من سيقود الشارع التونسي: الغنوشي أم المرزوقي؟

د. نور الدين العلوي

*

 تبدو للناظر أن هناك معركة  كامنة في أفق العلاقة بين صديقين كبيرين هما منصف المرزوقي وراشد الغنوشي على قيادة الشارع التونسي المعارض. فالمعروف والمتداول أن بين الرجلين  احترام كبير  وتقدير متبادل  منذ زمن معارضة بن علي. وقد تمتنت الصداقة  والتعاون السياسي بينهما أيام المنفى في أوروبا. وكان كلاهما معارضا جذريا لنظام بن علي لم تفلح معهما محاولات الاستئناس المتكررة. وقد أثمرت هذه الصداقة بناء الترويكا والحكم طيلة الفترة الانتقالية. ولم يغدر المرزوقي برفيقه مثلما فعل مصطفي بن جعفر عندما أغلق المجلس التأسيسي وساعد المحاولة الانقلابية.  ويقر المرزوقي للغنوشي بأنه أوصله إلى سدة الرئاسة وحمى كلاهما صاحبه سياسيا من الاستئصال عبر الانقلاب المدعوم من الخارج خاصة بعد اغتيال الحاج البراهمي في صيف 2013. لكن الحملة الانتخابية الصاخبة  للمرزوقي دقت في ما يبدو للملاحظ  إسفينا بين الرجلين ربما يؤدي إلى قطيعة جذرية بينهما.

لا شك أن الملاحظين يعرفون الثقل الذي وضعته النهضة  وراء المرزوقي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة . فجزء كبير من قاعدتها الانتخابية انحاز إلى المرزوقي ولم يكن ذلك من وراء الشيخ الغنوشي بل ربما بتحريض منه خاصة في الدورة  الأولى. لقد نصر الرجل صاحبه وذلك سر صعوده في النسب بعد أن دخل المعركة بحظوظ  تحت 10 نقاط فانتهي ب33 نقطة مقابل خصم وحيد. لكن حسابات الدورة الثانية اختلفت.

لقد أفلتت القاعدة الانتخابية النهضوية من  شيخها وانتخبت حرة  معتقدة أن الخيار الأقرب إلى نجاتها من براثن النظام القديم هو الإبقاء على المرزوقي في قرطاج كحماية لها من تغول  النظام القديم  إذا امسك بكل مفاصل السلطة التنفيذية.

وهنا برز الخلاف   لقد خاف الشيخ على جمهوره. ودخل في لعبة الحكم ما بعد الانتخابات وقد حسم الأمر عنده  بدون المرزوقي  في قرطاج. إما لأنه خضع لضغوط خارجية ضد المرزوقي أو أنه وصل إلى صفقة مع خصمه على تقاسم السلطة بضمانات عدم استئصاله وحركته مرة أخرى (طبقا لما يسمى في تونس باتفاق باريس) مقابل  ترك الطريق مفتوحا للباجي

في قمة الحملة  الانتخابية  الرئاسية خرج  الغنوشي  في قناة تلفزيونية موالية بالكامل للمرشح الباجي وألقى تصريحا خطيرا جدا كسر به  أعمدة الحملة الانتخابية للمنصف المرزوقي القائمة على كشف تناقض مشروع الباجي مع الديمقراطية واستهدافه للحريات عبر الهيمنة والتغول على السلطة التنفيذية. فخفف الغنوشي من ذلك وطمأن القاعدة الناخبة لإمكانية العمل السياسي مع النظام القديم. فخسر المرزوقي أكثر من ثلث قاعدته التي اشتغل عليها طيلة الحملة وتبين لاحقا أن أكثر من ثلاثة مائة ألف ناخب من منخرطي حزب النهضة الملتزمين جدا أعرضوا عن التصويت للمرزوقي وربما صوت بعضهم للباجي نكاية  أو قطعا للطريق على زعامة المنصف المرزوقي. 

هذا الموقف أدى إلى شرخ كبير (توتر وقطيعة صامتة)  بين الرجلين والأخطر  أنه جعل قاعدة حزب النهضة منقسمة انقساما خطيرا بين ولائها الحزبي وبين قناعتها السياسية بضرورة تقسيم رأس السلطة التنفيذية بين أكثر من جهة سياسية. وهو التقسيم الذي كان سيوفر لها ورقة تفاوض سياسي مهمة حول المستقبل السياسي للبلاد وللحزب نفسه الذي لا يزال يعاني أثار الاستئصال الأول والأخطر  من كل هذا  أن المرزوقي صار وهو العلماني  أقرب إلى قلوب قواعد النهضة الثورية المؤمنة فعلا بالتغيير والقطيعة.

تكتيك الشيخ  وقد اشتهر  في الصحافة الساخرة بالشيخ التكتاك انتهت به إلى مقاول سياسي  بينما انتهت  صراحة المرزوقي  وهجومه المباشر على النظام إلى زعيم  يتحلى برصيد أخلاقي  ورمزي  يمكن  أن يسمح له بقيادة الشارع الغاضب بما في ذلك  الشارع النهضاوي الذي لم يبق له إلا الإجلال الأخلاقي لشيخه المؤسس  أما على المستوى السياسي فإن مقاولات الشيخ  لم تمكنه من السلطة ولم تجعل حزبه يجمع الشارع الغاضب. الذي صوت له في 2011 وكان يمكن أن يصوت أكثر في 2014. لكن ملاعبة السلطة دون تفكيكها بقوة الشارع وخاصة  تحت ذريعة الضغوط الخارجية  كشفت الوجه المهادن للحركة ولزعيمها.

 آخر البيانات الغاضبة الصادرة عن قيادات تاريخية للحركة بينت أن الرضا عن قيادته يعيش أضعف  حلقاته. وبدأ البعض يتذكر ويقارن  بقيادة ياسر عرفات لحركة فتح  حيث لعب المال  دورا مهما في الإمساك بالسلطة الداخلية. فالمصروف لا يزال بين يدي الشيخ وبه يتحكم في الكثيرين.

هل كان الشيخ ضحية بعض المقربين منه؟ يبدو هذا الاحتمال  قويا  فدائرة ضيقة من المقربين  تظهر خاصة في الإعلام وتتكلم بصوت خفيض  عن ثورة لم تحصل وعن ضرورات التوافق مع الوضع الدولي وتمد  أيديها لتقاسم السلطة دون غيرها. تشعر المراقب الخارجي أن  قيادات متنفذة للحركة  تبحث عن غنائم شخصية  أكثر مما تبحث عن  مسار ثورة  يجب أن ينجز مطالبه عبر الحزب الأقوى على الساحة.

 نعتقد أن طموحات هذه القيادات النهمة قد حولت شيخها من زعيم حركة سياسية قوية تتحكم لو أرادت في الساحة السياسية إلى مجرد متعاون مع سلطة يفتح لها الطريق لتحكم ويكتفي ببعض فضلها. بل يمكن أن يمن عليها بقاءها على قيد الحياة  بعد أن كان هو يمسك بخناقها وصار يمكنها أن تصفيه سياسيا في أية لحظة وهو يتوسل مشاركتها. وهذا لعمري  أبعد ما يكون عن الزعامة التاريخية التي دخل بها الثورة يوم عاد من المنفى.

لم يكن المرزوقي  نكرة قبل الحملة  الانتخابية  وقبل الثورة  وقد أكلت السلطة من رصيده لكن الحملة الانتخابية على قاعدة  تحقيق أهداف الثورة والانتماء للشارع  بموازاة مناورة الغنوشي لاقتسام السلطة دون مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية حولت المرزوقي  إلى زعيم ونزلت بالشيخ  الغنوشي من رئيس أكبر حركة إلى  مجرد متعاون مع نظام ساقط.  بما سهل للكثيرين وصف الشيخ بالجبن والتعاون مع عدو الثورة  بل ذهب البعض إلى التخوين  بممارسة  التوافق  الذليل أو في أفضل الحالات المعارضة المستأنسة.

ومن الطبيعي أن انتقال مركز الجذب القيادي من الغنوشي إلى المرزوقي يوتر الأجواء بينهما ويجعل  الغيورين على حركة النهضة من أبنائها ومن المستفيدين من التوافقات التي تبرمها  ينحازون ضد المرزوقي في الحراك السياسي الذي يعتزم قيادته لمعارضة الحكم في هذه المرحلة. فقد بدأت الاتهامات بنكران المرزوقي للجميل عبر عمله غير الأخلاقي بالاستيلاء على قواعد حركة أعيرت له (هكذا) في مرحلة دقيقة.  واستثماره في ضعف النهضة المرحلي.

ورغم أنه لم يبدر من المرزوقي ما يفيد أنه يفرغ كأس النهضة في كأسه ليشرب إلا أن الطبيعة تأبى الفراغ  وإذا كانت القيادة  تتاح الآن للمرزوقي  فعلى خلفية تبنيه لخطاب الثورة وعمله على الاقتراب الفعلي من الفئات التي قامت بها وانتظرت فائدتها. لأنه حتى اللحظة يتصرف كمثقف عضوي  حقيقي متشبع بقواعد العمل مع الجماهير  تاركا خلفه كل التدخلات والضغوطات التي تمس من سيادة القرار السياسي الوطني وتجيره لمصلحة جهة خارجية  لقد كان خطابه الأول يوم تقديم ترشحه للرئاسيات  هو  تكريس الاستقلال.

سيكون هذا الخلاف  أحدى العوائق غير المنتظرة للحراك الشعبي الذي أطلقه المرزوقي يوم خروجه من السباق الانتخابي وسيكون من الحماقة السياسية  محاربته على أساس الإبقاء على زعامة مستنفذة .

 لقد حكم الشارع لصالح الثورة رغم الفشل الانتخابي وقد صار للشارع الفقير قائده الفقير منه واليه.  

_____________________

* كاتب تونسي واستاذ علم الاجتماع

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه