من غزل الفقهاء!!

 

الفكرة السائدة عن الفقهاء قديما وحديثا: أنهم أناس جامدون، يعيش كثير منهم عابس الوجه، مقطب الجبين، يخاصم الحياة، هذه صورة نمطية عن الفقهاء والمشايخ، وبخاصة في الإعلام والسينما، فضلا عن أن يكون لهم إسهام في الشعر، وبخاصة شعر الغزل، وهذه صورة غير صحيحة بالمرة، فالفقهاء في الإسلام لا يعيشون منعزلين عن حياتهم، ولا مجتمعاتهم، ولا بشريتهم، وقد عقد الإمام ابن القيم فصلا كبيرا في كتابه: (الداء والدواء) عن العشق والحب، وبين في مقدمته أهميته، ونقل عن أحد الشعراء العلماء قوله عن الحب:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى      فقم فاعتلف تِبْنًا فأنت حمار

وتراثنا الفقهي والفكري مملوء بالشعر والنثر عن الحب والغزل للفقهاء، وهذا ما أثبته الأديب والفقيه الكبير الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في رسالته الوجيزة المهمة: (من غزل الفقهاء)، وقد نشرها منفردة، وضمن كتابه (فكر ومباحث)

وقد بدأ رسالته بنقاش دار بينه وبين أحد المشايخ يلومه على كتابته مقالا عن الحب، ويعتب عليه كيف لقاضٍ وشيخ مثله أن يكتب عن الحب، وليس يليق بمقام القاضي والعالم الحديث عن الحب والغزل، فكانت رسالة الطنطاوي التي كانت مقالا في مجلة الرسالة، بعنوان: (من غزل الفقهاء)، والتي انتقى فيها شعرا لعدد من الفقهاء المعتبرين. وقد سبق هؤلاء الفقهاء، رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سمع قصيدة كعب بن زهير، والتي يقول في مطلعها شعر الغزل في (سعاد) في عدة أبيات من قصيدته، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسمع شعر الغزل، وكذلك عبد الله بن عباس كان يصغي إلى إمام الغزلين عمر بن أبي ربعية، ويروي شعره، وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:

اليوم عندك دلها وحديثها      وغدا لغيرك كفها والمعصم

وأن سعيد بن المسيب سمع مغنيا يغني:

تضوَّع مسكًا بطن نعمان أن مشت      به زينب في نسوة خفرات

فضرب برجله، وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها       وأبدت بنان الكف للجمرات

وعالت فتات المسك وحفا مرجلا         على مثل بدر لاح في الظلمات

وقامت تراءى يوم جمع فأفتنت          برؤيتها من راح من عرفات

فكانوا يرون هذا الشعر لسعيد بن المسيب!

وهذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك، يقول:

إن التي زعمت فؤاد ملها        خُلقت هواك كما خلقت هوى لها

فبك الذي زعمت بها وكلاكما    يبدي لصاحبه الصبابة كلها

ويبيت بين جوانحي حبّ لها     لو كان تحت فراشها لأقلها

ولعمرها لو كان حبك فوقها      يوما وقد ضحيت إذن لأظلها

وإذا وجدت لها وساوس سلوة    شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها    بلباقة فأدقها وأجلها

منعت تحيتها فقلت لصاحبي      ما كان أكثرها لنا وأقلها!

فدنا فقال: لعلها معذورة         من أجل رقبتها، فقلت: لعلها

هذه الأبيات بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل!

وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، يقول من شعر الغزل:

شققت القلب ثم ذررت فيه        هواك فليم فالتأم الفطور

تغلغل حب عثمة في فؤادي       فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب       ولا حزن ولم يبلغ سرور

ولم يكن يخفي هذا الفقيه شعره، بل كان إذا لقيه سعيد بن المسيب يسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ فيقول: لابد للمصدور من أن ينفث. فلا ينكر عليه ابن المسيب.

وهذا القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور، المتوفى سنة 422هـ والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون، وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفا كل يوم ما فارقتكم، حتى قال قصيدة رائعة يودع فيها بغداد منها قوله:

بغداد دار لأهل المال طيبة     وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها    كأنن مصحف في بيت زنديق

وقد كتب هذا الفقيه المالكي الكبير شعرا في الغزل بلغة الفقه والقضاء، كان مما قاله:

ونائمة قبَّلتها فتنبهت    وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحدِّ

فقلت لها إني (فديتك) غاصب    وما حكموا في غاصب بسوى الرد

خذيها وكفي عن أثيم ظلامة      وإن أنت لم ترضي فألفَا على العدِّ

فقالت قصاص يشهد العقل أنه     على كبد الجاني ألذ من الشهد

فباتت يميني وهي هميان خصرها!    وباتت يساري وهي واسطة العقد

فقالت ألم تخبر بأنك زاهد؟          فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد

وقد جمع الشيخ علي الطنطاوي في رسالته (من غزل الفقهاء) كثيرا من شعرهم، وقد ختمها بقوله: (ولو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين بعد هذا يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، أو تنزهوا عنه؟ وصدق في ذلك، فالفقهاء قالوا الشعر بما في ذلك شعر الغزل قديما وحديثا، فإذا كان أولهم سعيد بن المسيب، وقبله كعب بن زهير، وآخرهم الفقيه العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في قصيدة غزلية بعنوان: (بنت قنا) عن (القُلة القناوي) ولكن الكلام والشعر كله غزل، وحاول جمع عدد آخر من غزل الفقهاء الشيخ عبد الله كنون علامة المغرب، والفقيه المالكي، وهو باب يدل على أن الفقيه المسلم لا يعيش منعزلا عن شعوره وحياته، وأن الشرع لم يغلق هذه المساحة ما لم تتطرق لمحرم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه