“نكهة العرب”.. بين الطبخ والسياسة!

 بين النسخة الأولى المتواضعة من الكتاب والصادرة منذ عشرين سنة وهذه النسخة الجديدة المُترفة، عمرٌ أطلق فيه صلاح جمال العنان لموهبته الأدبية التي لم يقتلها لا الطّب ولا الغُربة

حين أصدر الكاتب صلاح جمال عنوانه الأول “نكهة العرب، وصفات وأقاصيص” في 1999، لم يتوقّع لا هو ولا دار النشر التي تعاقد معها حينها أن هذا العنوان سينطلق بألفي نسخة بالكتالانية ليتجاوز المائة وخمسين ألفا حتى حدود 2009 ويُترجم إلى عديد من اللغات.

نجاح فتح شهية مجمع بلانيتا للنشر (أكبر دار نشر إسبانية) لإصدار نسخة جديدة مُنقّحة فاخرة جدا، احتفل بعرضه هذا الشهر بحضور الكاتب وأكثر من ثلاثين محطة إعلامية على شرف الطباخ العالمي فيرّان أدريا ببرشلونة والذي عرّف الكتاب بأنه” لا يُغذي الجسم فقط، بل يُغذّي العقل والروح”.

استقطاب القارئ

   للوهلة الأولى يبدو “نكهة العرب”، كتاباً في الطبخ ويبقى كذلك لمن اكتفى بالعنوان ولم يتعرّف على أسلوب الكاتب في بقية أعماله الفكرية.
لكن حسب تصريحات صاحبه، فإن الاختيار كان مقصودا فصلاح جمال، الفلسطيني الكتالاني، طبيب أمراض جلدية، حائز على الإجازة في التاريخ والجغرافيا وأستاذ محاضر في التغذية والتنوع الثقافي بجامعة “فيك” ببرشلونة، يرى أنّ استقطاب القارئ الغربي ومنحه فرصة اكتشاف محاسن الثقافة العربية دون عناء، يجب أن يتم بأسلوب ذكيّ، خفيف على القلب.
رغم أنه جاء برشلونة يافعا منذ 50 سنة، لينهي دراسة الطب ويستقر فيها إلا أن كأس الوطنية التي شرب منها طوال السبع عشرة سنة في نابلس تُعادل دهرا كاملا.
فالرجل مهووس بواجب التعريف بقضيّة شعبه وفضح جَور المُحتل وسط صمت العالم.

وإذا كان العرب يتندّرون بقول إن “قلب الرجل معدته”، فصلاح جمال اعتبر أن عقل وقلب القارئ (بمختلف أنواعه) معدته أيضا.
ذ يرى أنّ الكتابة عن التاريخ أو الجغرافيا أو الشعر العربي كانطلاقة بالنسبة له، لن تبلغ سوى فئة محدودة من الجمهور؛ في حين أنّ الطبّخ كمدخل لبثّ جرعات ثقافية خفيفة بأسلوب عفويّ، ساخر أحيانا، سيجلب أنواعا مختلفة من القُرّاء.
والأهمّ من هذا أنّ إمكانية إحداث تغييرات في اهتمامات فئة معينة من جمهور كتب الطبخ واردة جدّا.
وفي الحقيقة، كان هذا الرّهان ناجحا، فالمئة وخمسين ألف نسخة من كتاب “نكهة العرب” أثبتت أن جمهور “الفلافل والحمص والكسكسي” من الغربيين الذين اختصروا المطبخ العربي في هذه الأطباق، أصبحوا مُطّلعين على قدر كبير من آداب الأكل في الثقافة العربية والإسلامية.
فشمل الكتاب: نبذة تاريخية عن تطوّر الأطباق التي يتناولها العرب، حضور الدين والفن والعلم في ثقافة المطبخ العربي، دون أنينسى الغمزات السياسية التي تنساب في ثنايا الـ 54 وصفة.
من ذلك، مقطع “الزّعتر” الذي ورد في هذه النسخة الجديدة ويُعرّفه الكاتب على أساس أنه جزء أصيل من هوية فلسطين، بل رمزا سياسيا للفسطينيين.
يقول الكاتب في الصفحة 58: يُردّد الفلسطينيون بكل فخر: في دمنا، الزعتر يفوق الكُريّات الحمراء”. هم يعتبرونه مُعطى أساسيا من تاريخهم وثقافتهم وعاداتهم ويُسمّونه “غذاء المقاومة والنّجاة”.

خلطة الزعتر

    وبأسلوب نبيه دائما، ينساب الكاتب في طرح فوائد خلطة الزعتر وأهمّيته بالنسبة للفلسطينيين ومنطقة الشام عامة بشكل يجعل القارئ مندمجا تماما في تاريخ هذه الخلطة وحاضرها، إلى أن يكسر اندماجه بالتذكير أن جمع محصول الزعتر في أراض فلسطينية عِدّة أصبح ممنوعا بسبب أوامر إسرائيلية.
منعٌ مُغلّف بأسباب واهية لإخفاء انزعاج كبير من تحوّل هذا الرّمز والمطبخ الفلسطيني كجزء من الثقافة إلى سلاح ثقافي لترسيخ المظلمة الفلسطينية.

    مجمع بلانيت للنشر، اختار في إطار عرض النسخة الجديدة من كتاب “نكهة العرب”، الطّباخ العالمي فيرّان آدريا، وهو الطباخ الإسباني الحاصل على ثلاث نجوم ميشلان (أعلى معيار عالمي في فن الطبخ) كضيف شرف لتزكية هذا المنتوج أين ذكر أن هذا اللون من كتب الطبخ يُعتبر خيارا ذكيّا جدا وبمقتضاه، يُصنّف هذا العنوان في قائمة “الكتب المراجع”، فالوصفة المُقدّمة فيه تضمن طبقا متكاملا يجمع بين الغذاء والمعرفة والعاطفة، خصوصا وأن الساحة الثقافية العربية تعاني فقرا واضحا من حيث الإنتاج. وهو بهذا يلتقي مع راي مجلة التايمز الأمريكية التي قدّمت الكتاب يوم 02 مارس/آذار 2002 تحت عنوان “غذاء للفكر”.

    الجميل أن الناشر الجديد، ومن باب الدعاية واستعراض مظاهر البذخ والربح الذي يجنيه بفضل الانتشار الواسع للعناوين التي يختارها، وتماشيا مع موضوع الكتاب وسياقه، أقام حفل التقديم في أفخم مطعم عربي بإسبانيا (والموجود ببرشلونة)،حيث طغى الجو العربي من غلاف الكتاب وتصميمه، حتى ديكور المطعم وأطباقه المعدّة بعناية فائقة.

     بين النسخة الأولى المتواضعة من الكتاب والصادرة منذ عشرين سنة وهذه النسخة الجديدة المُترفة، عمرٌ أطلق فيه صلاح جمال العنان لموهبته الأدبية التي لم يقتلها لا الطّب ولا الغُربة، وراح يخرج علينا بعناوين مختلفة ناجحة تدور جميعها في فلك مسائل محورية تتعلق بالثقافة العربية لعلّ أبرزها، القضية الأم، القضيّة الفلسطينية. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه