من أوراق شيوعي سابق (3) عندما تعاركنا مع الله

الزعيم الأرجنتيني الثائر إرنستو تشي غيفارا

هناك وله في أوساط اليسار لتحويل “الرفيق جيفارا” الذي شارك في “الثورة المسلحة” في كوبا، إلى قديس، رغم أنه في الجوهر لا فرق بينه وبين داعش، التي يرفضها اليسار الشيوعي.

لا أعرف لماذا ما زلت أذكر الغرفة التي تقابلنا فيها، ربما لأنها كانت نظيفة ومرتبة مثل بيوت الطبقة الوسطى المصرية. كان هدف اللقاء هو الاجتماع بالمسؤول الأكبر في حزب العمال الشيوعي المصري، بعد التحاقنا به كـ “متعاطفين”. حدث ذلك في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. كان الرجل يملك وجها طيبا مألوفا، لكنه صارم، بذل جهداً كبيرا كي يقنعنا بأن الله غير موجود، وضرب العديد من الأمثلة، وأمطرنا بمعلومات كثيرة. دخلت معه في نقاش كان مجهداً لي وله، فقد كنت جديداً، لم التحم بعد بالتنظيم واعتد على أوامر “السمع والطاعة”، التي لا يمكن أن يعيش بدونها أي تنظيم سري.

  كان هذا جزء من خطة التثقيف مع الجدد. الخطة تبدأ بمناقشات عامة وتدريجياً تنزلق إلى أن سبب كل شيء في الكون هو الصراع الطبقي، فهو المحرك الأول للتاريخ. وتدريجياً تصبح البرجوازية (الرأسمالية) هي سبب كل الشرور (الشيطان الأكبر)، ويكون الحل في الطبقة العاملة، فهي الوحيدة المؤهلة لقيادة المجتمع إلى “الخلاص”، وذلك بالقضاء على البرجوازية وباقي الطبقات المعطلة لحلم الشيوعية.

 لم تكن هناك مشكلة في كل ذلك، بمعنى أنه يمكن وجود منطق بشكل ما. لكن موقف الماركسية من الله والأديان كان مدهشاً لي لفترة طويلة. فلماذا لا بد أن أكون ملحداً حتى أحقق العدل والخير والحرية؟

يبدو أنها كانت فكرة مركزية تتسرب في نقاشاتنا ولقاءاتنا، بل وهناك قليلون منا كانوا يعتبرون السخرية من الأديان علامة على أن الساخر “ماركسي حقيقي” و”مثقف ماركسي كبير”. بالطبع لم يكن النقاش مع “الرجل الكبير” هو الأخير فقد تبعته نقاشات متقطعة حتى يئسوا وتناسوا وتناسيت أنا أيضاً.

الشيوعي المسلم

بعد ذلك بعدة سنوات اكتشفت أن الدنيا أوسع من ذلك بكثير. قابلت مجموعة من “الشيوعيين المسلمين”،  يؤمنون بالمبادئ الاشتراكية في الاقتصاد، لكنهم لا يؤمنون بباقي جوانبها. كانوا مجموعة من  العمال في المدينة الصناعية التي نشأت وتربيت فيها (شبرا الخيمة) على أطراف القاهرة، وهم من  الرعيل الأول، الذي ينتمي إلى جيل الأربعينات الذي التحق بالحركة اليسارية في أوج انتشارها في مصر. 

 لكن لا يمكن اعتبار هؤلاء “شيوعيون حقيقيون”، يمكنك القول أنه كان يتم النظر إليهم بعين “الشك”، فمن الممكن أن “يرتدوا” عن “صحيح” الماركسية، فالتدين أياً كان هو من بقايا “البرجوازية الرأسمالية” التي تريد السيطرة على البشرية بالأديان والميتافيزيقا.

هذه النظرة الماركسية طبيعية لأنها “فلسفة شمولية”، تضع تصوراً مغلقاً وبديلاً للعالم بالكامل، أيديولوجية بديلة في كل شيء. تريد هدم العالم وبناء عالم آخر كما تتصوره. فالهدف منها ليس إدارة العالم لكن إعادة بنائه من جديد. لم يكن هدفنا في حزب العمال الشيوعي المصري هو “إدارة الدولة”، لكن الاستيلاء عليها، وإعادة “تربية المواطن” الذي شوهته “البرجوازية الرأسمالية” بالكامل. لذلك طبيعي ومنطقي أن الماركسية مثل كل الفلسفات الشمولية (دينية أو بشرية) تدس بأنفها في كل شيء، الدين، الحب، الزواج، الأسرة ، الغناء ، الفن، الاقتصاد، علم النفس .. إلخ.

 قمنا بعمل تمرد صغير داخل الحزب، لم يكن انشقاقاً بالطبع، لكن لم أقتنع أنا وصديق العمر ناصر عراق ورفيق آخر بوجهة نظر المسؤول عنا، وبعد جدال امتد لشهور قابلنا المسؤول الأكبر. كنا مثل معظم الرفاق نبدأ كلامنا بعبارة ثابتة ” أنا كماركسي”، ثم نقول ما نريد. فهذا يعطينا مصداقية، وقوة تأثير. ومن الأفضل أن يتضمن كلامنا أياً كان الموضوع الذي نتحدث فيه عبارات لماركس أو إنجلز أو لينين أو غيرهم من “الأنبياء والصحابة”! وينزلق النقاش دون إرادتنا من تبادل آراء، إلى صراع فيما بيننا على “تأويل” ما قاله ماركس أو “الحواريين”.

 هكذا تحول النقاش من أجل انتقاداتنا على ضعف الحركة الجماهيرية للحزب إلى مبارزة بتأويلات ماركسية، وكان طبيعياً أن ينتصر المسؤول الأكبر، فهو أكثر خبرة وأكثر معرفة بالنصوص والتأويلات. عندما شعرت بالهزيمة غضبت وقلت له “هل تحب أن اقسم على المصحف أنني ماركسي”!

 ربما هذا يفسر بطريقة ما لماذا تتقاتل بسهولة التنظيمات والحركات صاحبة الأيديولوجيات الشمولية، سواءً كانت خلفيتها دينية أو عقائدية أو عنصرية. فكل فريق معه الحقيقة المطلقة للعالم، ولا يمكنه الوصول إلى موائمة  في الصراع مع الطرف الآخر، وإذا فعلها يكون مضطراً لأنه لا يملك القوة لإزاحة الخصم من الوجود. وربما هذا يفسر الجرائم المروعة التي ارتكبها على سبيل المثال رئيس الاتحاد السوفييتي ستالين بأريحية، من قتل وسحل وسجن وتهجير .. الخ. ويفسر الجرائم التي ارتكبها ماوتسي تونج في الصين. فالذي يفعل ذلك بقلب مطمئن، يعتبر نفسه فوق البشر، فهو الحق المطلق والعدل المطلق … الخ. 

عندما حملوا السلاح لفرض الشيوعية

 لم يتورط حزب العمال الشيوعي في حمل السلاح، لكن استخدمته مجموعة أخرى مسلحة، كان أحد أعضائها الأخ الأكبر لصديق لي كان عضواً معنا في حزب العمال. المفارقة هي أن والد صديقي وأخاه كانا عضوين في جماعة الإخوان المسلمين، ولقيا الكثير من القمع والتعذيب في سجون الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. وترك هذا الوالد لأولاده مصنع نسيج (أقمشة)، ضاع من أبنائه وبناته بسبب السياسة والإهمال.

 من صلب هذا الإخواني خرج الرفيق الذي قرر أن يكون “الكفاح المسلح” هو الحل لكي يكون المجتمع اشتراكياً. نحن مثله لا نؤمن بالانتخابات والبرلمان؛ فهي كلها أدوات “برجوازية رأسمالية” للسيطرة على المجتمع، ولا فائدة منها. لكننا نختلف معه قليلاً في ضرورة “تثوير الطبقة العاملة” أولاً، أي تجنيد عمال في كل مكان، وتجنيد غيرهم ممن يؤمنون بالماركسية في كل مكان. أي عمل الأرضية الجماهيرية التي تمهد دون شك لـ”الثورة المسلحة” التي تمكن الطبقة العاملة وطليعتها القضاء على كل الطبقات المعادية، والقضاء على كل الأيديولوجيات المعادية، ثم إعادة بناء وصياغة المجتمع الاشتراكي العظيم.

 لكن “المناضل الحقيقي” شقيق صديقي كان أكثر جذرية وتعجلاً، فقرر ومعه بعض الرفاق اختصار الطريق بالسلاح. كنت أسمع قصصا أسطورية  متناثرة حول بطولاتهم، وحول تخزين السلاح والسرية الرهيبة والبناء التنظيمي الحديدي لهم. تم القبض عليهم جميعاً وتعرضوا لتعذيب رهيب، ومنهم شقيق صديقي الذي كانت لديه عاهة مستديمة في ذراعه الأيمن، لم يكن يستطيع تحريكه بسهولة.

 كنت أنا وغيري من الشباب ننظر بإجلال شديد للرجل. كان يستمع لنا كأخ أكبر عطوف، كان قد تعلم أن وقت حمل السلاح لم يأت بعد. لم يكن بحاجة إلى أن يقنعنا بأي شيء. أولاً لأننا على نفس الأرضية الماركسية، وثانياً لأنه هو كشخص ضحى بحياته وضحى بالصغائر “حب وزواج وأسرة وأشقاء وأصحاب .. إلخ” من أجل الحلم الشيوعي وكان هذا يكفيه. كنا ننصت إليه بتقديس، كنت أطير من السعادة عندما ألمح في عينيه نظرة رضى عن ما أقول أو أفعل. 

 بالقطع لم يخطر ببالنا وقتها أن “الرفيق المسلح” سيقتل أو قتل أبرياء في طريقه لتحقيق “الحلم الاشتراكي”. فهذا ليس مطروحاً من الأساس، فطبيعي أن هذا الحلم سيكون له “ثمن” و “لا ثورة بدون دم”. ربما هذا يفسر بشكل أو بآخر هذا “الوله” في أوساط اليسار لتحويل “الرفيق جيفارا” الذي شارك في “الثورة المسلحة” في كوبا، إلى قديس، رغم أنه في الجوهر لا فرق بينه وبين داعش، التي  يرفضها اليسار الشيوعي في الشرق الأوسط، فكل من جيفارا وأبو بكر البغدادي استخدما ذات الأدوات، وهي السلاح لفرض أيديولوجيا محددة على البشر، يتصور كلاهما أنها سوف تحقق بالقطع “الجنة” على الأرض.

 ربما هذا أيضاً يشير إلى الازدواجية التي يتعامل بها اليسار مع الإخوان مثلاً، فأغلبهم يرون هذه الجماعة “ديكتاتورية رأسمالية بغطاء ديني” تستخدم الأدوات الديمقراطية لفرض أيديولوجيتها، ثم تطلق هذه الديمقراطية. في حين أنهم هم أيضاً أصحاب “ديكتاتورية اشتراكية”، ولا يؤمنون بالديمقراطية، فهم مضطرون لها، لحين الوصول إلى الحكم وفرض أيديولوجيتهم.

 للأسف كلنا ديكتاتوريون سلفيون بشكل أو آخر، أو للدقة بأقنعة مختلفة. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه