من ناصر السّعيد إلى خاشقجي: الخطفُ منهجًا

لن يكون اختطاف جمال خاشقجي الاختطاف الأخير الذي ينفّذه حكّام آل سعود؛ ما داموا طليقي اليدّ يشترون صمت العالم الذي يدّعي التحضّر ويرفع عقيرته دفاعًا عن حقوق الإنسان بالرِّشى

 

ويا ناصرَ بنَ سعيدٍ

إذا كنتَ حيًّا بسجنٍ

وإن كنت حيًّا بقبرٍ

فأنتَ هنا بيننا ثورةٌ عارمة

 

الخطفُ منهجًا

بهذه الكلمات من قصيدته الأساطيل؛ رثى مظفّر النوّاب أوّل المعارضين السّعودييّن ناصر السّعيد المولود عام 1923م، والذي قضى عمره في معارضة نظام حكم آل سعود، وأصدر العديد من الكتب أشهرها “تاريخ آل سعود”، وتنقّل في البلاد هاربًا من بطش آل سعود ليحطّ به المطاف في بيروت ـ محطّته الأخيرة ـ حيث اختفى اختطافًا على يد سفارة الملك فهد في بيروت يوم 17 ديسمبر “كانون الأول” من عام 1979م بمساعدة أحد أصدقائه الفلسطينيين من منظمة التحرير، وبالترتيب مع السّفير السّعودي في بيروت آنذاك علي الشّاعر الذي كوفئ بمنصب وزير الإعلام بعد ذلك.

وما يزال اللّغزُ إلى اليوم عصيًّا على الحلّ، فمن قولٍ يُنسَب إلى الحارس البريطاني الخاص بآل سعود “مارك يونغ” بأنَّ ناصر السّعيد قتلِ إلقاءً من الطّائرة على سواحل بيروت بأوامر مباشرة من الملك فهد، إلى روايةٍ أخرى بأنَّه وصل مخدًّرا في تابوت إلى السّعوديّة وهناك أشرف الملك فهد على إلقائه حيًّا من طائرة في صحراء الرّبع الخالي، وكلّ هذه الرّوايات التي لا يمكن الجزم بواحدةٍ منها لا تنفي الحقيقة السّاطعة وهي أنَّ حكّام آل سعود اختطفوا ناصر السّعيد عبر سفارتهم في بيروت، وأنّ مصيره ما زال مجهولًا إلى اليوم.

ومن ذلك اليوم إلى اليوم لم تتوقّف عمليّات الاختطاف التي اتخذتها العائلة المالكة في السّعوديّة منهجًا لها مع معارضيها الذين يختارون منافيهم في أصقاع الأرض ظنًّا منهم أنَّهم غدوا خارج القبضة الأمنيّة والانتقاميّة؛ وتتالت بعد ذلك الاختطافات لأشخاص عدّة سواءً كانوا من المعارضين، أو من العائلة المالكة الذين فكّروا في المخالفة أو الخروج من العباءة.

 ومن ذلك اختطاف محمد شمس الفاسي عام 1991م، وفي عام 2003م اختطف خمسة ملثمين الأمير سلطان بن تركي بن عبد العزيز حيث تمّ وضعه على جهاز التنفس الصناعي في “جنيف” قبل أن يتمّ نقله على متن طائرة طبية إلى السعـودية، وهو ما يتوافق مع ما قاله الأمير نفسه بعد ذلك بأنّ خمسةَ ملثمين قاموا باختطافه وغرز إبرة وحقنه في جانب رقبته، وكان هذا الاختطاف الأوّل ليكون الاختطاف الثّاني في عام 2016م أثناء توجهه إلى القاهرة على متن طائرة، وما ‏يزال رهن الاعتقال إلى اليوم في السعودية.‏

وأمَّا علَّال الفاسي شقيق الأميرة هند الفاسي زوجة الأمير تركي بن عبد العزيز؛ فقد اختطف عام 2010م في القاهرة ليتمّ تعذيبه ثمّ ينقَل إلى الرّياض جوًّا.

وفي أول يونيو 2015 نشر الأمير سعود بن سيف النصر بن سعود بن عبد العزيز على صفحته الخاصة على فيسبوك منتقدًا الأمير محمد بن سلمان:

“إذا كانت قرارات الجنرال الصغير تدور حول مصلحته الشخصية بلا اعتبار للوطن والحكم؛ فيجب الأخذ على يديه لأن قراراته تدمير للوطن والحكم.

وإذا كان الجنرال الصغير لا يُنزل الناس منازلهم ولا يحترم الكبير ويتجاوز بقيّة المعنيين بالسلطة فسوف تتجه البلاد للهاوية إن لم يبعد من السلطة”

وبعد هذه التغريدة وغيرها من التغريدات المنتقدة لنظام الحكم في السّعوديّة؛ استقلّ الأمير سعود طائرة خاصة متوجهًا إلى إيطاليا لحضور اجتماع عمل؛ ‏ولم يره أو يسمع أحد عنه بعدها.‏

وبعدها اختطف الأمير عبد العزيز بن فهد آل سعود عام 2017م، وفي شهر مايو “أيّار” من هذا العام 2018م اختطف الأمير نوّاف طلال الرّشيد من مطار الكويت، وما يزال مصيره كما غيره من المخطوفين مجهولًا، وهو ابن الشّاعر طلال الرّشيد الذي قتل في الجزائر عام 2003م في ظروفٍ غامضة أيضًا.

ليصل الأمر في هذه الأيّام إلى اختطاف الكاتب السّعودي جمال خاشقجي بطريقةٍ مافيويّة في قنصليّة يُفتَرَضُ أنَّها قنصليّةُ بلاده في إسطنبول، وهو الذي لا يملك سوى الفكرة والقلم.

لماذا الخطف أوَّلًا وليسَ سواه؟!!

إنَّ الدّول المستبدّة تعمدُ في كثيرٍ من الأحيان إلى التّخلّص من معارضيها عن طريق الاغتيال الذي يكون أقلَّ كلفةً ماديّةً وسياسيّةً من الخطف، غير أنَّ إصرار حكّام آل سعود على الخطف يستبطنُ أخلاق قطّاع الطّرق القبليّين، فعندَ قطّاع الطّرق من هذا الصّنف ترتفع ساديّة الرّغبة في الإذلال على الإنهاء والقتل، فقوانين مثل “أجيبك ولو كنت بسابع سما” و”أطق خشمك” تجعل الحاكم الذي يفور بهذه السّاديّة القبليّة يضحّي بكلّ أعراف الدبلوماسيّة، وقوانين الأخلاق، وعلاقات الدّول فيما بينها؛ ليلبّي غريزة الانتقام في نفسه؛ الغريزة التي لا يشفيها القتل بقدر ما يشفيها الإذلال؛ إذلال كلّ من يخالفه من شعبه وعشيرته وعائلته.

إنَّ التفسير الأمنيّ أو السياسي العقلانيّ لا يمكن أن يفلح في تفسير سلوك حكّام آل سعود هذا، فالغرائزيّة الانتقاميّة، والوحشيّة السلوكيّة، وساديّة الإذلال، لا تضبطها قواعد منطقية ولا يستشرف توقّعاتها التفكيرُ على أسسٍ عقلانيّة.

أضف إلى ذلك حجم الإرهاب والرّعب الذي تبثّه عمليّات الخطف في نفوس المعارضين من شعورٍ بأنَّ يد هذا النّظام طائلةٌ وقادرةٌ على الإتيان بهم مهما ابتعدت المسافات وشطّت السّبل.

وكذلك فإنَّ الرّعب يأتي أيضًا من عمليّة الخطف بحدّ ذاتها؛ فهي تحملُ معنى الوقوع تحت أيدي جلاوزة التّعذيب والتفنّن بالإهانة والإذلال والانتقام، وإنَّ المرء يفضّل الموت والاغتيال على الدخول في جلسات تعذيب لا تطيقها الجبال في معتقلات ومسالخ السّعوديّة ذائعة الصّيت، التي تنافس مسالخ القذافي وحافظ الأسد في بشاعتها وإجرامها.

لن يكون اختطاف جمال خاشقجي الاختطاف الأخير الذي ينفّذه حكّام آل سعود؛ ما داموا طليقي اليدّ يشترون صمت العالم الذي يدّعي التحضّر ويرفع عقيرته دفاعًا عن حقوق الإنسان بالرّشى.

 ولن يكون مصير جمال خاشقجي مهمًّا كثيرًا إلَّا بقدر ما يمتنع ابن سلمان عن الدّفع مقابل الحماية والصّمت على الإجرام.

وستبقى القنصليّات والسّفارات أوكار جريمةٍ، ومباني رعبٍ، ما دام قائد القافلةِ قاطعَ طريق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه