نصر الدين قاسم يكتب: الجزائر.. ونغمة الفاشلين!

ومر أكثر من نصف قرن ولايزال الجزائريون يسمعون الجعجعة نفسها ولا يرون طحينا!.. ومذ استقلت الجزائر، وهي تعرف الأزمات ذاتها.. أزمات مستعصية ومستديمة، ولا يزال يقدم التبرير نفسه ” الشعب هو المسؤول”..

نصرالدين قاسم*
أثار مشروع قانون المالية الجديد (2016) سخط الطبقة السياسية الكبير، ورفضها للزيادات التي أقرها في أسعار بعض المواد، وتنديدها بسياسة الحكومة التي تلجأ إلى جيب المواطن لمواجهة انهيار أسعار المحروقات، واستدراك عجزها الشامل في تسيير أمور البلاد..
يكاد يجمع نواب “المجلس الشعبي الوطني”، (الغرفة السفلى للبرلمان) وزعماء الأحزاب السياسية والمختصون أن مشروع قانون المالية المعروض للمناقشة من طرف نواب غرفتي البرلمان استفزاز صريح للشعب، يهدف إلى تفقير الجزائريين وتجويعهم، وهذا في حد ذاته جريمة وإعلان حرب ضد المواطن، كما قالت رئيسة حزب العمال، وهي من مؤيدي الرئيس والمدافعين عن برنامجه الرئاسي .
 فلأول مرة تعمد السلطات في الجزائر إلى إقرار رفع أسعار الكهرباء والغاز والبنزين والمازوت وقسيمة السيارات والإنترنيت.. وغيرها دفعة واحدة، ودون مراعاة لقدرة المواطنين الشرائية ولا حساسية الظرف والغليان الشعبي الذي يهدد بالانفجار في أية لحظة.
بعض السياسيين والخبراء لم يذهبوا من أبواب متفرقة ليؤكدوا أن القانون وضعه بارونات الجزائر الجدد، والإشارة واضحة لما يسمى “رجال الأعمال” أي المليارديرات الجدد الذين صنعتهم السلطات لتستقوي بهم وتخوف بهم مناوئيها، وتضعف نفوذ المليارديرات السابقين الذين صنعتهم سلطات بائدة.. فقد أضحى معروفا في الجزائر أن كل فريق يصل الحكم يصنع ملحقاته أو يشتريها، من مليارديرات وحلفاء سياسيين، ومؤيدين من مختلف القطاعات والتخصصات والفئات..
إعلان بالفشل.. واعتراف بالعجز
تفاصيل وترتيبات قانون المالية الجديد، هي في الحقيقة إعلان صريح بالعجز، واعتراف مباشر بالفشل في تسيير أمور البلاد والعباد في دولة ظلت طيلة أكثر من عشرية ونصف تكتنز من الأموال ما أسال لعاب صندوق النقد الدولي وكبريات القوى الاقتصادية في العالم، لتتحول بين عشية وضحاها إلى دولة في أزمة خانقة تتهددها الفاقة والفقر والندرة وكل مساوئ الدنيا ما ظهر منها وما بطن!؟
لقد فاقت مداخيل الجزائر من البترول في الفترة ما بين 2000 و2014 أكثر من 730 مليار دولار (حسب دراسة نشرتها مجلة “سياسة خارجية” الصادرة عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية)، – وأكثر من 800 مليار دولار حسب أرقام غير رسمية –  وبلغ احتياطي الصرف نهاية 2014 زهاء 180 مليار دولار، ومع ذلك وقبل أن تمر بضعة أشهر على انهيار أسعار النفط حتى دقت السلطات الجزائرية ناقوس الخطر واختلطت عليها الأمور واختلت لها الموازين، فقفزت مباشرة إلى مطالبة الشعب بالتقشف وشد الحزام، وبادرت إلى رفع الأسعار ليدفع المواطن البسيط فاتورة فشل حكامه  في إدارة الشأن العام والحيطة والحذر واتخاذ تدابير مواجهة أي طارئ..
الشعب يأكل كثيرا.. ويلد كثيرا
الحكومات في كل أنحاء الدنيا تعكف على البناء والتنمية، وتحتاط للطوارئ وتعد المخططات لمواجهة أسوأ الاحتمالات في عز الراحة المالية والاقتصادية، وتغتنم الفرص المتاحة لتحقيق أكبر نسبة من الانجازات والمكتسبات التي تدفع الاقتصاد وتطور البلاد.. وتفكر في برامج طموحة تؤسس لاقتصاد منتج للخيرات والمنافع لتحرك عجلة التنمية الشاملة في مختلف القطاعات.. إلا في الجزائر، فلا أحد يكلف نفسه عناء التفكير في المستقبل، بل لا يجتهد حتى في عقلنة وترشيد تسيير الحاضر حتى تنفجر الأزمة فيهرع الجميع إلى تحميل المواطن المسؤولية وتحميله عناء دفع فاتورة تقاعسهم وفشلهم ورداءتهم.. فالسؤال الذي يطرحه معظم الجزائريين اليوم – وقد حطت الأزمة رحالها وأرخى الشك والخوف سدوله على مستقبل البلاد – أين كان هؤلاء، وماذا كان يفعل الوزراء  والمسؤولون عندما كان سعر البرميل يتجاوز المائة دولار أمريكي؟.. ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة في بلد شاسع الأرجاء تتجاوز مساحته مليوني كيلومتر مربع، ولا يتجاوز عدد سكانه أربعين مليون نسمة معظمهم شباب يمثلون طاقة بشرية هائلة، ويزخر بخيرات وثروات طبيعية متنوعة، وإمكانيات زراعية حيوية.. 
منذ استقلال الجزائر ومختلف الحكومات تلوك الحكاية نفسها : تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد على البترول كمصدر وحيد للعملة الصعبة، ومورد وحيد للتصدير.. ومر أكثر من نصف قرن ولايزال الجزائريون يسمعون الجعجعة نفسها ولا يرون طحينا!.. ومذ استقلت الجزائر، وباستثناء فترة وجيزة عرفت فيها البلاد محاولات نهضة اجتماعية واقتصادية وثقافية (في السبعينيات)، فشلت أو أُفشلت، والجزائر تعرف الأزمات ذاتها.. أزمات مستعصية ومستديمة، ولا يزال يقدم التبرير نفسه ” الشعب هو المسؤول”.. أزمة السكن خانقة لأن الشعب يلد كثيرا، وعوض توفير السكن والتفكير في طرق مبتكرة لفك العقدة ظلت السلطات تتجرأ على الشعب فطالبته بما يسمى تباعد الولادات ووفرت حبوب منع الحمل في المستشفيات والمصحات بكميات هائلة ومجانا..
وعندما عجزت عن توفير الغذاء للجزائريين، بعدما دمرت الفلاحة والزراعة في البلاد بفضل سياساتها الكارثية وتسييرها الرديء، قالت أيضا إن الشعب يأكل كثيرا، فحرمته من الكثير من الضروريات والأساسيات.. حتى أتى على الجزائريين حين من الدهر قال فيه أحد المسؤولين السامين – وهو أحد عناوين الفشل والرداءة بامتياز – ليس ضروريا أن يأكل الجميع الياوورت “أي اللبنة”…
وعندما فشلت في بناء المدارس وتوفير المقاعد والطاولات لأبناء الشعب، وتمكينهم من حقهم في التعليم، قالت ابن الفلاح يبقى فلاحا، وابن العامل عاملا، و لا يعقل أن يصبح قاضيا أي كان.. بل وراح بعضهم يسوق المثل الشعبي القائل: أنت مير (أي رئيس بلدية) وأنا مير، فمن إذن يسوق الحمير..”
تركيا نموذجا…!
وعندما عجزت الحكومة الجزائرية في توسيع شبكة الطرقات وصيانة المهترئ منها، تحججت بأن الجزائريين يشترون السيارات بكثرة، ففرضت المزيد من الضرائب، بعضها اُقر صراحة لثني الجزائري عن اقتناء سيارة، ولم يستح رئيس الحكومة آنذاك من إذاعة ذلك وتأكيده.. وعندما فاضت الوديان وانهمرت السيول وجرفت البشر والديار والشجر والحجر وخلفت المأساة في العاصمة وغرداية وغيرها.. لم تشعر الحكومة بالمسؤولية في ذلك ولم تعترف بالتقاعس والانسحاب واللامبالاة وأشارت إلى المواطن بالبنان هو الذي بنى في الوديان، وسدَّ المجاري… وسبَّبَ الكارثة.
وعندما ثار المواطن ضد الغبن والقهر والاضطهاد، واحتج ضد الديكتاتورية والاستبداد، خونوه وخوفوه بسيناريو ليبيا وسوريا والعراق، وقالوا هؤلاء شرذمة قليلون يحركهم بيرنار ليفي، وما أسموه داعمي “الخراب العربي” في إشارة لثورات الربيع االعربي..! 
وهذا هو ديدن السلطات في الجزائر، ديدن الفاشلين، تتقن كل شيء إلا التسيير الرشيد والتفكير السديد، والقدرة على تصور وتجسيد ما يفيد العباد والبلاد ويصنع سعادة الانسان بتوفير أسباب الرقي والازدهار.. وهذا هو درب المسؤولين الجزائريين، درب  العاجزين الذين لا يحسنون التصرف، ولا يعرفون من أساليب الادارة إلا كيفية إرضاء مسؤوليهم بالسمع والطاعة، لا يقترحون ولا يصلحون ولا يتحركون إلا بعد الخراب، وباتجاه أسهل الحلول وأسوئها.. وهذا عين الفساد والإفساد.. ناهيك عن الفساد عينه الذي نخر الاقتصاد وحرم الجزائر والجزائريين من نهضة اقتصادية كانت في متناولها، حققتها دول أخرى في الفترة نفسها وبموارد أقل لكن بكفاءة كبيرة وتفان في خدمة البلاد،  وما تركيا عن الجزائر ببعيدة..

_____________________________

*كاتب وصحفي جزائري 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه