نحن .. ومتعة الاكتشاف

للاكتشاف متعته الخاصة التي جعلت منه دافعاً أقرب للغريزة تبدأ مع الطفل منذ بداية تشكل حواسه، وغالباً نجد أنفسنا بحالة توق للمعرفة… عندما كنّا صغاراً كانت النّوافذ المفتوحة على العالم الخارجي محصورة بحكايات الجدات والمجلات المصورة والآفاق الممتدة أمام أنظارنا في تلك البرية الواسعة..

الطبيعة كانت تمنحنا كلّ ما تحتاجه الحواس بدءاً من التعامل مع تقلبات الطقس إلى اكتشاف أنواع الأعشاب في الربيع والزهور وحشرات الأرض والتعامل مع الحيوانات.. والحكاية كانت تمنحنا المقدرة على اكتشاف أنفسنا من خلال تمثلنا للأحداث وإعادتها بأسلوب مختلف عما سمعناه.

أمّا المجلات المصورة فقد كانت نافذة ملونة مفتوحة على بلاد لا نعرفها لكننا نحاول الوصول إلى خصوصيتها من خلال الصور المقترنة بمقال أو حكاية وكانت تلك المجلات التمهيد الجميل الذي أدخلنا فيما بعد عالم الكتب حيث المعرفة المكثفة ومتعة الكشف المدهشة، نستطيع القول إنّ الاكتشاف بحد ذاته هو غريزة كامنة تنميها البيئة والظروف المحيطة بالإنسان منذ طفولته.

التّعلم بالاكتشاف:

ربّما يكون سقراط قد سبق عصره حين وضع أسس التّعلم بالاكتشاف عن طريق محاورة طلابه وجعلهم يجيبون على الأسئلة ويكتشفون بأنفسهم الحل لما يشغل تفكيرهم.. وأخذ كثيرون عن سقراط طريقته في التّعليم، فقد أوصى أفلاطون باعتماد الحوار والمناقشة في التّعليم عبر الاكتشاف والاستقصاء لتنمية جوانب متعددة في العقل.

وذهب “جان جاك روسو” إلى ضرورة التّعليم عن طريق الاكتشاف ليستطيع طالب العلم أو التلميذ أن يكتشف العلم باستخدام عقله بدل الاعتماد على عقول الآخرين.

وقد اعتمدت بعض الدول المتطورة هذا الأسلوب في التعليم المدرسي.

لكن أين نحن من هؤلاء؟

ما زال التعليم في بلادنا يعتمد على الطرق البدائية في الحفظ وتلقين المعلومات، وربما يكون من الطريف أن نربط طرق التلقين في مدارسنا بالمشايخ، فهي الطريقة التي اعتمدها المشايخ في تلقين الأولاد في “الكُتَّاب” وهي الطريقة نفسها التي اعتادوا أن يلقنوا بها الأموات حين دفنهم؛ لذا خرجت من بين أيديهم أجيالٌ بقي الجزء المفكر من عقولها مدفوناً تحت ركام مفاهيم جامدة.

وعلى الرغم من تبجحنا وفخرنا الدّائم بأنّ العرب علّموا الغرب وكانوا في أوج تطورهم حين كانت أوربا غارقة في عصور الظلام فقد توقفت حركة التاريخ عند هؤلاء وتحول العرب إلى مستهلكين ومستنزفين وغير قادرين على مواكبة حركة التّطور التي تجاوزتهم بسنين ضوئية. هذا بغض النظر عن بعض العلماء الذين احتكرهم الغرب ولم يستطيعوا إفادة أوطانهم بعلمهم.

تصنيع القطيع البشري:

قد يكون التّعليم الذي يعتمد على العصا وعقل الكبير الذي لا يمكن مراجعته ولا مناقشته السّبب الرئيس في صناعة أجيال يسهل على الحكّام سوقها واستعبادها وتلك الشّعوب التي تعلّمت على انحناء الرأس للعصا وتجرّع المعلومات كالدواء لن تقدر على مناقشة حاكم يملك مصيرها ويتصرّف بحياتها حسب هواه. وعلى الرغم من أنّ العالم تحوّل في العقود الأخيرة إلى قرية كونية صغيرة بسبب التّطور الرهيب وثورة المعلومات إلا أنّ ذلك حرم طلاب العلم من ميزة الاستقصاء والتّعب في الحصول على معلومة بسيطة، وقد انقلبت المفاهيم أيضاً وأفرغ “الاكتشاف” من معناه ومضمونه وأصبح سلبياً تماماً، فقد سهّل التّطور التكنولوجي وصول المعلومات للإنسان المعاصر بطريقة أصبح فيها سفنجة تمتص المعلومات وتكررها من دون تفكير، ويمكن ملاحظة ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي الحافلة بسرقة “المنشورات” وتذييلها بأسماء غير أسماء أصحابها وذلك بطريقة سهلة جداً “نسخ ولصق” حتّى عناء كتابة المنشور غير متوفرة! هذا أيضاً يقود إلى تشكل “قطيع” الكتروني يجترُّ معلومات مقننة ويعيدها ويوقع عليها الآخرون “بلايك” من دون أن يتوقفوا قليلاً للتفكير والتّحليل والاستنباط!

والأخطر من ذلك فقد أسهمت الشبكة العنكبوتية والتّقدم المذهل لوسائل التّواصل بربط الأجيال الصّغيرة ارتباطاً وثيقاً بها بحيث أشبعت لديهم هذا النهم للكشف والمعرفة؛ لكنّه كشفٌ موجه ومعرفة موجهة جعلت من الفرد تابعاً أبدياً.

ما الهدف من هذه الصناعة؟

عن مسرحيته الشهيرة “حياة غاليلي” يقول المسرحي الألماني برتولد بريخت إنّه كتب تلك المسرحية ليفضح التواطؤ بين الكنيسة والسلطات الحاكمة ضدّ أصحاب الفكر المتنور كي يبقى العامة على جهلهم ويسهل اقتيادهم والسّيطرة عليهم.

جاء في المسرحية حوار بين العالم الإيطالي غاليليو مع رئيس الجامعة شرح غاليليو فيه للرئيس حركة الكواكب والأقمار وكيف تدور الأرض وأنّها ليست المركز كما تدّعي الكنيسة.. سأله بعدها: “هل اقتنعت معي أنّ الأرض تدور حول نفسها؟” ردّ رئيس الجامعة: “نعم اقتنعت”.. قال غاليليو: “هل ستعلن ذلك للعامة من الناس؟”.

قال له: “طبعاً لا، لأنّ العامة إذا عرفوا أنّ الأرض تدور سيعرفون أنّ الكرادلة يدورون والملوك يدورون أيضاً”. بهذه الكيفية صنع الكرادلة والملوك في الغرب القطيع وساقوه وجاءت الثورات لتطيح بهؤلاء وتقفز قفزات نوعية في التّطور الفكري والعمراني والعلمي.. ويجب ألا ننسى أنّه في المجتمعات المتخلفة ثمّة أناس كثر يناضلون في سبيل استمرار عبوديتهم وهؤلاء ينظرون إلى كلّ ما هو ثوري نظرة ازدراء وعداء.. وهؤلاء ليسوا قلة في مجتمعاتنا بل هم الشريحة الكبرى المكتفية باستهلاك كلّ ما وصل إليه الغرب من الاختراعات وصبّ اللعنات على بلاد الكفر.. وبهذه الكيفية سيطرت الدول الكبرى على مصائرنا ووضعت يدها على ثروات بلادنا.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه