مصر وتركيا وإيران.. الفاعل والمفعول

 

تاريخيا وجغرافيا تعتبر الدول الثلاث مصر وتركيا وإيران أكبر وأقوى 3 قوى إقليميية في المنطقة (مع اسثناء إسرائيل)، تبادلوا عبر العقود الماضية مواقع الصدارة في القيادة، حيث كانت مصر من مؤسسي حركة عدم الإنحياز، وكانت زعيمة الأمة العربية بلا منازع في الستينات وحتى أواخر السبعينات، وأصابها الوهن نسبيا بعد توقيعها صلحا منفردا مع إسرائيل 1978، وتحسنت نسبيا في النصف الأول من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، ولكنها فقدت ريادتها، وأصبحت تابعا لبعض الدول وحتى الدويلات وأشباه الدويلات عقب الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، بسبب ارتماء قائد الإنقلاب في أحضان حكام تلك الدويلات بسبب افتقاده للشرعية داخل مصر.

تضاؤل الدول

وبينما تضاءل دور مصر الإقليمي والدولي إلى هذا المستوى، كانت كل من تركيا وإيران تصعدان بقوة، وتفرضان وجودهما، وبصماتهما على سياسات المنطقة التي أصبحت رهينة للتدخلات الإقليمية والدولية التي تغير وتبدل خرائط المنطقة، وتشتبك في حروب مباشرة على أرض عربية تعزيزا لنفوذها الخاص، ومن بالغ الأسف أن مصر ذاتها التي كانت فاعلا مهما، و تنافس هاتين الدولتين على الصدارة والنفوذ الإقليمي أصبحت مفعولا بها في ظل سلطة الانقلاب، بل أصبحت مجالا لتمدد نفوذ هاتين الدوليتن على حسابها إقليميا، بعد أن كانت الدولتان تتنافسان على خطب ود القاهرة من قبل، وظهر ذلك جليا عقب ثورة 25 يناير ووصول أول رئيس مدني لحكم مصر.

لا يمكننا أن نلوم دولا تسعى لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، ولكن من حقنا بل من واجبنا أن نحاكم من تسبب في تقزيم دور مصر إلى هذا الحد، وجعلها مجرد تابع لبعض الدويلات الصغيرة التي لا تمتلك من الدنيا سوى المال الذي لم يكن لها دور في توليده، وبعيدا عن أدوار كل من تركيا وإيران في المنطقة عموما فإن من المهم بالنسبة لنا أن نعرف كيف تتعامل الدولتان مع الأوضاع في مصر خصوصا.

كلتا الدولتان (تركيا وإيران) أعلنتا دعما مبكرا لثورة 25 يناير2011، وتحسنت علاقتهما كثيرا بالحكم الجديد في مصر خاصة في عهد الرئيس مرسي حيث تقاطع الحكم في مصر مع نظيره الإيراني كون النظامين وليدي ثورتين شعبيتينن، فيما تقاطع مع نظيره التركي كون النظامين مدنيين ديمقراطيين (بخلفية إسلامية سنية) وقد وصلا إلى السلطة في أعقاب حكم عسكري طويل في كلتا الدولتين. 

الدعم الايراني

كان النظام الإيراني الأسبق لدعم الثورة المصرية، حيث حرص المرشد الإيراني(خامنئي) على إلقاء خطبة جمعة في 4 فبراير 2011 باللغة العربية لتصل إلى ثوار مصر في ميدان التحرير وغيره من الميادين ( أثناء أيام الثورة وقبل تنحي مبارك)، سبقها تصريحات قوية لوزير الخارجية الإيرانى علي أكبر صالحي فى 31 يناير2011، أعرب فيها عن ثقته بأن ثورة الشعب في مصر ستساهم في قيام شرق أوسط إسلامي، معلناً دعم طهران للتظاهرات المطالبة بسقوط نظام مبارك، وأتذكر أن إحدى الصحفيات الناصريات حاولت التواصل مع زعيم حزب الله حسن نصرالله عبر إذاعة منصة التحرير لكن المهمة لم تتم، وقد رد وفد شعبي بقيادة رموز ليبرالية وقومية بزيارة إلى طهران مطلع يونيو 2011 رغم أن السلطات الأمنية المصرية سبقت الزيارة بالقبض على أحد الدبلوماسيين الإيرانيين بتهمة التجسس.

راهنت طهران كثيرا على تحسين علاقتها مع القاهرة بعد انقطاع دام 32 سنة، ( منذ الثورة الإيرانية 1979)، وحرص القادة الإيرانيون على إبراز مشاعر الود الزائد تجاه الثورة المصرية، وتعددت زيارات وزير الخارجية الإيراني علي اكبر صالحي لمصر، وكانت أول زيارة لرئيس مصري إلى طهران للرئيس مرسي للمشاركة في القمة الإسلامية في أغسطس 2012، وهي الزيارة التي كانت إيران تراهن عليها كثيرا لكسر جمود العلاقات بين البلدين، إلا أن خطاب الرئيس مرسي في القمة خيب تلك الظنون، حيث حرص مرسي على إبراز قوة مصر السنية وأنها لا تسمح بسب الصحابة الذين ترضًى عليهم مرسي بصورة لافتة، كما أنه أدان بشدة قمع النظام السوري للثورة، وهو ما دفع الوفد السوري لمغادرة القاعة، ورغم هذا الموقف إلا أن إيران رحبت بمبادرة مرسي التي طرحها في القمة لحل الأزمة السورية عبر تشكيل لجنة اتصال رباعية تضم مصر وإيران وتركيا والسعودية، وشاركت طهران في الاجتماع الأول للجنة في القاهرة منتصف سبتمبر 2012، وظلت طهران تواصل جهودها لاستقطاب القاهرة حيث زار الرئيس أحمدي نجاد القاهرة يوم 5 فبراير 2013، والتقى الرئيس مرسي وعددا من القادة الدينيين والسياسيين.

الحذر المصري

كان واضحا أن إيران تبذل كل جهد ممكن لتأسيس محور مصري إيراني، لكن القاهرة كانت حذرة، لإدراكها بنوايا النظام الإيراني الذي سيستغل هذه العلاقات لصناعة جيوب شيعية موالية له في مصر كما فعل في دول أخرى، وهو ما سيتسبب في توترات مجتمعية خطيرة، ولعل قصة الإعتداء على الشيخ الشيعي حسن شحاتة وقتله في منزله يوم 24 يونيو 2013 كانت شاهدا على ذلك، والسبب الثاني للحذر المصري هو طمأنة دول الخليج العربي التي تخشى تزايد النفوذ الإيراني.

ظلت العلاقة مذبذبة بين طهران والقاهرة حتى وقوع إنقلاب الثالث من يوليو 2013، وساهمت منابر إعلامية إيرانية ناطقة بالعربية في دعم المظاهرات المعارضة للرئيس مرسي حتى 30 يونيو، ورغم أن طهران دانت رسميا الانقلاب في البداية، إلا أنها شاركت في حفل تنصيب السيسي من خلال حضور مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية حسين أمير عبد اللهيان، وهو إعتراف واضح بسلطة الانقلاب، ومن الواضح أن السلطات الإيرانية قدرت أن النظام الإنقلابي سيكون هو الأقرب لها خاصة في الملف السوري، وهو ما حدث فعلا.

زيارة أردوغان لمصر

وعلى خلاف الموقف الإيراني المتعاون( ولو جزئيا) مع نظام السيسي حاليا، فإن الموقف التركي حافظ على ثباته منذ اللحظات الأولى لثورة يناير وحتى الآن، فقد حرص الرئيس التركي وقت أن كان رئيسا للوزراء على زيارة مصر مرتين بعد الثورة كانت أولاهما يوم 12 سبتمبر2011 (في عهد المجلس العسكري) في مستهل زيارة لدول الربيع العربي، وقد استقبل أردوغان استقبالا شعبيا واسعا في مطار القاهرة، وكان بصحبته 235 من رجال الأعمال وستة وزراء، بينما كانت الزيارة الثانية في 17 نوفمبر 2012، وهي التي ألقى فيها خطابه الشهير في جامعة القاهرة وحرص على مشاركة المصريين هتافهم الثوري باللغة العربية”ارفع راسك فوق انت مصري”.

وتحسنت العلاقات المصرية التركية كثيرا، وقدمت تركيا لمصر قرضا بقيمة مليار دولار، ووقعت اتفاقا لاستثمارات بمليار دولار أخرى، وتعددت زيارات رجال الأعمال المصريين والأتراك لكلا البلدين، وكانت الدولتان تمثلان مع المملكة السعودية مثلث القيادة للعالم السني، ولكن وقوع انقلاب الثالث من يوليو أنهى كل ذلك، حيث اتخذت تركيا موقفا مبدئيا صلبا ضد الانقلاب، ولم تتزحزح عنه حتى اليوم رغم كل محاولات الوساطة التي قامت بها أطراف داعمة لنظام السيسي.

الموقف المبدئي التركي المناهض لانقلاب السيسي يستند إلى أرضية صلبة، فالقادة الأتراك وعلى رأسهم أردوغان عانوا كثيرا من الانقلابات العسكرية من قبل، وذاقوا ظلم العسكر، وبالتالي فهم يتبنون موقفا سياسيا أخلاقيا مناهضا للانقلابات التي اكتتوا بنارها، وقد مثلت المحاولة الانقلابية الجديدة منتصف العام الماضي دعما إضافيا للموقف التركي حيث اتضح أنها كانت مدعومة من الدول ذاتها الداعمة لانقلاب مصر.

إذا كانت إيران قد خسرت كثيرا في مصر كما في عموم العالم السني من دعمها اللامحدود للنظام السوري القاتل، وللثورة المضادة في اليمن، وللعصابات الطائفية في العراق، واعترافها بنظام السيسي المنقلب، فإن تركيا قد كسبت احترام كل أنصار الحرية وخصوصا في العالم الإسلامي لوقوفها مع الديمقراطية في مواجهة الثورات المضادة في مصر وسوريا وليبيا وغيرها، وهو ما يرشحها لعلاقات متميزة مع القاهرة التي ستصبح فاعلا قويا لا مفعولا به عقب الخلاص من الحكم العسكري.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه