مصر.. شجاعة الانتحار!

 

(1)

لم أفكر يوماً في تعاطي المخدرات، لا أحب النوم، وأكثر ما يرعبني أن يغيب عقلي بينما يستمر جسدي في الحضور، لكنني أفتش في هذه الأيام عن ملجأ للبلادة الحسية ومسكن للعقل، أفتش عن مهرب من التفكير ومن الكتابة، فقد صارت الكتابة عقاباً حسب تعبير الكاتب الأمريكي المعتزل فيليب روث، بدأت المأساة بعد أن تحولت الكتابة عن مصر إلى معاناة شديدة، لا يفوقها إلا معاناة التوقف عن الكتابة، ومعاناة التفكير في كيفية عدم التفكير في الحال المأساوي الذي انزلق إليه “البلد المحبوب”، ثم تمدد الإحساس كثعبان خرافي أو وباء سادي يطارد كل أنواع الكتابة وموضوعاتها، فلا فرق في المعاناة وأنت تكتب عن تفاصيل الخيبة في إدارة سد النهضة، أو ذكرى صلاح جاهين، أو حالة سيناء التي تنتظر “عيد تحريرها” وهي أسيرة تحت الحصار الملغز، أو بيان الخارجية المصرية للضغط على منظمة اليونسكو بغرض التأثير لصرفها عن منح “جائزة حرية الصحافة” لإعلامي مصري يقبع في زنزانة حقيرة للنظام منذ خمس سنوات بتهمة التصوير و”ممارسة الحرية”

#شوكان

(2)

عندما جلست لأكتب هذا المقال، وصلني خبر تجميد موقع “البديل” لنشاطه احتجاجا على استمرار الحجب والخنق وتدمير البيئة الإعلامية في مصر، كانت “البديل” في البداية قد صدرت كصحيفة سياسية يومية برئاسة الدكتور محمد السيد سعيد (رحمة الله عليه)، لكن مافيا سوق الإعلانات تمكنت من تجفيف أي موارد قد تساعد الصحيفة على الاستمرار، وأدى التجفيف إلى تعثر فإغلاق، ومن يدٍ إلى يد تحولت إلى “بوابة إليكترونية” مع طبعة ورقية شكلية تصدر كل ثلاثة اشهر في الخفاء (كوسيلة قانونية للاحتفاظ بالترخيص القانوني)، واستمر الموقع كصوت من اصوات المعارضة المصرية، مع اهتمام منحاز لحالة المقاومة العربية بشكل عام، لكن استمرار الحجب لأكثر من عام، واستمرار الضغوط الأمنية والاقتصادية أدى إلى توقف الموقع اختياريا تحت مسمى “التجميد”، وهو مسمى مهذب لجريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد، حتى لو تخفت في شكل “انتحار”، لأن القرار الذي اتخذته إدارة الموقع ليس انتحاراً يائساً، لكنه نتيجة لجريمة دنيئة خططت قيها السلطة القمعية  للوصول إلى مصير حتمي لكل المؤسسات الإعلامية الخارجة عن وصايتها المباشرة: الاستسلام والدخول في “بيت الطاعة العباسي” أو الانتحار، والانتحار هنا ليس يأساً، لكنه احتجاج أو استغاثة، فعلم النفس الفرنسي يصف الانتحار عموما بأنه “أعلى درجة من درجات الاستغاثة”، إذ يظل الشخص الذي يعاني يشكو ويعلن عن آلامه، آملاً أن يهتم به أحد، أو يلتفت المعنيون لتخفيف عذابه، فإذا لم يجد استجابة يبدأ في الشكوى والصراخ والشغب الانفعالي، ثم لا يتورع عن إيذاء نفسه لاختبار إحساس العالم، ثم يصل إلى أعلى درجات الاستغاثة بالانتحار الذي يعبر عن رغبة قوية في حياة سوية بلا عذاب، أو الاحتجاج (حتى الموت) على اعوجاج العالم.

#البديل

(3)

عندما اعتزل فيليب روث داخل منزل خشبي في إحدى الغابات بولاية كونيتيكت، زاره محرر الأدب لصحيفة “لو موند” الفرنسية وسأله: وماذا ستفعل الآن يا مسيو روث؟

قال روث: أختبئ من الخوف والمسؤولية

وقرأ روث مقتطفا من روايته “مؤامرة ضد أمريكا” التي يقول فيها إن “الخوف هو المتحكم الكبير في ذكرياتنا، إنه طاغية يريد أن يحكمنا إلى الأبد، صحيح أنه لا توجد طفولة بدون رعب، لكن حكامنا يكرسون تضخيم خوف الطفولة ليدمر حياتنا كلها”

فسأله الصحفي: وماذا فعلت هنا لتتحرر من الخوف؟

رد روث: اشتريت “آي فون” وبدأت أتعلم طريقة استعماله

سأل الصحفي مندهشاً لماذا؟

أجاب بسعادة: لأنني حر

#الحرية

(4)

تحت زجاج مكتبي القديم، كانت هناك “رسمة” لفنان الكاريكاتير حجازي، مكونة من لوحتين منفصلتين تمثل تلافيف المخ البشري، الأول لشخص حزين تلافيف مخه عبارة عن خيوط متشابكة ومعقدة مليئة بالحروف وعلامات الاستفهام، والثانية لشخص سعيد تلافيف مخه عبارة عن خيوط ترسم بشكل (نصف واضح) صورة حذاء. ظلت “الرسماية” مثاراً لتندر الأصدقاء القدامى حتى اليوم، لكنها بالنسبة لي كانت وجعاً أزلياً، ربما لارتباطها عندي بعذاب المعرفة كما تجلت في أسطورة بروميثيوس الذي اختلس قبساً من نار المعرفة الإلهية ليهديها للبشر فعوقب بعذاب سرمدي بشع، وربما لارتباطها بكلام الناس العادي عن “شقاء المعرفة” الذي عبر عنه “حراجي القط” في ديوان الأبنودي الشهير: “الشَوَفَان حِزنْ”، وربما لاهتمامي بمصائر الكثير من المبدعين والمثقفين الذين دفعتهم “لعنة المعرفة” نحو الجنون أو الانتحار، ولعلكم تعرفون أن القائمة طويلة ومحزنة، لكن الذكرى تقتضي اليوم أن نستعيد حالة العزيز صلاح جاهين: جبل البهجة الذي تحول في لحظات كاشفة إلى كومة من الحزن والمعاناة، حتى رحل في الربيع الذي تغنى به نكاية في الأحزان

في آخر ربيع عاشه جاهين حدثني عن ضرورة مواجهة الحزن بالفرح، كان يعاني وهو يحدثني عن تطبيع العلاقة مع المعاناة: كل الناس بتعاني.. المعاناة مش بس من الفقر والحرمان، المعاناة إحساس إنساني عند الجميع، وأنا ناس.. يبقى لازم أعاني زي غيري، الحزن موجود في كل وقت، لكن البني آدم الجدع يفكر ازاي يلّونه، ما تقلقش على بلد ينهزم في حرب ع الحدود، اقلق لو انهزمنا جوه.. لو انهزمنا في الحياة..

كده وصلنا إلى مربط القلق يا عم صلاح

#المصير

(5)

على سبيل المقاومة والحلم بالتحرر والتمسك بالأمل، لم أحسم إجابتي على الشواهد التي تصفعنا كل صباح، ولم أسأل نفسي: هل مصر تنتحر أم تولد من جديد؟

الواقع كئيب ومحبط، والأمل هو الممكن الوحيد

#قاوم

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه