن الذي احتضنه وأكرمه ورقّاه وولاّه مسئوليات كثيرة في مقابل أجور كبيرة منظورة وغير منظورة في عهدٍ كانت الأجور المشروعة والمقننة على الوظائف الحكومية أو العامة  عالية جدا بحيث تضمن لمن يتولّاها أن يُصبح من الأثرياء بل من فاحشي الثراء أبد الدهر (هو وورثته) بفضل سنوات قليلة في المناصب العامة.

قيمته الحقيقية

مع هذا فقد كان نوبار باشا سياسيا متربحاً بلا شك ، فالوقائع التاريخية أثبتت هذا مرات عديدة ولم يحم سُمعته وهو في الحكم من الاتهام الصريح بالفساد إلا نجاحه الفذ في تكميمه التام للصحافة، وقد بلغ الغاية القصوى في هذه الممارسة  حتى إنه أوقف صحيفة محايدة أقرب إلى الاستكانة وهي صحيفة الأهرام التي لم توقف إلاَّ في عهده (1884) مع ما هو معروف عن الأهرام من الحيادية والتحفظ ومهادنة السلطة إلى حد النفاق . والحق أنه كان رائداً عالميا (بلا مبالغة) في محاربة الصحافة وتقييد حريتها ، وإليه شخصيا و بطريقة مباشرة (وليس إلى معاونيه)  يُنسب إلغاء عدد من الصحف الوطنية المتميِّزة على مدى سنوات متتابعة.

كان نوبار باشا من أوائل الذين تمثلت فيهم بوضوح حبهم لخصلة الإثراء من المال العام والوظائف العامة، فكان على سبيل المثال مهموماً على الدوام بالعمل الجاد على زيادة ثروته من الأطيان الزراعية التي كانت بمثابة أبرز مخزن للثروة في ذلك الوقت ، وقد سجلت الإحصاءات الشفافة التي كانت متاحة على نطاق واسع في ذلك العصر أن ثروته ما بين 1852 و1875 قد بلغت أكثر من ألفي فدان.

ومما يذكره التاريخ أن محمد علي كان قد بدأ نظام الاقطاعيات فأقطع رجاله 400 ألف فدان وكان نصيب نوبار باشا  من هذه الأفدنة 500 فدان، وقد باع هو نفسه هذه الأرض إلى الوالي عباس باشا ، بجنيهين للفدان، وفيما بعد عقود وبالتحديد في 1890 وصل سعر الفدان من هذه الأرض إلى خمسين جنيها.

كان نوبار باشا  بحكم النشأة و الطبع فرنسي الهوى، ولهذا فإنه لم يكن في البداية على علاقة جيدة بالإنجليز إلا فيما يسمح به الفرنسيون من العلاقات الحسنة مع الإنجليز، لكن الأمر تغير تماما بعد الاحتلال الإنجليزي فأصبح مخلصا للإنجليز بدرجة أقنعتهم به ، وكان الإنجليز يصرحون بما يقولون عنه بكل وضوح من أنه أرمني مقيم في مصر ، وأنه لا يربطه شيء بمصر، بينما كان هو وأنصاره ( ولا يزالون ) يرُدُّون على مثل هذا القول ردوداً ضعيفة من قبيل أن الفلاحين أنفسهم كانوا يقولون إن حكمه أفضل من حكم الإنجليز، وإذا كان هذا هو أقصى دفاع عن نوبار باشا  ، فإنك تستطيع أن تصور درجات الاسوداد في الصورة الانطباعية التي تركها عن نفسه.

أهمية نوبار باشا كرئيس للنظار أو للوزراء

لعل الأمر الذي يُصوّر أهمية نوبار باشا كرئيس للنظار أو للوزراء هو أنه تولّى هذا المنصب ثلاث مرات في ثلاثة عهود مُتتالية فكان رئيساً للوزراء في عهد الخديوالأب إسماعيل (1878 ـ 1779) لأقل من ستة أشهر (28 أغسطس 1878 ـ ٢٣ فبراير ١٨٧٩) ، وكان وهذا هو الأهم رئيساً للوزراء في فترة الذروة من تثبيت الاحتلال البريطاني لأقدامه في مصر عقب فشل ثورة عرابي أي في عهد الخديو الابن توفيق (10 يناير 1884 ـ 9 يونيو 1888) ثم كان رئيساً للوزراء مرة ثالثة في السنة الثالثة من عهد الخديو الحفيد عباس حلمي (15 ابريل 1894 ـ 12 نوفمبر 1995).

في هذه الوزارات الثلاث كان نوبار باشا  فيما بدا لكل المراقبين ، وللمنصفين من المؤرخين من بعدهم ، موظفاً تقليدياً متحفظاً معنياً برغبات الأوربيين في المقام الأول وبرغبات الحاكم في المقام الثاني ، وتصادف أن  كان لقب الحاكم في المرات الثلاث هو الخديو ، وهو اللقب الذي حازه بصفة رسمية ثلاثة من حكام مصر الأب والابن والحفيد، وكان نوبار باشا كما قلنا هو الوحيد الذي قُدر له أن يعمل رئيسا للوزراء مع الخديويين الثلاثة).

مقارنته بأنداده المعاصرين له

ربما يسهل أمر تقييم نوبار باشا من حيث إنه لم يكن فلتة زمانه ولا عبقريا متفردا ، إذا ما ألقينا نظرة سريعة على أربع شخصيات من معاصريه  من كبار الموظفين أو كبار الساسة الرسميين في ذلك العهد، تولى ثلاثة منهم رئاسة الوزارة ، وهؤلاء هم:

الشخصية الأولى : محمد شريف باشا  (1826 ـ 1887) المعروف بأنه أبو الدستور ، وهو في مجمل حياته رجل وطني بل مُفرط في الوطنية إذا ما قورن بنوبار باشا  ، كما أنه أكثر منه ثقافة، ومهنية ، كما أن حياته حافلة بالمواقف المشرقة المنتصرة لكرامة الشخصية والوطنية وللحق ، وقد رأس الوزارة أربع مرات:

  • الأولى :  7ابريل 1879 ـ 5 يوليو 1879
  • الثانية : لأربعة وأربعين يوماً من 5 يوليو 1879 وحتى 18 أغسطس 1879
  • الثالثة : من 14 سبتمبر 1881 ـ 4 فبراير 1882
  • الرابعة : من 21 أغسطس 1882 وحتى فبراير 1884.

ونحن نلاحظ أن نوبار باشا  كان هو الذي خلف شريف باشا  في وزارته الرابعة ليُنفذ للبريطانيين ما رفض شريف باشا  أن يُنفذه لهم ، على حين آثر شريف باشا  اعتزال السياسة والمناصب العامة أما نوبار باشا  فقد استمر في السياسة بعد ذلك 10 سنوات ولم يتركها إلّاَ قبيل وفاته.

كما نلاحظ أن وزارات شريف باشا  الأربع  كانت جميعا ما بين وزارتي نوبار الأولى والثانية .

الشخصية الثانية : مصطفى رياض باشا  (1834 ـ 1910) وهو على وجه العموم (رغم أنه أصغر من نوبار بعقد كامل) أكفأ من نوبار باشا  في الإدارة وأكثر اشتباكاً بالحياة العامة، وصاحب رأي حتى إن لم يكن رأيه سديداً، كما أنه كان صاحب همة في الإصلاحات الوطنية والإدارية، ويكفينا أنه كان هو الذي مكن للشيخ محمد عبده و أقرانه ، ولكثير من ضروب الإصلاح والتطوير في التعليم والخدمات على وجه العموم .

الشخصية الثالثة : إسماعيل راغب باشا  (١٨١٩- ١٨٨٥) الذي كان بالمعايير العلمية أول محاسب يصل لرياسة الوزارة ، كما أنه كان أول رئيس للبرلمان المصري، صحيح أنه لم يصل إلى رياسة الوزارة إلا بعد ثلاث سنوات من وصول نوبار إليها ، لكنه في الأمور المالية والمحاسبية كان أكفأ من نوبار ، وأكثر مهنية والتزاما بالقواعد المحاسبية والمالية  كما أنه كان أكثر وطنية و حبا للحياة الدستورية ، على الرغم من خروجه في النهاية على عرابي ، لكنه على وجه العموم والخصوص لم يكن يتمتع بما كان نوبار باشا يتمتع به من رعاية الأوربيين . 

الشخصية الثالثة : علي مبارك باشا  (1823 ـ 1883) وهو نموذج للتكنوقراطي المتميزالحقيقي فضلا عن أنه صاحب رؤية ، فهو المهندس ورجل الإصلاح والعمران والمعارف ، ولهذا فإنه كما نعرف من تاريخنا في ظل الأوتوقراطية كان أكبر من  أن يصل كالأربعة الآخرين (نوبار باشا  وشريف باشا ورياض باشا  وراغب باشا ) إلى رئاسة الوزارة ولا إلى تكرار هذا الوصول ، وإنما كان على الدوام وزيراً للوزارات الهندسية والتعليمية والفنية ، وكان بما أنجز زعيماً حقيقياً من زعماء الإصلاح الحضاري والتعليمي ، ومن الطريف أنه كان على خلاف الأربعة الآخرين (نوبار و شريف ورياض و راغب ) مصرياً قُحّاً و فلاحاً معروف الأصل والنسب ، ولم يكن مثل نوبار باشا  ولا شريف مولوداً في أزمير ، ولا مثل رياض الذي تذهب بعض الروايات إلى انه يهودي الأصل ، ولا مثل راغب باشا المولود في بلاد المورة باليونان ،  وإنما كان على  مبارك مولوداً في قرية من قرى إقليم الدقهلية هي قرية برينبال الجديدة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن رؤساء الوزارة التالين مصطفى فهمي (1840 ـ 1914) وحسين فخري (1843 ـ 1920) وبطرس غالي ( 1846 ـ 1910) كانوا من جيل آخر تال لهذا الجيل  ، وفيما بين هذين الجيلين ولد الشاعر الفنان الأديب المفكر الذي سبق الثلاثة الأواخر إلى المناصب العليا كما أنه كان أكثر رؤساء الوزارة في ذلك العهد ثقافة و جندية وموهبة ومهارة وحماسة وكرامة وهو الشاعر العبقري الفذ محمود سامي البارودي (1839 ـ 1904) والذي كان قائداً لأحمد عرابي (1841 ـ 1911).

كان بمثابة اختيار غربي لمصر

هكذا يتستبين  لنا بكل بوضوح أن نوبار باشا لم يكن المتعلم الوحيد ولا المؤهل الوحيد ولا الإداري الوحيد في عصره، ولكنه كان يتميّز عن معاصريه جميعاً بصلته العميقة و الخفية بأصحاب النفوذ الأوربي الذين كانوا يسعون بحكم نفوذهم الخارجي و قدرتهم على التمويل بالإقراض إلى وضع من يثقون بهم في المواقع التي تعود عليهم وعلى دولهم بالنفع قبل أن تعود بالفائدة على مصر أو شعب مصر أو خطط تنمية مصر، ولا يعني هذا بالطبع أن نوبار باشا  كان عميلا ، أو عديم الوطنية، كما أنه لا يعني أن نوبار باشا كان يخلو من كفاءة أو أنه كان سيّء التصرُف على طول الخط، لكنه بكلّ تأكيد (وباختصار شديد) لم يكن صافي الوطنية لا منبعاً ولا عطاء ،  بيد أنه بكل تأكيد لم يهبط إلى الدرك الذي هبط إليه بطرس غالي ومن تبعوه.

وأخيرا فإنه إذا جاز أن ترسم مقياس طيف للون رؤساء الوزارة في التبعية للاحتلال فإن نوبار باشا يأتي إلى أقصى اليسار من هذا المطياف متفوّقاً بهذه على كلِّ رؤساء الوزراء  بلا استثناء .

ماذا كان وراء  صعوده

في تاريخ نوبار باشا  المكتوب أخطاء واختلافات يعود بعضها إلى اختلاف اللغات أو عدم التحقق من الأسماء ، فمن الطريف على سبيل المثال أن مدينة إزمير التركية لها اسم في اليونانية هو سيمرنا، وهكذا تجد من يكتب إنه ولد في سيمرنا ثم انتقل إلى إزمير ، وتجد من يحلُّ المشكل بأن يقول في سيمرنا القريبة من إزمير ، أو التابعة لها.. والحقيقة أبسط من هذا كله وهي أن إزمير بالتركية هي نفسها سيمرنا باليونانية، مثل لندن ولوندرة، والقاهرة وكايرو، والنمسا وأوستريا.. الخ.

الخطأ الثاني يتعلق بعلاقته براعيه الأول باغوص يوسوفيان فبعض المصادر تذكر أنه عمه، والمصادر الأخرى تذكر أنه خاله، والسبب بسيط ومعروف وهو أن اللفظ الإنجليزي Uncle مشترك بين العم والخال وهنا أذكر طرفة جميلة وهي أن أبناء إحدى العائلات كانوا يُنادون عمهم بأنه عمهم ويُنادون خالهم على أنه أونكل، وهكذا كان التفريق سهلاً على تلك العائلة.

كان راعي نوبار باشا  الذي يعد بمثابة خاله وهو بوغوص بك يوسفيان (1775 ـ 1844) أول مسيحي يحصل على رتبة البكوية في مصر ، وقد ولد في إزمير وعمل في حكومات الدولة العثمانية في الجمارك والدبلوماسية ثم استأثر به محمد علي باشا والى مصر ، وأصبح  مع مضي الزمن بمثابة الوزير المسئول عن تجارة مصر الخارجية في عهد محمد علي.

كانت هذه القرابة ببوغوص يوسيفيان كفيلة ببداية قوية لنوبار باشا لكنها لم تكن تكفل له بالطبع كل هذا الصعود الذي حققه ،وهنا ننبه إلى أن خطوة مهمة و حظوة أخطر ساعدت نوبار باشا على إنجاز صعوده السياسي كانت هي زواجه من السيدة فوليك ابنة عائلة إيراميان التركية الأرمنية التي كانت تعيش في إسطنبول، وكان لهذه العائلة  شأن في عاصمة الخلافة ،  ومن خلال حميه ، وعائلته ، تمكن نوبار باشا  من كثير من النجاحات التي كان مطلوباً من أن يُحققها للخديو إسماعيل عند الباب العالي.

نشأته وتعليمه

ولد نوبار باشا في إزمير في مطلع عام 1825 وإن كنت أشك في أن يكون هذا التاريخ صحيحاً تماما وإن كان جائزا تقريبيا ،  ويأتي شكي لأكثر من سبب، منها أنه في كثير من الروايات المنقولة عنه يقول إنه زامل نابليون الثالث في دراسة من الدراسات المبكرة، في مدينة جنيف السويسرية، ونابليون الثالث مولود في 1808 ،  ومن هذه الأسباب  أنه أصبح موظفا مصرياً في باريس 1842 ومن الصعب تصور أن تختار مصر في ذلك الوقت موظفاً لم يتعد 17 عاماً (مهما كان أبوه وخاله ) ليكون مسؤولاً عن شأن من شؤونها مع الأجانب مهما كانت كفايته ونبوغه.

على كلّ الأحوال فقد ارتبط وجود نوبار باشا بباريس (إلى حد ظاهري وليس حقيقيا ) بوراثة والده في مهمته التي كان محمد علي قد أوفده من أجلها فقد كان أبوه مجرديتش نوباريان بمثابة متحدث باسم محمد علي في الأناضول يتولى تبرير حملة إبراهيم باشا  على سوريا (1831 ـ 1833) وبحلول 1839 انتقل ليؤدي هذه الوظيفة في باريس وفيها توفي قبل أن يُجيب طلب الحكومة المصرية بعودته إلى مصر.

وكان نوبار باشا  قد بدأ دراسته الأولية في جنيف السويسرية، وكانت كما نعرف وكما لا تزال فرنسية الثقافة والتعليم، أما دراسته الفرنسية التي توازي الابتدائية المصرية القديمة ( ولا تزيد عنها بأي حال من الأحوال ) فقد أتمها مابين ١٨٣٦ و ١٨٤٠ في سويريز بالقرب من مدينة تولوز الفرنسية .

الفرق بين ثلاث شخصيات : بوغوص ونوبار وبوغوص نوبار

وفد نوبار باشا  إلى القاهرة مدعوماً  كما أشرنا  بمركز من كان بمثابة خال له و هو بوغوص بك يوسفيان، الذي كان قد وصل إلى أعلى بكثير مما وصل إليه والده، فقد كان بمثابة وزير للتجارة أو وزير للتجارة الخارجية في حكومة محمد علي، ومن الطبيعي أن نوبار باشا ،  فيما بعد و حين رزق ذرية ، سمّى ابنه باسم قريبه هذا أو خاله، أي بوغوص ، لكن الطريف في الأمر أن هذه التسمية جعلت بعض المؤرخين يُخطئون في التمييز بين نوبار باشا  نفسه وبوغوص نوبار باشا الذي هو ابنه ، وجعلت بعضا آخر يخلط بين نوبار وخاله .

نبدأ بالتنبيه إلى أن كثيراً من المصادر المُتاحة الآن تتحدث عن نوبار باشا  نفسه باسم بوغوص نوبار باشا ، وبعضها باسم نوبار نوباريان و يعتبر بعضهم  أن نوبار باشا  هو نوبار باشا  الصغير وأن بوغوص هو نوبار باشا  الكبير بينما أتى الخلط كما ذكرنا من أن بوغوص اسم يُطلق على اثنين : الأول هو من كان بمثابة خال نوبار باشا  وهوبوغوص بك يوسفيان (1775 ـ 1844) و الثاني هو ابن نوبار باشا ، و يحتل الخال موقعا تاريخيا سابقا على نوبار، و كأنه نوبار باشا  الأكبر رغم أن لقبه يوسفيان وليس نوبار  ، وهكذا فإن بوغوص نوبار باشا   (1851 ـ 1930) هو ابن نوبار باشا  و ليس نوبار باشا نفسه ، وهو رجل أعمال وسياسي أرمني مصري كان رئيساً للجمعية الوطنية الأرمنية التي أسسها في 1906 وهو الذي قاد بتكليف من البابا الكاثوليكي الأرمني جورج الخامس ما سُمِّيَ بحركة الاستقلال الإداري للأرمن عن الدولة العثمانية وهي الحركة التي بدأت عام 1912 في ظل حكم الانقلاب العسكري للدولة العثمانية، ووصل به الحال إلى مطالبة مؤتمر السلام في باريس بأن يمثل الأرمن فيه، وقد ظلّ يعيش في باريس منذ العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية (1914) وحتى توفي 1930 ، على الرغم من احتفاظه بالجنسية المصرية ، وببعض المواقع الاقتصادية في شركات مصرية، وكان بهذا نموذجا للمصريين الذين عاشوا  وماتوا في باريس، وقد دفن بوغوص نوبار باشا  في مقبرة بير لا شيز الشهيرة في باريس ، ومن الجدير بالذكر أن نوبار باشا  نفسه توفي هو الآخر في باريس، لكنه دفن في الإسكندرية .

لا يعجبن أحد من إفاضتي في شرح هذا الخلط الشائع في أدبياتنا المتاحة فقد و صل الخلط إلى حد أن المدرسة الأرمينية في القاهرة تضع تمثالاً لنوبار باشا لكنها تكتب عليه أنه لبوغوص نوبار باشا .

تدرجه في الوظائف والنفوذ

ها هو نوبار باشا في 1844 في عام وفاة خاله بوغوص وبعد وفاة والده بحوالي أربع سنوات يُصبح من مترجمي محمد علي باشا  ( فيعين في بداية سلم الوظائف ترجمانا ثانيا ) و يترقى إلى رتبة القائممقام في 1846 ، ثم ينتقل من معية الباشا الكبير ليكون بمثابة المترجم لابنه إبراهيم باشا  في 1847 وينال رتبة الأميرلاي في 1849 وفي هذه الفترة تحقق لنوبار باشا  من صحبة إبراهيم باشا وملازمته  ما كان يؤهله ليروي لمعاصريه في أحاديثه المباشرة (ثم في مذكراته التي لم تنشر إلأ فيما بعد سنوات ) كل ما أثر في الروايات الأوربية  وشكلها وغذاها عن العلاقة المضطربة بين إبراهيم باشا  ومحمد علي باشا  ولهذا فإننا لا نبالغ في أنه شوه صورة إبراهيم أو نشرها مشوهة.

في 1850 (أي بعد وفاة محمد على باشا ومن قبله إبراهيم باشا ) وفي مطلع عهد عباس الأول ينال نوبار باشا  الترقية إلى باشترجمان ويكلف في ذلك العام بمهمة في إنجلترا تتعلّقُ بما يذكر من الخلافات بين ورثة العرش ،  وينال نوبار البكوية في ذلك الوقت ، ويظل نوبار باشا  يعمل مترجماً لعباس باشا  في 1851 و1852 حيث يستقيل أو يقال ، ثم يعود للخدمة مرة أخرى ولكن في ديوان التجارة، ويقوم بمهمة خارجية بالنيابة عن الوالي عباس في فيينا.

يأتي عهد ولي الامرالجديد وهو الوالي محمد سعيد باشا  في 1854 فيُصبح نوبار باشا  سكرتيراً له، ويتولى تنظيم الحركة التجارية بين القاهرة والسويس ويتقاعد في 1855 (أي وهو في الثلاثين من عمره حسب تاريخ ميلاده الذي لا أصدقه تماما ).

بعد عام أي في 1856 يعود نوبار باشا  إلى حيازة رضا الوالي محمد سعيد باشا ،  ويلحق بالمعية ثم مجلس القومسيون ثم ينال أعظم منصب ناله حتى ذلك الحين مديراً للسكة الحديد من 1857 ـ 1859 .

وفي 1861 يعود للعمل مترجماً لسعيد باشا  بالرتبة الثانية المتمايزة، ثم ينال رتبة فريق (وهو في السادسة والثلاثين من عمره حسب ذلك التاريخ الذي ابديت عدم اقتناعي به) لكنه يفصل مرة أخرى من وظيفته ليكون هذا الفصل أو إنهاء الخدمة الثالث (على الأقل) في تاريخ حياته الوظيفية.

لما بدأ عهد الخديو إسماعيل عمل نوبار باشا  مترجماً لولي الأمر ، ثم فصل ، ثم عاد ليكون ناظراً للأشغال عقب تأسيس ديوان الأشغال في 1864 (بعد سنة من حكم اسماعيل باشا ) وأُسندت إليه إدارة السكة الحديد ، وبقي مديراً لها حتى يناير 1866 حيث أصبح في يناير ناظراً (وزيراً) للخارجية وبقي في هذه المهمة 8 سنوات من 1866 حتى 1874 ثم تولى نظارة المالية والتجارة عند تأسيسها ثم عاد ليكون ناظراً للخارجية حتى يناير 1876 حيث فُصل من الخدمة بل غادر مصر بصورة أقرب ما تكون إلى الطرد.

ترشيحه حاكما لبلغاريا

في تلك الفترة مكنته صلاته الخارجية من أن ينال ترشيحاً أوربيا ليكون حاكماً لبلغاريا في 1877 لكن الحرب الروسية العثمانية سرعان ما اندلعت في أبريل ١٨٧٧. ويدلنا هذا الترشيح على طبيعة النظرة الأوربية الصريحة إلى نوبار باشا كموظف كبير منجز ومطيع و مأمون الجانب فحسب .

رئاسته الأولى للوزارة الأولى

في ١٨٧٩عاد نوبار باشا إلى مصر ليتولى (بتكليف من الأوربيين في الأساس) رئاسة الوزارة ، وقد احتفظ لنفسه بوزارة الخارجية في الوزارة التي كان اثنان من أعضائها الستة من الأوربيين (!) وهو ما يعني أن وجود نوبار باشا  نفسه  هو و وزارته كان استيفاء لشكل لا معنى وطنيا له، ولهذا فإن عهد هذه الوزارة لم يزد عن ستة أشهر، وانتهى دوره في هذه المرحلة عند هذا الحد، بعد أن تأسس في مصر شبه هيكل وزاري يمكن للغرب التعامل معه بما يمهد لفرض السيطرة أو لوجود الاحتلال ، وقد كان من أعضاء وزارته الأولى وطنيان كان لهما شأن بعد ذلك هما رياض باشا  وعلي باشا  مبارك، فضلاً عن راتب باشا  الذي لم يكن له دور كبير في تاريخ مصر .

دوره المشين في تثبيت الاحتلال وإخلاء السودان

بعد أن تمَّ الاحتلال البريطاني لمصر وفشل البريطانيون في التعامل مع شريف باشا  تم استدعاء نوبار باشا من المخزن السياسي ، أو الدولاب القديم ، و كلف بتشكيل وزارته الثانية التي هي حتى ذلك التاريخ أطول الوزارات عمرا كما أنها من أسوأ وزارات مصر أداء فيما يتعلق بالسيادة الوطنية و القرار الوطني وسيطرة مصر على حدودها ومواردها.

و على نحو ما يسجل التاريخ بأن كل من كانوا قبل الرئيس جمال عبد الناصر قد رفضوا الموافقة على استقلال السودان وفصله عن مصر إلى أن جاء عبد الناصر فسلّم للأمريكيين والأوربيين بهذه الرغبة، فكذلك يقول التاريخ بأن نوبار باشا  هو الذي أخلى السودان من القوات المصرية بعدما رفض سلفه شريف باشا  هذا.الطلب بل واستقال حتى لا يُجيب طلب البريطانيين.

ومن العجيب أنه بعد نهاية عهد هذه الوزارة بست سنوات لم يجد المعتمد البريطاني كرومر بداً من أن يُشير بتولّيه نوبار باشا رئاسة الوزارة في عهد الخديو عباس حلمي الثاني (حلا لعدم توافقهما ) فتولّاها للمرة الثانية في  ابريل 1894 وذلك من أجل استكمال تكريس الوجود البريطاني في مصر.

ومن طريف أمر وزارته الثالثة التي اقتصر أعضاؤها بمن فيهم الرئيس على ستة أنها ضمّت ثلاثة من رؤساء الوزراء من الجيل الجديد : سابقان هما مصطفى فهمي وحسين فخري ، ولاحق هو بطرس غالي كما ضمّت رئيس الجمعية التشريعية ورئيس مجلس النواب فيما بعد أحمد مظلوم باشا ، وبالإضافة إلى هؤلاء إبراهيم فؤاد باشا .

تدميره للقضاء الوطني

كان نوبار باشا هو الذي مكَّن الأوربيين من إنشاء المحاكم المختلطة في 1876 ( حلت محل المحاكم القنصلية التي كان له أيضا شأن في تقوية مركزها ) وهو نمط من الاحتلال القضائي لا يقلُّ عن الاحتلال العسكري تدميراً لروح الوطن والوطنية.

ومما يُثير الأسى في تطورات التاريخ المصري المعاصر أن نقرأ الآن عبارات من قبيل أنه كان لنوبار باشا فضل في تطوير القضاء المصري بإنشاء المحاكم المختلطة !! بينما يُمثل هذا (الفضل) أكبر إساءة إلى الوطنية والقضاء الوطني، ومع هذا فإن بعض من يحاولون الدفاع عن نوبار من قبيل مريت بك غالي يقولون إن هذا كان حلا أفضل من الاضطرار إلى اللجوء إلى القضاء الأوربي بحكم سطوة الأوربيين في ذلك الوقت .

بقية إنجازاته السلبية

نأتي إلى الإنجازات [السلبية]  أو فلنقل النجاحات التي تمكّن بها نوبار باشا من ان يُرسي قدمه في منظومة الإدارة المصرية العليا ، وأن يستعيد بها وضعه مرة أخرى في عهد الخديو إسماعيل حتى ما قبل عزله المهين :

  • أول هذه النجاحات  السلبية هو نجاحه في تغيير العثمانيين لقاعدة وراثة العرش في مصر عبر فرمانات 1866 و1867 و1873 والتي أقرت في النهاية بمبدأ أن نكون ولاية مصر في نسل إسماعيل لا غيره من أفراد الأسرة العلوية.
  • حصل نوبار باشا من العثمانيين على حق الخديو في عقد المعاهدات وبخاصة معاهدات القروض وكان هذا النجاح بمثابة إنجاز سلبي ذلك أنه أسهم في تسهيل القروض ومن ثمَّ في فقدان مصر استقلالها على نحو ما نعرف .
  • كان نوبار باشا من أسوأ وزراء الداخلية مُعالجة لقضايا الأمن، فكان بتعبير عصرنا يُعول على الإجراءات الأمنية والتعسُّفية واستعراض القوة في المقام الأول ، دون توجيه أيِّ عناية للعوامل الاجتماعية والقانونية الكفيلة بحفظ الأمن.
  • أتيح لنوبار باشا أن يُمثل مصر في كثير من المفاوضات مع الأوربيين، كما أتيح له أن يكون ممثلاً لمصر في مؤتمر النقود في باريس 1867 .
  • كان نوبار باشا هو الذي يُفاوض في القروض، وكانت نتيجة مفاوضاته وبالًا على مصر.
  • استحلَّ نوبار باشا لنفسه الحصول على عمولات من القروض التي كان يعقد اتفاقياتها ، وهكذا زاد في حجم الخراب وضياع أموال المصريين بالقروض والعمولات. و ليس هذا الذي نلخصه من باب الافتراء ففي عصره و رغم نفوذه  تفاقم الحديث عن تجاوزاته حتى وجدت الحكومة نفسها مضطرة إلى استبعاده من المفاوضات بين مصر وبريطانيا حول بيع أسهم قناة السويس.
فضله الطائفي وتعصبه للأرمن
  • مما يذكره التاريخ لنوبار باشا من نشاط انه كان صاحب الفضل في تطوير نوع من القطن طويل التيلة يُنسب إليه وهو القطن النوباري.
  • ومما يذكره محبو نوبار باشا له بقدر كبير من التضخيم دوره في المساعدة على تحرير العمال المصريين من عقود السخرة الذي كان الوالي سعيد قد وافق عليها في حفر القناة ، وبهذا أصبح من حق هؤلاء أن يتقاضوا أجرا ، بينما كان الأمر يعالج على أنه نوع من التجنيد الإجباري الذي عادت مصر فعرفته على يد أبنائها .
  • لا شك أن نوبار باشا  كان عنصرياً تماماً ، وكان محابياً للأرمن إلى أقصى حد على حساب المصريين بل على حساب مصر نفسها ، وقد وجد أستاذنا جورجي زيدان ألفاظاً ناعمة لوصف هذا الخلق السيء في شخصية نوبار باشا  فقال ضمن حديثه عنه في كتابه “تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر” : “كان غيوراً على مصلحة أبناء جلدته فنال الأرمن في أيام وزاراته مساعدات كثيرة بذل لهم فيها المال الكثير” .
  • من الطريف أن أول إنجاز مصري كبير شارك نوبار باشا في إدارته هو سكة حديد السويس .
علاقته بالولاة السبعة الذين عمل في عهدهم

كان نوبار باشا يُجيد النفاق الذي يتطلبه العمل مع الحكام الأوتوقراطيون ، وهو يذكر بنفسه عن جهوده في هذا المجال كثيراً من الأمثلة في مذكراته، وعلى سبيل المثال فإنه كان في أثناء عودته مع إبراهيم باشا  من الآستانة في 1848 يُعالج ما يعتري ابراهيم باشا  من الهياج النفسي بسبب خوفه من والده محمد علي باشا  إذا ما شُفيَ وعلم أن ابنه إبراهيم حصل على فرمان الولاية من السلطان العثماني وعاد به، وكان نوبار باشا  يجلس بالساعات الطوال لتهدئة نفسية إبراهيم باشا  وإقناعه بأن المرض العقلي في العادة (وهو ما أصاب محمد علي باشا ) لا يتم الشفاء منه، وبذلك كانت مخاوف إبراهيم باشا  تتلاشى.

مع هذا ، تتعدد الأسباب التي أدت إلى فصل نوبار باشا  مرات عديدة من وظائفه ، ومنها على سبيل المثال أنه تأخر في توريد بندقيين طلبهما الوالي ذات مرة ، ومنها أنه ذاع عنه في الأوساط الأوربية إساءته البالغة في استخدام سلطته لمصلحة شخصيه.

كان نوبار باشا بحكم السن يُقدّر محمد علي باشا  إلى درجة الرعب من التفكير في مخالفة توجهاته مهما كان الآمر بمخالفة هذه التوجهات في نهاية عهده ،  وبحكم السن فإنه كان قريباً من إبراهيم باشا ،  وقد كان سر قربه منه أنه صحبه في رحلته الأوربية الشهيرة في 1845 والتي شملت  زياراته للمصانع والمعاهد العلمية .

أكرر هنا رأيي فإن روايات نوبار باشا التي شاعت منسوبة إليه منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت هي المصدر الأول للصورة السيئة لإبراهيم باشا و تعلقه (هو و والده ) بالعرافين  و نصائحهم ، واضطراباته النفسية ، ومرضه وتعاطيه الخمر وعدم سيطرته على نفسه بعد تناول الخمر.

مذكرات نوبار باشا

مما تجدُر الإشارة إليه أن مذكرات نوبار باشا تتوقف عند المرحلة الأولى من حياته أي عند سنة 1879 حين عزله الخديو إسماعيل باشا  من رئاسة الوزارة ولا تتضمن أيَّة ذكريات تخُصُّ الفترات التالية التي تولّى فيها رئاسة الوزارة من 1884 وحتى 1888، وفي 1894 وحتى 1895. وقد ضمت واحداً وأربعين فصلاً، خصص ستة فصول لعهد والي مصر محمد علي، وابنه إبراهيم، وأربعة لعهد عباس الأول ، وستة لعهد محمد سعيد باشا ، بينما خص الخديوي إسماعيل بـخمسة وعشرين  فصلاً.

ومن الجدير بالذكر أن هذه المذكرات نُشرت بالفرنسية 1983، عن مكتبة لبنان في بيروت ، ولم تترجم للعربية إلا بعد 8 سنوات من نشرها بالفرنسية، وقد كان أستاذنا الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى أول من علق عليها ، كما نشر الأستاذ نبيل زكي مقتطفات منها في كتاب بعنوان : نوبار في مصر في كتاب صدر عن مؤسسة أخبار اليوم ثم نشرتها دار الشروق بتحقيق الدكتورة إلهام ذهني وتعليق الدكتورة لطيفة سالم . وقد حظيت مذكرات نوبار باشا التي نشرت في طبعة دار الشروق بتعليقات الوزير والمفكر القبطي مريت غالي الذي بذل كل جهده في تجميل وجه نوبار باشا بصعوبة بالغة .

 ولا تزال هذه المذكرات تلقى إعراض الباحثين عنها على الرغم من حفاوتها بكثير من الأكاذيب واحتوائها على كثير من الاعترافات الصريحة بخيانة مصر جزئياً أو كليا على يد نوبار باشا وأمثاله ممن لم يحفظوا حق الوطن الذي آواهم، وجعلهم على حد وصف جورجي زيدان لنوبار باشا  بأنه كان صاحب ثروة طائلة ويُعدُّ من أغنى سكان وادي النيل.

وقد ذكر نوبار باشا  في هذه المذكرات أنه كتبها على مدى أربع سنوات ما بين مايو 1890 ومايو 1894 ومن العجيب أن هذا الرجل تجاهل تماماً ما كان قد ظهر أمام عينيه من نتائج سياساته السيئة و على سبيل المثال فقد تسببت المحاكم المختلطة في تكبيل مصر بالديون ثم التحكيم ثم الاحتلال، وتمَّ هذا كله بأسرع مما يتخيله أيُّ سياسي، لكن نوبار باشا لم يكن واعيا لتطور السياسات المالية على هذا النحو، شأنه في هذا شأن كل سياسي ينشغل بمصلحته الخاصة فلا يفهم مجريات الأمور في السياسات العامة والاقتصاد السياسي إلى بالفهم المحدود.

قصيدة الشاعر البارودي في هجاء نوبار باشا 

لا جدال في أن قصيدة البارودي في هجاء نوبار باشا  من أبلغ قصائد الهجاء في الأدب العربي الحديث ، وهي قصيدة سلسة الألفاظ بديعة المعاني تنطق بقدرات البارودي غير المحدودة على صياغة أصعب المعاني بأسهل الألفاظ ويبدؤها البارودي بالقول بأن وصال نوبار باشا  هجر ، وهجره وصال ، وهو لهذا يطلب منه مزيداً من الكراهية حتى إن كان هذا يُبعده عن أمانيه، فهو لا يُرحب باللقيا ولا جمع الشمل إذا تحققا بواسطة نوبار باشا ، وهو يصف نوبار باشا  بأنه متلوّن، مخاتل، يُخفي كثيراً مما لا ينبغي إخفاؤه.

وِصـــالُكَ لي هَجْرٌ ، وهَجْرُكَ لي وَصلُ/ فـزدني صدوداً ما اســتطعتَ ، ولا تألُ

إذا كان قُربي مِنك بُعداً عن المنى/ فـلا حُمَّتِ اللُّقْيا ، ولا اجتَمَعَ الشَّمْـلُ

وكــيفَ أودُّ القرْبَ مِنْ مــتلـوِّنٍ  / كثير خبايا الصدر ، شيمته الختلُ

كما أن البارودي يتمنى أن تباعد بينهما الأيام، فالخباثة في نوبار باشا  كفيلة بأن تُنجس الماء حتى يصعُبُ تطهيره ثانية.  

فـليت الذي بـيـنـي وبـيـنـك يـنـتـهي/ إلى حــــيـثُ لا طَـــلْـــحٌ يرِفُّ ولا أثلُ

خبثتَ ، فلو طُهِّرتَ بالماء لا كتســـى/ بِك الماءُ خُبثاً لا يحِلُّ بِهِ الغَـــسْـــــلُ

ويُعاود البارودي باشا تلخيص وصفه لنوبار باشا ، فهو بلا ذمة ولا عهد، ورأيه سيء، وعقله كذلك وهو ينسُبُ إلى وجه نوبار باشا  كلَّ الرزايا من اسوداد الأيام، وانعدام الفضل وهو يرى أن وجهه منحوس وعقله مختلٌّ وقلبه مخاتل وكعبه سيء السمعة.

فوجـهـك مـنحــوسٌ ، وكعبكَ سافِلٌ/ وقلبكَ مدغولٌ ، وعـقــلكَ مُخْتَلُّ

بِك اسودتِ الأيام بعدَ ضِـيائها/ وأصبح نادي الفضل ليس به أهلُ

ويصل البارودي باشا إلى أن يذم الزمن الذي يكون فيه شخص كنوبار باشا  ذا شأن فيه بينما هو يراه رسول النكبات المُبشر بها  كما أنه أصل الخيبات:

فلو لم تكن في الدهر ما انقضَّ حـادثٌ/ بقـومٍ ، ولا زلـتْ بِذِي أمـلٍ نَعْلُ

فـما نكبةٌ إلا وأنت رسـولها / ولا خيبةٌ إلا وأنت لها أصـلُ

أذُمُّ زماناً أنت فــيــه ، وبــلـدةً/ طـــلعتَ عــــليها ، إنهُ زَمَــــنٌ وَغْـــلُ

وهو يصل في وصفه إلى اعتقاده في أن شخصية نوبارحافلة بالمخازي الكفيلة بمنع إشراق النجوم.

ذِمــــامُكَ مـــخفورٌ ، وعهدك ضائعٌ/ ورأيك مأفونٌ ، وعقلك مُختلُّ

مخــــــــازٍ لو ان النجـــمَ حُمِّلَ بَعضَها/ لعاجـله من دون إشراقهِ أفْلُ

وهو يرى أن لا أمل في الثقة بنوبار على الإطلاق، وأن غاية الأمل هي أن ينقطع الحبل الذي يصلهما:

فــســـــرْ غير مأســوفٍ عليك ، فإنما / قُصارى ذمـــيم العهد أن يقطع الحبلُ

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه