مماليك “فالكون” الجدد والحاكم الجائر

حصلت الشركة الأمنية على ترخيص استخدام بنادق الخرطوش القاتلة، والتي تستخدم فى قتل المتظاهرين وتفريق التجمعات.

لماذا مماليك “فالكون” جددًا، وليسوا امتدادًا لمماليك الدولة العباسية؟

الإجابة ببساطة واختصار، لأن الحاكم الخليفة المعتصم وقت أن كان واليًا على الشام ومصر فى عهد الخليفة المأمون، استعان بالأتراك للحد من المنافسة الشديدة بين العرب والفرس في الجيش والحكومة.. أما الحاكم السيسي فقد استعان بـ”فالكون” للحد من الاحتجاجات الشعبية ضد الانهيار المعيشي، وارتفاع الأسعار والفساد بل وإدارة المؤسسات الإعلامية والسيطرة عليها.

معذرة لم أوضح لكم ماهى “فالكون”

“فالكون” عُرفت كشركة صغيرة لتقديم الخدمات الأمنية فى السبعينيات، ومجالها الحراسات الخاصة البسيطة الأشبه بالخفير أو حارس العمارات السكنية، وتحولت الشركة البسيطة فى نمو بسيط إلى قسم للحماية والأمن فى بنك “تشيس ناشيونال”، وهو نفس البنك الذي تغير اسمه بعد ذلك إلى البنك التجاري الدولي CIB، وعقب الانتهاء من الانتخابات الرئاسية التي أعيد فيها انتخاب حسني مبارك مرة أخرى لرئاسة مصر، وتحديدا في عام 2006 قام البنك التجاري بتأسيس فالكون غروب شركة مساهمة مصرية لتقديم خدمات حماية المنشآت وأنظمة الحماية الإلكترونية ونقل الأموال.

  نشأت الشركة الجديدة ليست بعيدة عن دوائر السلطة والأمن في مصر، وخاصة في ظل حصولها على صلاحيات أوسع من الصلاحيات التي يتم منحها لشركات الأمن التقليدية، والتي جعلت مهامها فى تماسٍ مع مهام الجهات الأمنية الرفيعة كما سنرى.

وأحاط الغموض بالشركة والملاك الرئيسيين لها وبرئيس مجلس إدارتها “شريف خالد”، أو كما أشيع عنه اللواء شريف خالد وكيل المخابرات الحربية الأسبق، إلا أن هنا من يؤكد أن “شريف خالد” كان موظفًا بسيطًا بمؤهل متوسط  فى بنك “تيس ناشيونال”  يتميز بالذكاء والطموح، وأنيط به إدارة القسم الأمني الجديد في نفس البنك الذي تحول بعد ذلك إلى البنك التجاري الدولي، وفى عام 2006 عندما أنشأ البنك شركة “فالكون” انتقل لإداراتها لكفاءته، وحصوله على عدة دورات أمنية رفيعة فى هذا المجال ولعلاقته المتشابكة بأجهزة الأمن والاستخبارات.

وبصرف النظر عما إذا كان “شريف خالد” لواء مخابرات حربية أو موظفًا بدبلوم متوسط، فإن الرجل لمع اسمه فى سماء مجتمعات المال، ومجتمعات الصفوة العامة، والنوادي كأخطر شخصية أمنية مسؤولة عن كل الواقع والحياة الأمنية المحيطة بهذه المجتمعات، تجاوزت حتى أجهزة الأمن والاستخبارات الرسمية، والتي لم يكن الرجل بعيدًا عنها.

المخرج المثالي

ولأن المشروع كان يرتدي ثوب المشاريع الخاصة تحول “الشريف الخالد” إلى رجل أعمال محاط بهالة من الغموض والسرية وربما المغامرات، وأيضًا لأن الشركة خاصة، وليست رسمية، أصبح مسموحًا لها بالتوسع في تقديم خدماتها داخل المجتمع بقيود أقل وتغلغلها وانتشارها داخل المجتمع وتفاصيله باعتبارها مؤسسة مدنية، والاطلاع على أدق أسراره، وهو ما يمثل صعوبة على المؤسسات الأمنية الرسمية، والتي كان يعتبر تدخلها في المجتمع المدني نوعًا من أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسان، فكانت “فالكون” المخرج المثالي وهنا مربط الفرس.

توسعت صلاحيات “فالكون” الأمنية، وتولت إدارة الأمن في 15 جامعة مصرية، ومنذ اللحظة الأولى تكشف فيها الدور الحقيقي لـ”فالكون” الذي تجاوز حدود ضبط الأمن على أبواب الجماعات إلى مطاردة الطلاب المعارضين لنظام الحكم والتحري عنهم والقبض عليهم، دون الاحتياج للدخول العلني لأجهزة الأمن التقليدية داخل الجامعة، وإحداث فضائح دولية، ومن قبلها تولت شركة فالكون تأمين حملة السيسي الانتخابية وحماية الصناديق (التى لا تخص السيسي وحده) فى إشارة واضحة إلى قيام الشركة الصاعدة بأدوار أمنية على الخريطة السياسية في مصر دون ظهور الأمن والمخابرات والمباحث بشكل قد يثير الرأي العام العالمي.

توسعت شركة فالكون وتضخم رأسمالها بشكل ورمي ملفت للنظر، وتطورت تدريبات رجالها بشكل مبالغ فيه، ولا يحصل على مثل هذه التدريبات إلا فرق الأمن المتطورة فى الدولة، والملفت أن الشركة الخاصة كانت تدرب رجالها فى معهد أمناء الشرطة التابع لوزارة الداخلية المصرية.

حصلت الشركة الأمنية على ترخيص استخدام بنادق الخرطوش القاتلة، والتي تستخدم فى قتل المتظاهرين وتفريق التجمعات، كما حصلت على تراخيص استجلاب أجهزة الكشف عن المفرقعات والسترات الواقعية وأجهزة التنصت، وفاقت في ذلك تجهيزات وزارة الداخلية المصرية.

إذاً الشركة تعد واجهة خاصة للقيام بالعمليات غير المشروعة التي تريد الحكومة القيام بها دون تلويث يدها أو التورط في تجاوزات غير قانونية وغير مقبولة مثل مطاردة طلبة الجامعات المعارضين، وربما استمد النظام هذه الفكرة من الولايات المتحدة والأمريكية التي سمحت بإنشاء شركة أمن خاصة اسمها “بلاك ووتر” للقيام بعمليات عسكرية خارجية لا تريد الحكومة الأمريكية التورط فيها، وهي العمليات القذرة، الفارق بين التجربتين أن الولايات المتحدة سمحت بإنشاء هذه الشركة للقيام بعمليات خارج البلاد، في حين أن الحكومة المصرية سمحت بإنشاء هذه الشركة في مواجهة مواطنيها والمعارضين السياسيين، وتحويل مفهوم ضبط الأمن العام إلى ضبط الأمن السياسي، ولهذا لا تجد مثلًا أى دور لهذه الشركة في مطاردة المجرمين واللصوص والمتحرشين في الشوارع.

محصلون للكهرباء

يتطور دور الشركة الأمنية ليرث دور محصلين الكهرباء، ويصدر قرار بتولي الشركة مهمة تحصيل الكهرباء، بحجة أن هناك عجزًا فى المحصلين، وإذا صح هذا المبرر كان يجب على الحكومة تعيين محصلين من جيش البطالة المنتشر في شوارع مصر، بدلًا من تكليف شركة خاصة بتحصيل فواتير الكهرباء بتكلفة تصل إلى 35 مليون جنيه شهريا، كما أن ظهور العداد الإلكتروني الذي يعمل بالكارد المشحون مسبقًا وتعميمه على ما يقرب من 50% من المستهليكن، وفر عدد كبير من المحصلين مما يؤكد كذب هذا المبرر.

إذا فالمبرر ليس بالطبع عجز في المحصلين، بقدر ما هو باب جانبي مفتوح كمصدر رزق للشركة، وتربح مقابل المهام الأمنية الكثيرة المنوطة بها في حماية النظام من المعارضين، والتخلص منهم دون تلويث يد الأجهزة الأمنية أو توريطها.

ولأن الهدف الفالكوني في المجتمع المصري لا يتعلق بالأمن العام وإنما بأمن النظام، وهو الأمن الذي يتعلق بمحاور كثيرة، أهمها المحور الإعلامي، بدأت الشركة الأمنية خطواتها الأولى في السيطرة على منابع الإعلام الفضائي من خلال تقدمها لشراء قناة الحياة، وهو ما يتناسب تمامًا مع خط النظام الذي يسير بسرعة نحو أمنجة الإعلام من خلال مراحل متعاقبة سريعة، ليتحول الإعلام من ضمير للأمة إلى حارس للنظام.

وكما تحول مماليك الحقبة العباسية من مرتزقة عسكريين إلى حراس وعسس لحماية الوالي من خلال السيطرة على كل أجهزة الدولة، وفي النهاية تحولوا في ذاتهم إلى نظام حاكم جديد، تحول أيضًا مماليك الحقبة السيساوية من خفر أمن إلى حراس وعسس لحماية الحاكم من خلال سيطرتهم على كل أجهزة الدولة وانتشارهم فيها، وربما أيضا يتحولون في ذاتهم إلى حكام.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه