مماليك وعسكر: تاريخ مختصر للأحذية

محمد حلمي هلال*

 

من يدّعون قدرتهم على تفسير الأحلام يؤكدون أن لون الحذاء في الحلم ليست له دلالة معينة ، فلا فرق بين الحذاء البنى أو الأسود أو الأحمر. رموز الحذاء تتحدد من خلال نوعيته ومكانة صاحبه, وليس من خلال اللون.

 كما أن المفسرين لم يتطرقوا أبداً الى من يحلم أنه قد تم دهسه بالحذاء في الشارع ، أو من تم ضربه بالحذاء فوق رأسه ، الامر الذى يـُهم قطاعاً كبيراً جداً من مقهوري   العالم وفقرائه.

 فقد اكتفى مفسرو الأحلام بالقول إن الفتاة التي تحلم بأنها ترتدي حذاء مفتوحاً ، سوف يتقدم لخطبتها شاب صاحب شخصية ( واطيه ) أو غير راقية. وإن حلم الشاب أنه يرتدي حذاءً مفتوحاً يشير الى أنه سيشغل منصبا غير مهم. أما رؤية النعال والأحذية المفتوحة في أقدام الغير فهذا دليل على أنهم أشخاص غير مهذبين .

 وإذا رأيت في الحلم رجلاً حافي القدمين ، يضع ساقا فوق ساق ، فمعنى ذلك أنه قد انفصل عن زوجته حديثاً.

 تاريخ طويل تحتله الأحذية في تاريخ البشر، لعل أكثر حكاياته مأساوية الحذاء المصري المملوكي ، ذي المهماز، الذى صمم خصيصا لاختراق رؤوس البشر .

 فقد ابتكرت مصر استخدامات جديدة للأحذية ، فلم تعد مظهراً للتميز الطبقي والاجتماعي فقط، بل أصبحت من أدوات القتل والضرب والسحل واللكز والبهدلة ، هكذا تضع مصر لمستها على كل الأشياء .!!

 تقول الكاتبة البلجيكية فيرجينى بريفو، في الألفية الأولى والثانية قبل الميلاد كان محظوراً على عامة الناس في الشرق انتعال الاحذية ، حيث كان امتياز استخدامها مقصوراً على الملوك والزعماء ورجال الحكم والسلطة فقط ، لأن احتكاك أقدامهم بالأرض – حسب اعتقادهم – كان يسلبهم القوة الطيبة اللازمة للحكم والطهارة والنقاء، الأمر الذى يضر بمصالح رعاياهم . كما أن الحذاء يرمز الى نبالة الأصل وعراقة المنبت.

 من هنا تيسر للحكام انتعال الأحذية وتيسر لهم حين يغضبون أن يضعوها فوق رؤوس المغضوب عليهم

في العصر العباسي تألقت صناعة الأحذية ، لدرجة أن بعضها كان يطرز بالذهب الخالص والأحجار الكريمة ، من أجل نساء المجتمع الراقي وبنات النخبة الحاكمة .

ويقال إن زبيدة زوجة هارون الرشيد أو السيدة الأولى في ذلك الوقت ، كانت من أكثر المخبولات بالأحذية وصرعاتها فكانت تستوردها من كل أصقاع الأرض كما يقولون، وكانت أول من أدخل موضة ارتداء الجوارب المصنعة من الحرير مغيرة عادات العرب الذين كانوا يستخدمون الأحذية على لحم القدم مباشرة. وهى أيضا التي أرست عادة أن ينتعل عامة الناس القباقيب الخشبية أو ما كان يسمى في ذلك الوقت “البوابيج” المصنوعة من جلود الحمير الميته.

 بعد سقوط بغداد – والكلام لازال للكاتبة البلجيكية فيرجينى بريفو – على أيدى المغول أصبحت القاهرة مركز “الجزم” في الشرق أو المركز الجديد لصناعة الأحذية في العالم العربي ، وتفنن المماليك بميولهم العسكرية في صناعة الاحذية الجلية الثقيلة ذات الرؤوس المدببة والمرصعة بالشعارات ، وتلك المزودة بلكازات من المعدن ومهاميز من الذهب الخالص .

 كانت أحذية المماليك ترتفع لتغطي الركبة تقريبا ، ولها رؤوس مدببة يمكنها اختراق رأس انسان اذا تعرض للضرب بها .

كارمن بافارو المؤرخة او البيوغرافر الخاصة بالسيدة الأولى – ذات يوم –  للفلبين ايمليدا ماركوس تحكى في كتابها الصادر حديثا بعنوان ” عائلة اللصوص” كيف كانت تحكم الفلبين وتركز بالأخص على غرابة أطوار السيدة الأولى ، إيميلدا ماركوس .

 كان والد ايميلدا محكوما بالسجن مدى الحياة بسبب جريمة سطو على بنك، فاضطرت أمها الى العمل في البيوت من اجل إعالة أطفالها . حكاية ايميلدا تصنع فيلماً سينمائياً رائعاً، ربما حين تزدهر صناعة الفيلم الفلبينى ، كانت ايميلدا زوجة عادية مستورة إلى أن أصبح زوجها ماركوس رئيساً للفلبين ، فانقلبت الدنيا وتغير عالمها فجأة، وأصبحت مهووسة بالسلطة والحكم والملابس  والمجوهرات والأحذية . كانت إيميلدا تتدخل في كل شيء وتسيطر على زوجها بصورة تقترب الى حد بعيد من زوجة الرئيس المخلوع حسنى مبارك . كان رئيس الفليبين يتقاضى خمسة آلاف دولار شهرياً ، إلا أن زوجته التي أصبحت واحدة من أغنى نساء العالم قادت أكبر حملة فساد في تاريخ الفلبين ، ومنحت اثنين من أشقائها ملكية شركة كهرباء مانيلا ، وإدارة كل أموال القمار في أنحاء الفلبين . كانت ترسل فواتير شراء الورد الى البنك المركزي الفلبيني ليسدد ثمنها لمحلات الورود .

 ذهبت السيدة الأولى هناك كالسيدة الاولى عندنا الى مزبلة التاريخ ولم يبق من سيرتها سوى حكايات تشعرك بالغضب . وصفت ايميلدا بعشرات الأوصاف اخفها كان : المرأة الحديدية، وإيميلدا مصاصة الدماء . لقد نهبت من الشعب الفليبيني 268 مليون دولار (وقتها) لم تكن السيدة الاولى بل الحرامية الأولى .

 في احدى الشقق التي استأجرتها ايميلدا ، لوضع آلاف الحقائب التي هربت بها من الفلبين ، كانت كل بوصة في هذه الشقة الصغيرة مرصوصاً بمحتويات ما يقرب من ألف حقيبة سفر من النوع الكبير , تحتوى على ثروات لا تخطر على البال ، ثلاثة آلاف زوج من الأحذية الباهظة الثمن ، حقيبة يد بها تاج من الماس  يتعدى سعره أربعين مليونا من الدولارات، وعدد 7 بروشات  قيمتها حوالى عشرين مليون دولار ، و60  عقداً من الماس ، و88 ساعة يد من الذهب الخالص ، و55 خاتماً من الماس, لقد كانت هذه الحقيبة الصغيرة وحدها كافية جدا لدفع نفقات الانتقال من شقة هاواي الصغيرة الى احد القصور الفخمة في مدينة هونولولو . و بعد هروبها الى الولايات المتحدة الأمريكية تعقبها البعض من أبناء الشعب الفلبيني وساقوها إلى المحاكم ،  لم تصدق سيدة الفلبين الأولى نفسها ، بكت ، صرخت في ذهول، كيف تفعلون بي ذلك ، لقد فقدت كل شيء ، تقصد الأحذية والسلطة والحكم والنفوذ . كانت تواجههم وحدها لأن زوجها ديكتاتور الفلبين فرناندو ماركوس كان في الثانية والسبعين من عمرة مريضاً وينتظر الموت بالسرطان.

كانت ايميلدا تبكى طوال الوقت قائلة كيف يفعلون بي ذلك ، لم تتذكر أبناء شعبها وهم يتسولون في الشوارع والميادين كالفئران ، بحثا عن لقمة العيش ، يتبادل كل منهم ما يمكن أن يمنحه للآخر : البكاء ، والحزن والإذلال، ويتبادلون صور الأطفال الذين ابتلعهم البحر، أو يتبادلون الدموع على أمهاتهم اللواتي متن من شدة القهر .

 لا تخبر أحداً كيف حولك الحكام اللصوص من دودة الى فأر ومن إنسان الى أرنب مقلي ، صالح للبلع والقرقشة، واسال نفسك ماذا كنت ستفعل مع السيدة الأولى لو كنت فيلبينيا؟ ..

لكن بعيداً عن هوس تلك السيدة فإن تاريخ الأحذية بالذات يستحق الاطلاع عليه

يتغير الحكام ولا تتغير الأحذية ، لكن يظل فقراء المصريين ، يفتشون عن ثمن الحذاء لأبنائهم في موسم دخول المدارس ويتلقون الضرب فوق رؤوسهم بالحذاء في كل المواسم ، حذاء المماليك ذوي المهاميز الذهبية أو أحذية الشرطة ذات المهاميز الغبية

أما عدد المهووسين بالأحذية هذه الأيام ، فلا حصر له

___________

*كاتب مصري

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه