معركة النيل .. الحمار والبردعة

في حفلها الأخير في لبنان طلبت إحدى الحضور من الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب أن تغني أغنيتها الشهيرة “مشربتش من نيلها” فردت عليها بتلقائية ” أنك ستصابين بالبلهارسيا” وهنا قامت القيامة في القاهرة بسبب هذا الرد، وسنت السكاكين للفنانة المصرية التي أوقفتها نقابتها ( نقابة السينمائيين)، ولم تقبل إعتذارها، بل وصل الأمر ببعض ناقديها للمطالبة بسحب جنسيتها بسبب هذه الغلطة، هذه الموجة العارمة من الغضب لأنصار السيسي وأذرعه الإعلامية والتي لم يواكبها غضب مماثل ضد المشير السيسي الذي فرط في مياه النيل ذاتها، يذكرنا بمثل شعبي مصري بسيط ” لم يقدر على الحمار فضرب البردعة” فهذا الغضب الكاذب لم يستطع ان ينتقد الجنرال صاحب الجريمة الأصلية فذهب يقذف حممه على فنانة ضعيفة.

إعلان فشل المباحثات المصرية الأثيوبية والذي صدر من وزارة الري المصرية يوم الإثنين 13 نوفمبر كان صادما للكثير من المصريين الذين صدقوا أوهام السيسي وأكاذيبه، لكنه لم يكن صادما لفريق آخر من المصريين أدرك الخطر مبكرا ونبه إليه وحذر منه في وقت كان للتحذير جدوى، وكان من الممكن عند الأخذ به ان تتغير الأوضاع لصالح مصر.

ليس موعد الهزيمة

لم يكن يوم 13 نوفمبرهو الموعد الحقيقي لإعلان الهزيمة، لكن الهزيمة الفعلية كانت يوم 23 مارس 2015 حين وقع السيسي بخط يده على اتفاقية إعلان المباديء مع الجانبين الأثيوبي والسوداني والتي اقر بموجبها بحق أثيوبيا في بناء السد، واستمرار الأعمال الإنشائية، كان ذاك التوقيع فاتورة متأخرة على السيسي تجاه اثيوبيا والدول الأفريقية الكبرى ثمنا لإعادة مصر إلى مقعدها في الإتحاد الأفريقي الذي نزعه منها يوم 5 يوليو 2013 أي عقب يومين فقط من إنقلاب الثالث من يوليو، وذلك تطبيقا لأحد قواعد الإتحاد الأفريقي التي لا تعترف بالإنقلابات لحكم الدول، وقد أعاد الإتحاد لمصر مقعدها يوم 17 يونيو 2014 بعد وساطات وجهود قادتها اثيوبيا نفسها وهي دولة المقر للاتحاد ودول أفريقية أخرى.

النيل بالنسبة للمصريين هو شريان حياتهم، وقديما قال المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد (484- 425 ق م) مصر هبة النيل، وفي عظمة النيل أنشد الشاعر أحمد شوقي

لــو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن ………………لِســواكَ مَرْتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخْـلُقُ

جـعلوا الهـوى لـك والوَقـارَ عبـادةً ……………… إِنَّ العبـــادةَ خَشـــيةٌ وتَعلُّـــقُ

دانــوا ببحــرٍ بالمكــارِم زاخـرٍ ……………… عَــذْبِ المشــارعِ, مَـدُّهُ لا يُلْحَـقُ

مُتقيِّــــد بعهـــودِه ووُعـــودِه ……………… يَجـري عـلى سَـنَنِ الوفـاءِ ويَصدُقُ

وإِليـك – بَعْـدَ اللـهِ – يَرجِـع تحتـه ……………… مـا جَـفَّ, أَو مـا مـات, أَو ما يَنْفُقُ

أهمية النيل لا تقتصر على مياهه التي تمثل مصدر الحياة للمصريين بل أضيف إليها في العصر الحديث الكهرباء المولدة من السد العالي والتي تسهم في النهضة الصناعية والعمرانية وإضاءة المنازل والمكاتب الخ، وكلا الأمرين المياه والكهرباء مهددان الآن بفقد حصة كبيرة منهما تصل إلى الثلث، وهو ما يعني مضاعفة المعاناة على الشعب المصري بسبب هذا الفشل الرسمي.

الاتفاق المشؤوم

لم يدرك السيسي ونظامه هذه الأهمية الكبرى للنيل حين وقع الاتفاق المشئوم( إعلان المبادئ) أو لعله يدرك، ولكنه كان يقدر أن اكتساب شرعية أفريقية لحكمه الإنقلابي أهم من النيل بالنسبة للمصريين، ولذلك فقد وقع هذا الإعلان غير آبه بالشعب، ولا بمجلسه، حتى وإن كان مجلسا هزليا، ولا بدستوره الذي رقص له الراقصون، والذي تضمن العديد من النصوص الخاصة والمفصلة حول حماية النيل، وكأني بهم ققد وضعوا هذه النصوص خشية عودة الإخوان للحكم تماما كالمادة 151″ المتعلقة بعدم جواز إبرام أي معاهدة تخالف أحكام الدستور ويترتب عليها التنازل عن أي جزء من الدولة، والتي قال الدكتور معتز عبد الفتاح للإعلامي عمرو اديب انها وُضِعًت من أجل الرئيس مرسي؛ حتى لا يتنازل الإخوان عن شيء، ولكننا “لبسنا فيها دلوقتي”.

فلنذكرهم بدستورهم الذي بدأ ديباجته مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية”، ثم نص في مادته الأولى على أن “جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها،..‘‘ثم كان النص الصريح الخاص بالنيل في المادة 44 ” تلتزم الدولة بحماية نهر النيل, والحفاظ علي حقوق مصر التاريخية المتعلقة به…” ثم يأتي القيد الأكبر والذي تم وضعه في الدستورخشية عودة الرئيس مرسي للحكم في نص المادة 151 ” يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية, ويبرم المعاهدات, ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب, وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقا لأحكام الدستور، ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء علي معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة ولا يتم التصديق عليها إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة. وفي جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور, أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة”.
فالمادة 44 تتحدث صراحة عن واجب الدولة في حماية نهر النيل والحفاظ على حقوق مصر التاريخية  المتعلقة به، وهو ما فرط فيه السيسي ونظامه، والمادة 151 تضع أغلالا من حديد تمنع السيسي من الإنفراد بتوقيع اتفاقيات تمس السيادة إلا بعد الإستفتاء الشعبي عليها، فما بالنا أنه لم يعرض اتفاقية إعلان المبادئ على مجلس الشعب (رغم صوريته).

انقاذ الموقف

يحاجج أنصار الجنرال وإعلامه أنه لم يكن أمام مصر خيارات واسعة خلال مرحلة التفاوض، وهذا كذب صراح، وينبئ عن ضعف بل خيانة متعمدة، فقد كان من الضروري أن يتضمن اتفاق إعلان المبادئ نصوصا للحفاظ على حقوق مصر التاريخية التي أقرتها العديد من الإتفاقات الدولية السابقة،وإذا لم يمكن هذا فعلى الأقل يكون هناك تعهد من الجانب الأثيوبي بعدم بدء الإنشاءات إلا عقب انتهاء التفاوض، وفي حال عدم القدرة على شيء من ذلك كان رفض توقيع الإعلان هو القرار الصحيح، حتى لا يعطي أثيوبيا أي مشروعية لإنشاءاتها، وحتى تظل تحت الشعور بالتهديد واحتمالات أي عمل عسكري يوقف بناء السد الذي يمثل خطرا على المصريين، ولعلنا هنا نتذكر بكل فخر موقف الرئيس المدني محمد مرسي الذي قال إن نقص قطرة ماء من النيل يقابلها قطرة من دمه، والذي لم ينفرد بقرار حول هذه القضية القومية بل دعا رؤساء الأحزاب والخبراء في اجتماع موسع بقصر الإتحادية للتباحث واتخاذ موقف وطني موحد، وهو الاجتماع الذي ظهرت فيه قوة هذا الموقف الوطني والتي وصلت إلى حد التهديد بالعمل المسلح لوقف بناء السد.

الآن وبعد الإعلان الرسمي عن فشل المباحثات حول السد، واستمرار اثيوبيا في بنائه، ينبغي أن تتحد كل الجهود الوطنية المصرية لإنقاذ الموقف، وينبغيي أن تكون كل الخيارات مفتوحة، بما فيها العمل العسكري المباشر، فإذا كانت حياة المصريين تتعرض للخطر فإن مهمة الجيش هي إنقاذ هذه الحياة، وإلا فلا معنى لوجوده، ولا معني لطائرات الرافال ولا للمسيترال التي كلفت مصر مليارات الدولارات، وإذا كان قرار الحرب يحتاج إلى قيادة سياسية وطنية تعرف قيمة النيل وتعرف الخطر الذي يواجه المصريين فلا مناص من تكاتف كل الجهود للخلاص من حكم السيسي الذي تسبب في هذه الكارثة القومية أولا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه