مناضل من أجل الديمقراطية

بعد ثلاث تجارب انتخابية ديمقراطية ناجحة وآمنة في ثلاث دول أوربية هذا العام 2017 ” هولندا، فرنسا، ألمانيا مؤخرا” أفرزت نتائج عديدة مفاجئة، وصاغت خرائط سياسية وحزبية جديدة، وكان بعضها مثل زلزال سياسي، فإن الخلاصة لنا كبلدان لاتزال تخاصم الديمقراطية، أن السياسة الصحيحة تبدأ وتنتهي من نقطة مركزية مفصلية، وهي حكم الديمقراطية.

وأن الدول تبدأ طريق الخروج من أزماتها، وتحسين أوضاعها، والوقوف على قدميها، ثم الانطلاق نحو منظومة التقدم والتحضر من باب وحيد هو الديمقراطية.

ويبدأ الإنسان استرداد حريته وكرامته، وهما هبة الله له، وحقه الأصيل منذ ولادته إلى حين رحيله، من ممارسته للديمقراطية.

لماذا تقدم الغرب، ولماذا تتقدم دول في الشرق؟ الوصفة ليست سرا، ولا لغزا، هي الديمقراطية.

الحياة حقوق وواجبات، والحق في الاختيار هو أحد أعلى الحقوق الإنسانية، حق الشخص في أي مكان أن يختار طريقة حياته ونمط عيشه، وحقه في أن يختار من يحقق له رغباته الشخصية، وخياراته العامة فيمن يقود بلاده، ويصنع سياساتها الداخلية والخارجية، وعندما يتوفر له هذا الحق فإنه سيكون مواطنا كامل المواطنة، منتميا، متفاعلا، مشاركا، مندمجا، بلا غضب كامن، ولا خوف قاتل، ولا احتقان مدمر، ولا تطرف في الفكر أو السلوك.

تستحق أوربا حضارتها الحديثة التي بنتها على قواعد الحرية، والديمقراطية، والكرامة للإنسان باني الحضارة في كل زمان ومكان، الحضارة لا يبنيها إلا الأحرار، حضارة العبيد شائهة تنهار سريعا، كما تستحق أمريكا شريكة أوروبا في الحضارة قيادة العالم بفضل إرثها الديمقراطي الذي يمنحها الصدارة قبل قدراتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة، ويستحق كذلك من يتشاركون معهم هذه القيم في العالم أن يتصدروا في مناطقهم الجغرافية وقاراتهم، وأن يشكل هؤلاء ما اُصطلح على تسميته العالم الحر الديمقراطي.

كهوف الظلام

كلما مارس هذا العالم تجربة ديمقراطية انتخابية نكتشف الفارق الذي يتسع بين ما هم عليه، وبين ما نحن عليه في عالمنا العربي والإسلامي الذي لا يريد أن يغادر كهوف الظلام والاستبداد رغم أنه يؤمن بدين جوهره الحرية والتحرر.

لا أحد سيدعم المواطن المقهور، وينتزع له حقوقه كاملة إلا هو نفسه، فلا ننتظر من الألماني الذي صوت قبل أيام لاختيار من يحكمه أن يأتي على رأس حملة للديمقراطية لترويجها وزرعها في صحاري بلادنا، ولا أحد ينتظر من الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون أن يفاتح الذين يتوافدون عليه في قصر الإليزيه في أن الديمقراطية هي من صنعته، وجاءت به من مؤخرة الصفوف ليتسيدها، ويطيح بقامات سياسية وحزبية كبيرة ليدخل التاريخ، وأن ذلك أفضل لهم ولبلدانهم وشعوبهم.

ولا يتصور أحد أن يكون على أجندة مباحثات الرئيس الأمريكي ترمب قضايا الانتخابات النزيهة في بيئات تنافسية كما خاضها هو في بلاده، ولا التداول السلمي للسلطة، ولا ملفات حقوق الإنسان المنتهكة بشراسة ومرارة عندما يحج القادة إلى البيت الأبيض، ويجلسون أمامه، ويستمعون لنصائحه وتوجيهاته وتعليماته.

الغرب الذي يتمتع بمخرجات الديمقراطية، لا يعنيه كثيرا أن يدعو بلادا أخرى إليها، أو يضغط للالتزام بها، مصالحه قد تمنعه من الحديث بشأنها ولو من باب التذكرة، تلك الحقوق تنتزعها الشعوب بيديها، ولا تمنحها لها قوة خارجية، ولا تعمل نيابة عنها لإقرارها، هذه كانت رسالة الربيع العربي حتى لو لم تتحقق كاملة.

الحرية من الحقوق الأصيلة للشعوب والأمم، أنت كمواطن بائس لا تنتظر من يطعمك، أو يسقيك، أو يؤدي عملك نيابة عنك، أو يحررك من قيودك، أنت صاحب الشأن الوحيد في هذه القضايا، ولا يمكن أن يكون غيرك بديلا لك فيها، الشعوب المستعدة للخروج من سجونها وتقودها نخبها الواعية تحقق غاياتها في حياة حرة كريمة.

لن يجهز الغرب جيوشا من المفكرين والمثقفين والسياسيين ودعاة الحرية والحقوق تجوب بلدان التصحر الديمقراطي لإقناعها أن هذا المنتج الفكري البشري الصالح لكل مكان هو طريق النجاة والخروج من الأزمات.

غض الطرف

لكن ما يؤخذ على العالم الحر هو تعامله مع خصوم الديمقراطية، وتشجيعهم، وفتح أبوابه واسعة لهم، وغض الطرف عن جرائمهم السياسية بحق شعوبهم، نعلم أن براغماتية السياسة تتغلب على قيم الإنسانية، والمصالح لا تزال تتفوق وتهزم المبادئ في معركة المنافع، الدول الحرة تعلم أن العالم صار أكثر قربا وتشابكا وتداخلا مع بعضه البعض، وعليها أن تدرك أن المشاكل التي تطالها اليوم وستظل تطالها، منبعها غياب الديمقراطية، وتفاقم الأزمات والقمع والانتهاكات في البلدان التي تتعامل معها وتتعاون مع حكامها المستبدين، تلك البلدان صارت طاردة بشرا وغضبا وأزمات ناحية العالم الحر، ولن تنفع الأسوار المادية والقانونية التي تعيد بنائها وتشريعها لحمايتها من مآس وكوارث تشارك في صناعتها، وعندما يضربها الإرهاب الفردي فإن ذلك ارتداد لظواهر الإرهاب المستفحلة في البلدان منبع هذه الآفة التي تجد مناخا وتربة وأسبابا للنشوء والانتشار في ظل غياب حرية الفرد وحرية المجتمع.

الديمقراطية المشوهة، الديمقراطية الطائفية القائمة على المحاصصات، التي قررها المحتل الأمريكي هي التي أنتجت الفوضى والعنف والإرهاب والمظالم في العراق، حالة العراق المأساوية، ونزوع الأكراد للانفصال، هو حاصل تلك الحالة، والديكتاتورية في سوريا قادت إلى الحرب، وقتل الألوف، وتشريد الملايين، والغرب تقاعس عن التدخل للحل السريع والعادل، وهو يمتلك القدرة على ذلك، هذان البلدان هما مصدر مهم للأشخاص، أو الأفكار، أو التنظيمات التي تقف وراء عمليات الإرهاب التي تستهدف بلدانا غربية، فهي تجني بعض الثمار المرة لعدم القيام بدورها الدولي المنوط بها.

هناك أسباب محلية لنشوء الإرهاب المنظم عبر جماعات، وكيانات، وكذلك الإرهاب الفردي، وهناك أسباب محلية للغضب، والاحتقان، والاستقطاب، وهي دوافع إما للانعزال، أو السقوط في بئر العنف، لكن هناك دور تتحمله الدول الكبرى والقائدة التي ترفع شعارات الحريات والديمقراطية، تلك الشعارات إنسانية عامة، ليست قصرا علي بلدانها وشعوبها فقط، إنما هي حق لكل البشر على وجه الأرض، من الواجب الأخلاقي أن تتصدى لمن ينتهكها، ولا تمنحه فرصا متتالية للتهرب من مسؤولياته تجاه التوقف عن الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان، وتضغط عليه للعودة للمسارات الصحيحة، الشعوب لا يجب أن تظل أسيرة أنظمة القمع بلا معين أخلاقي لها.

رغم أن أونغ سان سوكي خذلت قيمها وشعاراتها في مأساة المسلمين في ميانمار، لكنها تظل نموذجا للنخبة المحلية التي تقود نضالا من أجل الديمقراطية في بلادها، وقد نجحت في كفاحها حتى انتزعت حقوقا جيدة يمكن مواصلة البناء عليها، لم تزح النظام العسكري بالكامل عن السلطة، لكنها تقاسمتها معه، واستردت منه بعض مفاصلها.

ما قبل الربيع العربي

كل بلد يسعى للديمقراطية الدستورية بحاجة لقيادة شعبية تناضل، وتنظم صفوف المعارضة المشتتة، وتتحمل في سبيل كفاحها السياسي السلمي كل ما يمكن أن تتعرض له من تشهير وملاحقات، ومن أسف أن تلك القيادات التاريخية غير موجودة حاليا، أو أن هناك إحجاما عن القيام بهذا الدور في تلك المرحلة لإنقاذ الديمقراطية، أو جعل الأنظمة تعيد حساباتها، وتتجه للإصلاح وفتح المجال العام.  

قبل الربيع العربي كانت هناك أطروحات بشأن الحاكم الذي يمكن أن يكتب تاريخا له فيقود التحول، وينفذ الإصلاح الآمن، والانتقال الديمقراطي المتدرج، وكانت الفرصة متاحة لأربعة هم مبارك في مصر، وزين العابدين بن علي في تونس، وعلي صالح في اليمن الذي قال بعد غزو العراق “يجب أن نحلق لانفسنا قبل أن يحلقوا لنا”، وبشار الأسد في سوريا، وهو الحاكم الشاب الذي تلقى تعليما في الغرب الديمقراطي، لكن أخفقت تلك الرهانات، وانتهى الانسداد السياسي، والتأزم الاقتصادي والاجتماعي، إلى إشعال ثورات وانتفاضات نجحت في تونس، وكذلك في مصر، ثم تعرضت أهدافها للانكسار، وفشلت في سوريا وقادت إلى حرب دموية تجاوزت 6 سنوات، كما دخل اليمن وليبيا في فوضى واقتتال أهلي، أيضا، وأوضاع بقية الخريطة العربية التي لم تشهد ربيعا ليست أفضل، لكن المغرب حالة جيدة في الإصلاح الذاتي الطوعي تجنبا لانفجارات داخلية، وتقديري أن استعادة حراك الثورات مجددا قد يكون صعبا، وقد يحمل مخاطر كبيرة، وربما لا يلقى قبولا جماهيريا رغم أن كاهل الشعوب مثقل بالضغوط والحياة القاسية، لذلك لا يبقى غير النضال الديمقراطي السلمي، وشرطه الأساسي وجود الشخص القائد المستعد للتضحية مثل سوكي في ميانمار، ورائيلا أودينجا زعيم المعارضة في كينيا الذي فرض واقعا جديدا في هذا البلد يقوده للتحسن الديمقراطي، وكذلك المناضلين في بلدان أمريكا اللاتينية الذين كافحوا لأجل التحول الديمقراطي في بلدانهم عبر الانتخابات مثل الراحل تشافيز في فينزويلا، ولولا دا سليفا في البرازيل، وأبرز قائد عالمي في التحول الأصعب كان نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا الذي ضحى كثيرا لمجابهة العنصرية، ثم استعاد الديمقراطية ورسخها في بلادها، وتركها لشعبه لتكون القيمة الأثمن بعد إنهاء الفصل العنصري.

العالم الحر، ولو كان مصلحيا، ومتخاذلا، ولا ينشغل بمعاناة الشعوب الأخرى كثيرا، لكنه سيكون مجبرا على الوقوف معها عندما تقف هي مع نفسها أولا، لا يحك جلدك مثل ظفرك، والهولنديون، والفرنسيون، والألمان، وغيرهم، الذين اختاروا من يحكمونهم، ورفعوا من أرادوا، وأنزلوا من أرادوا من أحزابهم وقادتهم، لم يجدوا الطريق معبّدا، بل خاضوا نضالا طويلا حتى آمن الجميع، شعوبا ونخبا ومؤسسات، أن الديمقراطية، ولا شيء غيرها، هي قارب النجاة لبلوغ شطآن الأمان لأي بلد في أرض الله الواسعة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه