نكسة ترمب في الأمم المتحدة

كشفت معركة القدس أن الكيان الصهيوني مهما أوتي من قوة عسكرية ودعم أمريكي أضعف مما نتخيل، وثبت أن الحق الفلسطيني رغم ما يبدو من وهن وضعف أقوى من المكر المعادي، ولم يكن أحد يتوقع هذه النتيجة السريعة وهزيمة الغطرسة والغرور في الأمم المتحدة حيث يدير الأمريكيون العالم.

لقد وجهت دول العالم صفعة عنيفة لسياسة دونالد ترمب و”إسرائيل” ورفضت القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وأعلن ممثلو 128 دولة إدانتهم لأي سيطرة إسرائيلية على المدينة المقدسة، ولم يؤيد الخطوة العدوانية سوى 8 دول وامتنعت 35 دولة عن التصويت.

الموقف الدولي أكد عزلة الولايات المتحدة وتراجعها كدولة إمبراطورية صاحبة نفوذ، وأظهر موقفا دوليا معاديا للرئيس الحالي، ولم تفلح الدبلوماسية ولا التلويح بقطع المعونات، ولا التهديد بوقف تمويل الأمم المتحدة في إثناء قادة العالم عن التصدي للقرار الأمريكي.

لقد عبرت مندوبة الولايات المتحدة في كلمتها عن حالة الارتباك والتخبط التي تعيشها الإدارة الأمريكية حيث أساءت إلى دول العالم التي تقف ضد أمريكا واتهمتهم بأنها لم تعترف  بالجميل لأمريكا التي تنفق على المنظمة الدولية وقد رد عليها مندوب فنزويلا بأن العالم ليس للبيع.

 الغرب يتخلى عن ترامب

لم يقف مع الرئيس الأمريكي سوى دول صغيرة هامشية؛ فبجانب إسرائيل لم يؤيد ترامب غير غواتيمالا، هندوراس، جزر مارشال، ميكرونيزيا، ناورو، بالاو، توغو، وهي جزر ودويلات صغيرة ربما لم يسمع كثيرون عن بعضها من قبل.

من الملاحظات المهمة عدم مساندة المحور الأنجلو ساكسوني لأمريكا، حيث صوتت بريطانيا ونيوزيلندا ضد ترامب وامتنعت كندا واستراليا عن التصويت، وهذا التخلي من دول المحور عن الموقف الأمريكي من النوادر في تاريخ الحلف ويعد سابقة جديرة بالدراسة.

أعطت الدول الأوربية ظهرها لترمب، وكان موقف الاتحاد الأوربي بقيادة فرنسا وألمانيا تأديبيا، فالأوربيون يرون أنهم شركاء وليس من حق ترامب تهميشهم والانفراد بالقرار دون الرجوع إليهم، ويرفضون استبعادهم من ملف القضية الفلسطينية الذي يبقي على نفوذهم في المنطقة العربية.

لكن رفض الدول الأوربية للتهويد الكامل للقدس يعود لأسباب مذهبية حيث يعترض الكاثوليك والأرثوذكس على انفراد اليهود والبروتستانت بالسيطرة على المدينة المقدسة، وهناك وعود قدمها هرتزل مؤسس الدولة الصهيونية عندما كان يتفاوض مع زعماء أوربا بأن تكون القدس لكل الأديان.

التمرد الدولي على أمريكا

كانت قضية القدس فرصة لمنافسي أمريكا على زعامة العالم لتصفية الحسابات، وتحقيق انتصار سياسي على الولايات المتحدة وهز صورتها ومكانتها الدولية، وأيضا لكسب العرب والمسلمين، وتمثل مساندة روسيا والصين وكوريا الشمالية والدول الآسيوية للحق الفلسطيني ردعا للرئيس الأمريكي المتغطرس.

 ويأتي موقف فنزويلا التي تتزعم مجموعة دول عدم الانحياز ومعها كوبا والبرزايل ودول أمريكا اللاتينية ليضيف دعما قويا للموقف الإسلامي، ويعطي إشارة واضحة لحالة التمرد العالمي التي تتسع يوما بعد يوم والتي للأسف لا يراها العرب ولا يتجاوبون معها.

تركيا تقود العالم الإسلامي

لقد استطاعت تركيا بدعم عربي خجول وتأييد إسلامي معقول أن تتصدر العالم الإسلامي، واستطاع أردوغان من خلال رئاسته لمنظمة التعاون الإسلامي أن يحشد الدول العربية والإسلامية لمناصرة القدس، وفكك الموقف العربي المتحالف مع “إسرائيل” وأعطى رسالة إيجابية أن الأمة المسلمة لم تمت كما توهم ترامب والإسرائيليون.

لقد نجح أردوغان في توجيه لكمة موجعة للرئيس الأمريكي، وحاصره، وفضح ضعفه، كما نجح الرئيس التركي في جعل الدول الإسلامية تستعيد وضعها ككتلة على الساحة الدولية رغم حالة الشتات التي تعيشها، وإعادة القضية الفلسطينية الى الواجهة من جديد كقضية شعب يواجه المحتل وليس يهود يواجهون إرهابا.

هزيمة المكر الصهيوني

يعد الكيان الصهيوني أكبر الخاسرين بعد ترامب والولايات المتحدة؛ فالموقف العالمي ضد السيطرة الإسرائيلية على القدس بدد الصورة الزائفة التي رسمتها الصهيونية خلال العقدين الماضيين، لتحسين صورة “إسرائيل”، وتمت إعادة الملف إلى الاضواء مرة أخرى وفضح اللصوص الذين ظنوا أن سرقة فلسطين مهمة سهلة وسط الظلام.

ظن الإسرائيليون أن الساحة مهيأة لابتلاع كل فلسطين بعد أن ضمن نتنياهو مشاركة القيادة المصرية والسعودية في التنفيذ، مما أغرى ترامب بالاستعجال، فانقلب السحر على الساحر، وجاء الاستدعاء الدولي إلى الملف وإفساد الترتيبات الأمريكية الإسرائيلية.

الصدمة الإسرائيلية ظهرت في موقف مندوب الكيان الصهيوني الذي كان في قمة التوتر، وظل يهذي بكلام عنصري يكشف عن العدوانية لدرجة أنه شتم دول العالم وزعم أنها دمى يحركها الفلسطينيون، وقال وهو في قمة الغطرسة أن القرار الذي سيصدر من الأمم المتحدة مكانه مزبلة التاريخ!

الموقف العربي المتراجع

الدور العربي كان خافتا ومترددا في البداية، وازداد تمردا مع بروز الدعم الدولي، لكن التغيرالملفت هو تمرد محمود عباس والملك عبد الله الثاني، فكلاهما يدرك الخطر وراء خطوة ترمب؛ فالسيطرة الإسرائيلية على القدس مقدمة لصفقة القرن التي ستؤدي إلى إلغاء السلطة الفلسطينية وإنهاء دور محمود عباس، وضم ما تبقى من الضفة الغربية في اتحاد فيدرالي مع الأردن، وإلزام الملك الأردني بتحمل الالتزامات الأمنية للسيطرة على الفلسطينيين وتحويل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى صراع أردني فلسطيني.

وكان واضحا اختباء القيادة السعودية لكونها الممول الرئيسي لصفقة القرن، وبروز دور غير مكتمل لمصر في القرار الذي تم التقدم به لمجلس الأمن والذي أغفل اسم الولايات المتحدة وترامب، مما فتح الطريق للطعن وإصدار الفيتو، لكن الموقف الرسمي العربي بشكل عام لا يتناسب ومكانة القدس ويعمل على امتصاص الغضب الشعبي حتى لا ينفجر في وجه الحكومات.

حماس ودورها في الدفاع

رغم أننا لا نراهن على الأمم المتحدة في حل القضية الفلسطينية وتحرير أراضينا المحتلة، لكن ما حدث في قضية القدس يعد فضيحة مدوية للرئيس الأمريكي الذي أراد سرقة القدس من أصحابها وإعطاءها للمحتلين، وهذا التصويت رغم أنه غير ملزم فإنه هزيمة لمشروع التهويد وفضيحة سياسية ستعطل المكر الصهيوني لبعض الوقت، وستضعف المشاركين في الترتيبات الإسرائيلية، ولكن يبقى الصراع العسكري على الأرض بين الاحتلال وحماس هو المعركة الأساسية وهي مستمرة ولم ولن تتوقف.

لا نضيف جديدا عندما نقرر أن الصراع في فلسطين صراع عسكري مفتوح على الأرض ولا يمكن حسمه بالمؤتمرات وفي أروقة المنظمات الدولية، ولولا صمود حماس والفصائل الفلسطينية وتطوير سلاح المقاومة لكانت قضية فلسطين قد انتهت منذ سنوات.

إن كل ما يطرحه الإسرائيليون من خطط وسيناريوهات للتسوية الغرض منها القضاء على حماس ونزع سلاح المقاومة، لتفكيك غزة كما يفعلون في الضفة وابتلاع كل فلسطين، وينتظر الكيان الصهيوني الفرصة تلو الأخرى للعدوان على غزة لفرض واقع جديد بقوة السلاح.

علينا استثمار التحركات الشعبية والموقف الدولي – مع اختلاف دوافعه- لإعادة القضية الفلسطينية إلى مكانها الصحيح في مقدمة الأولويات، وعلى كل المخلصين أن يعملوا على تفكيك الجبهة العربية التي يديرها الإسرائيليون لحصار وخنق غزة، واعتبار أي كلام رسمي عن دعم القدس لا يصاحبه فك الحصار مواصلة ومشاركة في التآمر على فلسطين، وتفريط في ثوابت الأمة التي من أجلها كانت حروبنا التي أريقت فيها الدماء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه