منديل الفراق يا سلطان “الخوازيق”

(1) مفقود في الثالث من يوليو

يعود الجنود من الحرب أحيانا ليقاتلوا في الداخل، ضد أولئك الذين تاجروا بدمائهم، وأفسدوا كل معاني الشرف والوطنية، فعلها “حسن عز الرجال” ضد الخائن فرج الأكتع الذي سرق ثمرة النصر ومرتبات الجنود، في فيلم “كتيبة الإعدام” من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج عاطف الطيب، كما فعلها “رون كوفيتش” في فيلم “مولود في الرابع من يوليو” الذي أخرجه “أوليفر ستون” عن قصة حقيقية لجندي أمريكي شارك في حرب فيتنام مشبعا برومانسية المجد الأمريكي التي روج لها الإعلام الأمريكي كحرب للكرامة الوطنية في مواجهة الأوغاد الشيوعيين، وكان والد “رون” قد اعترض على تطوعه للتجنيد، فقال له الشاب البريء: لماذا تحرمني من شرف الحرب تحت علم البلاد؟، وهو الحلم الذي ظل يلازمني منذ كنت طفلاً. سأذهب إلى فيتنام وأتمنى لو مت هناك من أجل عزة البلاد.

ذهب “رون” وحارب، لكن “رون” الذي ذهب لم يكن هو “رون” الذي عاد، فقد صدمته الحقائق المفزعة عن خدعة الحرب، وهناك في أوحال الغابات اكتشف الحقائق الصادمة والوجه القبيح لسلطة بلده، وخداع الشعارات الزائفة.. لقد عاد مشلولا فاقداً خصيتيه، مثخناً بجروح غائرة في ضميره الإنساني، وتجلطات دموية في ذاكرته المحشوة بأشواك الذنب ومشاهد القتل العشوائي لمدنيين بينهم أطفال ونساء. هكذا فجعته الخديعة، وقرر الانقلاب على سلطات بلاده فشارك في الاحتجاجات والمظاهرات ضد الحرب التي كان مقاتلا فيها، قبل أن يكتشف أنه لم تكن حربه، بل كانت حرب الجشعين ضد الفقراء، وبهذا المعنى فهي لم تكن ضد فيتنام وفقط بل كانت ضده هو نفسه، وضد قيم العدل والإنسانية بشكل عام.

المفارقة العامة أن الفيلمين تم إنتاجهما وعرضهما بالمصادفة في التوقيت نفسه، والمفارقة الخاصة أنني تذكرتهما معا بلا سبب واضح، إلى ذكرى الثالث من يوليو. ربما يكون للخداع دور كبير في هذا الربط، وربما تكون خطبة رون كوفيتش التي قال فيها: هذه السلطة كذبت عليّ، وعلى إخوتي. لقد خدعونا، و زجوا بنا في حرب غير شريفة… لذلك أشعر تجاه هذه الحكومة بالاشمئزاز.

(2) حفلة على الخازوق

العنوان لمسرحية شهيرة استلهمها محفوظ عبد الرحمن من أجواء ألف ليلة وليلة، عن ظلم السلطة التي تتحول إلى عصابة تسرق الشعب وتنكل به وتلفق للأبرياء التهم وتلقي بهم في السجون، وفي مسرحية عبد الرحمن كان السلطان مغيباً لا يعلم بما تدبره الحاشية الفاسدة، لكن في واقعنا كان السلطان شريكا في الخديعة، بل كان هو بنفسه مهندس القمع، والمحرض على السلب والنهب والتلفيق والتكميم والتفريط في كل شيء، حتى شرف السلطنة التي استولى على حكمها مستخدما الحيلة وإدعاء الفضيلة، ولما تمكن تخلص من كل الشركاء ليصبح وحده المتصرف في البلاد والعباد.

أظنكم فهمتم الآن لماذا قفز عنوان المسرحية إلى ذهني وأنا أتذكر حفلة 3 يوليو قبل 4 سنوات، لأنها كانت “حفلة على الخازوق”، فالشركاء خرجوا من المشهد بطرق مختلفة، ومن بقي منهم بقى كتابع يدور في ركاب السلطان المخادع، فقد كان البرادعي أول “المتخوزقين” بعد أن تلقى مكالمة صادمة قال له فيها محدثه: لم نفسك وإلا هندمرك”!.. تصريح خطير ومخيف، تجرأ شخص ما، فقاله بكل صلف مهددا “نائب رئيس الجمهورية”، ومستهيناً بالجبهة السياسية التي يمثلها، والتي تتضمن كل الأحزاب والقوى الفاعلة تقريباً، هذه الوقاحة تكشف أن “الخازوق” كان معدا للجميع منذ البداية، لكن تأخر البرادعي في التصريح بما حدث أعطى سلطة القمع والترويع فرصة لتمكين نفسها، ثم توالت “الخوازيق” لتقصي أو “تستعبد” جميع الشركاء الذين كانوا على المسرح السياسي (أزهر وكنيسة وشباب وحزب نور وممثلة المرأة)، حتى لم يعد على المسرح إلا “سلطان الخوازيق” المتغطرس.. المتفاخر بحكمته الربانية، الذي يخاوي الجن الأحمر، ويرتدي الخاتم الأسمر، ويؤمن بتعاويذ شمس المعارف الكبرى، يحلم بالسيف الموعود في المنام، وعنما يعود إلى الواقع يهذي بالمعجزات والأعاجيب التي يأتي بها، بينما يخفي وراء الظهر خنجراً للغدر، وفي الكُم يخفي منديلاً… نأمل أن يكون كما نقول في الأمثال: نبوءة بالفراق.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه