نعم.. فلنقتل عبد الناصر

(1)

يتحمل جمال عبد الناصر في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة، كل الشرور والآثام التي أصيبت بها المنطقة، وليس مصر وحدها، فهو الذي كرس لدولة العسكر، وأسس للقمع والقهر والفساد وكبت الحريات، بل كان عربيدا ومنحرفاً على المستوى الشخصي، وعميلاً للأمريكان والصهاينة على المستوى السياسي.. فلماذا لا نقتل عبد الناصر لنتخلص من هذه الشرور واللعنات؟

(2)

قد يتصور البعض أنني أسخر، أو استخف بحملات الهجوم على عبد الناصر، لكن هذا البعض قد يصطدم بمقدار الجدية والرصانة العلمية التي تنطلق من هذه الدعوة، وقد يتعجب عندما يكتشف أن الدعوة ليست حديثة، ولا تنطلق من إخوان ولا ليبراليين ولا ورجعية ولا استعمار ولا معارضين سياسيين من اي اتجاه، بل تعود إلى أزمنة سحيقة من التاريخ، ويشارك فيها اسماء مثل سوفوكليس وكلود ليفي شتراوس وسيغموند فرويد وهشام شرابي وإحسان عبد القدوس ورينيه جيرار، فالدعوة لقتل عبد الناصر لها قصة طويلة، أرجو ألا يصيبكم الملل من قراءتها

(3)

يقولون إن القبائل البدائية في قديم الزمان، كانت تحتمي بالأب وتحترمه وتهابه حتى وصلت هذه المشاعر إلى درجة التقديس، ومع التقديس بدأت قيود المنع والتحريم والحظر، مما أدى إلى امتزاج الحب بالخوف، والكراهية بالحب، ومع زيادة المحظورات تصاعد مؤشر الكراهية المكبوتة للأب “المقدس”، حتى قررت القبيلة التخلص من عبء المقدس فقتلت الأب، ولما عجزت عن إدارة شؤونها شعرت بالندم، واقامت صنماً أو “طوطما” أو رمزاً، لتستمر في تقديسه وعبادته تجنبا للشرور وتكفيرا عن الخطيئة في انتهاك المقدس، لكن عامل “العنف” كان قد ولد ووجد لها مكانا إلى جوار المقدس والممنوع والرمز، ويقول فرويد إن “الولائم الجماعية” التي يتم فيها قتل “الأب الرمزي” تتضمن مزجاً غامضاً بين مشاعر الكراهية والحب والاعجاب والغيرة إزاء الأب، ويكون الوعي الباطني أعلى فيها من “الوعي العاقل الظاهر، لذلك فإن هناك تشابها كبيرا بين البدائيين والعصابيين المصابين بأمراض نفسية في عدم مقدرتهم على الفصل الواضح بين الانفعال والعقل، أو بين الذهني والعملي، ومن هنا جاءت فكرة “القربان” أو البحث عن “ذبيحة” ينحرها البدائيون أو العصابيون كمحاولة لتجنب اللعنات وتجنب خطر التفتت والضياع، فيلجأون إلى تحميل أحد أفراد الجماعة مسؤولية الشرور التي أصابتهم، ويبدأون طقس الذبح

(4)

لم يقتنع شتراوس تماما بتحليل فرويد، ووصفه بأنه “رواية”، لكنها رواية أكثر تصديقا من السرد التاريخي الذي وصلنا، لذلك ظلت نظرية “قتل الأب” مفتوحة للاجتهاد، واختلطت فيها الكتابات النفسية والأنثربولوجية والأدبية، والسياسية ايضا، ولعل معظمنا قرأ كتاب الدكتور هشام شرابي عن “البطريركية” والذي دعا فيه للتخلص من سلطة الزعامات الأبوية التي تحول دون تطور مجتمعاتنا من “طور القبيلة” إلى “طور الدولة”، ولعلكم تستطيعون التعمق في قراءة اجتهادات هؤلاء العلماء والباحثين بكتابة اسمائهم على محرك بحث غوغل، والاستزادة حسب مزاج وثقافة كل منكم، لكنني أحب أن اتوقف قليلا أمام مقتطفات من كتاب رينيه جيرار عن “المقدس والعنف”، وليتنا نتأملها بعين عصرية ونقرا فيها واقعنا بدلا من حصرها على القبائل البدائية وفقط

(5)

يقول جيرار: بعد “قتل الأب” تحدث حالة من الفزع والارتباك بين الجماعة، وتبدأ مرحلة وضع القيود والمحظورات تحت دعاوي تجنب اللعنة والمخاطر، ويؤكد جيرار أن “دم القربان” لا يكفي وحده لترسيخ واقع المصالحة والتوافق بين أعضاء تلك الجماعة، لأن خطر العنف يتجدد بين افراد الجماعة، لذلك تحدث عملية إبدال يتم من خلالها استبدال “الأب الحالي الحي” بضحية طقسية تكون غريبة عن الجماعة، (أو يتم تصنيعها من الأسرى والمخالفين)، وفي كل الأحوال فإن “القربان” يتحول إلى وسيلة نفسية تساعد الجماعة البدائية على التطهر، والتخفف من خطر العنف عن طريق تصديره من “الواقع” إلى “الرمز”، والتمييز بين العنف غير الشرعي و”العنف المقدَّس الشرعي”، ومن هذه النقطة يمكننا أن نستخدم تحليل جيرار لنظرة دولة السيسي “للعنف الذي تحاربه” و”العنف الذي تمارسه”، باعتبار أنها ترى الأول “غير شرعي”، أما عنفها هي فهو مقدس وشرعي، بينما الأفراد ينقسمون إلى عشائر يسعى كل منها لقتل “الأب الآخر” بينما يضفي القداسة على “الأب الذي يعبده”، مما يعود بالمجتمع من جديد إلى خطر العنف المتبادل، حتى وهم يقدمون الطقوس لإدانة العنف، وهذه هي اللعبة الجهنمية المهلكة.

(6)

لا أريد أن أقف في المنطقة البدائية حتى لا يُسجَن المقال في قفص الفكرة الذهنية، من دون أن يشتبك مع الواقع الفعلي، لهذا أقول مباشرة إن حمدين صباحي على سبيل المثال، قد أحسن صنعاً عندما أعلن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية، مفسرا ذلك بذكاء سياسي ووعي ثقافي قائلا إنه دخل دائرة الخلاف، وهي دائرة مهلكة أشبه بالدوامة العنيفة التي لا يستطيع أحد النجاة منها مهما كانت مهاراته، وبلغة المقال فإن حمدين يقدم نفسه كـ”فداء” او كـ”قربان” بهدف تخفيف حدة الانقسام والتناحر، بعد أن لمس خطورة الخلاف والعنف الذي يتسبب فيه وجوده، وبالتالي فإن غيابه يفتح الباب لمصالحة محتملة، ومع ذلك لا تتحقق المصالحة، ربما لأن افراد القبيلة البدائية احترفوا “ذبح الضحايا”، ولا شاغل لهم إلا تقديم المزيد من القرابين.

(7)

حالة صباحي ليست هدف المقال، لأنه من القلائل الذين أدركوا خطر العنف، وتصرف بوعي انساني وتاريخي تفتقده النخب السياسية المنخرطة في الوظيفة والإجراءات على حساب الثقافة والمفاهيم، وفي تقديري أن مفتاح الخروج من أسر القبيلة إلى فضاء “الدولة العصرية” يستلزم قتل “عبد الناصر الواقعي”، لأن عبد الناصر هو الأب السياسي البارز في تاريخ المصريين منذ نهاية عصر الأسرات، فقبله دام لدينا حكام ولم يكن لدينا “أب سياسي”، كان لدينا آباء في الدين والمجتمع، وكان لدينا غرباء يحكمون في قصور منعزلة عن الشارع، أما عبد الناصر فكان أول حاكم بيولوجي من لحم ودم هذا الشعب، وهذا هو تفسيري لظاهرة العنف الموجه إلى “الأب المقدس”.. إلى”الرئيس المهيمن”.. إلى الخوف والشمولية والممنوعات، وليس إلى القيم المطلوبة في تجربة عبد الناصر، والتي يعيد كل فرد في الجماعة ترديدها بعد أن ينسبها لنفسه، حتى إن شعارات ثورة يناير لا تختلف كثيرا عن شعارات ثورة يوليو، في المطالب الرئيسية المتعلقة بالعدل والكرامة والعزة، وفوقها الوحدة والتماسك وتذويب الفوارق بين افراد الجماعة، لذلك.. وبصرف النظر عن موقفي الشخصي من القضايا الخلافية التي تستخدم لتشويه عبد الناصر، أتقدم بطلب جماعي لضرورة قتله، وإزاحته من المشهد التشاحني، خاصة وأن التشويه يتم من دون محاكمة عادلة وعاقلة، وأنا ممن يحترمون الظروف المعنوية والنفسية للشعوب، وحتى لو كان عبد الناصر مظلوما في كثير من التهم التي توجه إلى تاريخه وإلى شخصه، فإن الأمر في نظري تخطى قسمة الهجوم والدفاع، إذا لم يعد الدفاع عن شخص عبد الناصر يمثل أي قيمة وطنية عامة، لأنه دفاع عن “ماضٍ ذهب”، كما أن الهجوم على الشخص يعد فعلاً مشينا على المستويات الأخلاقية والتاريخية، وعلى ذاكرة وضمير الجماعة التي تسعى للتحرر من العنف والمحظورات معاً، فليس من اللائق أن نقدم انفسنا للمجتمعات التي تحررت، باعتبارنا قوما يتفاخرون باغتيال جثة، ويتلذذون بالانتقام منها والتمثيل بها.

(8)

هذا لا يعني أن نتوقف عن نقد الماضي، لأنني ممن يرددون دوما: إن الموت لا يجعل الميت أجمل، ولا يحصنه من الحساب،  لكنني أيضا ممن يعتقدون أن الموت يجب أن يحصن الميت من عقابنا نحن، لأنه خرج من حياتنا ومن مسؤوليتنا، لينفرد بحسابه المحاسب الأعدل والأعظم، ومن هنا أقول إن كل من يهاجم عبد الناصر لأنه كان ظالما، عليه أن يستمر في مواجهة الظلم، لأن الظلم ليس اسمه عبد الناصر، بدليل أن الظالم اليوم صار له اسم آخر، ومن كان يهاجم عبد الناصر لأنه كان فاسدا أو عميلاً أو فاشلاً، فليدرك أن عبد الناصر مات، وخرج من المباراة، وأفسح لكم الطريق لمواجهة الفساد والعمالة والفشل، ولا تنسوا أن يقتل كل منكم الأب السياسي الذي يريد أن يفرضه على الآخرين كطوطم بديل عن عبد الناصر، ويريدنا أن نقبل منه ما رفضه هو من “الأب الذي قتلناه”.

اقتلوا كل الآباء السياسيين، حتى نخرج من مشاحنات القبيلة، ونتحرر من لعنة العنف والمحظورات والمقدسات، ونتحول إلى دولة عصرية يحكمها موظفون نحاسبهم، وليس آباء وآلهة نخضع لهم ونعبدهم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه