مراجعات حسن البنا في عمل الإخوان بالسياسة

 

تحدثنا في مقالنا السابق عن مراجعات الإخوان وحسن البنا تحديدا في العمل الحزبي، وأنه اتجه في أخريات حياته لتمييز الحزبي عن الدعوي، فهل كانت هذه النظرة وفق رؤية شاملة منه في إطار مراجعة عمل الجماعة بالعمل السياسي كذلك، وهو ما تثبته الوثائق وشهادات المحيطين به، أن حسن البنا رأى أن انغماس الإخوان في السياسة من دون إعداد، ولا تأهيل أمر يحتاج لمراجعة، وذلك بناء على نقاشات مع أساتذة كبار له، ومع معاصرين في الجماعة وخارجها من محبي الجماعة وأبنائها كذلك، معظمهم تواتر النقل عنهم على أنه كان يجري مراجعات جادة وحقيقية حول عمل الإخوان السياسي، ومراجعة هذا العمل من حيث أهميته ودوره، وجدواه، والإعداد الحقيقي له، من دون الدخول فيه بلا إعداد جيد.

حوار مهم لمحب الدين الخطيب مع البنا:

وأنقل هنا حوارا مهما في أهمية العمل السياسي للإخوان في عهد البنا، وجدواه، وهو حوار أشبه بنقاش علمي هادئ متزن، بين حسن البنا ومحب الدين الخطيب، وكلاهما معروف لا يحتاج لتعريف، ولا حاجة لتوضيح أهمية كل منهما الفكرية والتنظيرية للعمل الإسلامي، وميزة الحوار حين تقرؤه وكأنك تقرأ تجربة الإخوان في العمل السياسي بعد الثورة تماما، يقول محب الدين الخطيب رحمه الله وقد كتب المقال سنة 1953م:

(قبل نحو ست سنوات انتشرت دعوة الإخوان المسلمين في ديار الشام، وقويت بالشباب والنواب، وحمَلة الأقلام، وتجاوبت العواطف بين الإخوان المسلمين هناك والإخوان المسلمين هنا، وكان لهم هنا وهناك صحيفتان يوميتان قويتان. وحل موسم الانتخابات لمجلس النواب السوري فتقدم الإخوان المسلمون هناك لخوض المعركة الانتخابية، وكانت مصر تتلقى أخبار تلك المعركة من الشام ـ في الصباح المبكر، وفي الضحى، وفي المساء، وقبل النوم ـ من أسلاك البرق ومن الهاتف (التليفون) وبكل وسائل المواصلات، وكان اهتمام الإخوان المسلمين في مصر بحركات هذه المعركة الانتخابية في الشام إن لم يزد على اهتمام الإخوان الذين في الشام فإنه لم يكن يقلُّ عنه بلا ريب. ولاحظ القائد الشهيد أخي حسن البنا رحمه الله أن كاتب هذه السطور أقل حماسة لهذا الأمر مما كان يتوقع، فجاءني ذات مساء، وجلس إلى جانب مكتبي في قلم تحرير صحيفة الإخوان اليومية في القاهرة وقال لي:

ـ إني لاحظت أمرا عجبا. إننا منذ تعارفنا وتعاونا قبل عشرين سنة لم يحدث حادث أو تنزل نازلة إلا كانت قلوبنا متجاوبة في اتجاه واحد بلا تواطؤ ولا مذاكرة. والآن فإن هذه الانتخابات المحتدمة معركتها في الشام يقوم بها إخوان لنا عرفناهم من طريقك ومن طريق صحيفة (الفتح)، أو شباب يعدون أنفسهم أبناءك أو كأبنائك، وفيهم عدد غير قليل من ذوي قرابتك، وإن أحدهم كان يساكنك هنا في منزلك، وطار لخوض المعركة في دمشق اهتماما بها، وما منا إلا من هو مهتم بها كاهتمام إخواننا هناك، إلا أنت فإني أراك واقفا تتفرج بدم الشيوخ، وعهدنا بك أنك أكثر حماسة منا لكل ما نتحمس له.

فأجبته: إني خائف أن ينجحوا، وأن تكون أكثرية النواب منهم، فتكون النتيجة تأليف الوزارة منهم واضطلاعهم بمسؤولية الحكم!

فبدت على وجهه أمارات الدهشة رحمه الله وسألني: وهل هذا مما تخافه؟!

قلت: أجل.

قال: إذن فإني كنت مصيبا بالمجيء إليك الآن، فإن اختلافنا إلى هذا الحد يحتم علينا أن نتفاهم.

فسألته: هل لو بلغ النجاح بالإخوان المسلمين في الشام إلى درجة أن تتألف منهم الوزارة، سيتولون الحكم بالموظفين الموجودين في الوزارات والمصالح والدوواوين، أم سيعزلونهم ويأتون بموظفين من بلاد أخرى؟

قال: طبعا سيبقى الموظفون كما هم، إلا من يكون ملوثا بمخازي يؤاخذه عليها القانون.

قلت: أنا لا أزعم أن الشكوى من الموظفين هناك بلغت إلى حد الشكوى من أمثالهم هنا. ومع ذلك فإن مصر الآن قدوة للشام والعراق وجزيرة العرب، وكل ما أشكوه أنا وأنت من العيوب هنا قد سرت عدواه إلى هناك بمقياس واسع أو ضيق، ومهما استعان وزراء الإخوان المسلمين برؤساء تغلب عليهم النزاهة فإن العيوب أفدح من أن تصلح إلا بقوة خارقة تتاح من عالم الغيب، وهذا ما لا نرى الآن دلائله، ونتيجة ذلك أنه سيوصم به الإسلام نفسه. هذه واحدة!

ثم سألته: هل وزارة الإخوان المسلمين ستتولى الحكم بهذه الأنظمة، أم أعددتم أنظمة إسلامية تحل محلها؟

قال لم تتح لنا الفرصة بعد لإعداد أنظمة إسلامية، ولم يتخصص أحد منا حتى الآن لهذه الدراسة، ولو فعلنا فإن الجو لا يلائم هذا التغيير، ولا نجد الآن من يعين عليه.

قلت: إذا كان الإخوان المسلمون في الشام ستتولى وزارتهم الحكم بالأنظمة الموجودة وبالموظفين الموجودين، فما فائدة الإسلام من هذا؟ أنا أرى أن تحمُّ غير الإخوان المسلمين مسؤولية هذا العبء أكثر فائدة للإسلام من تحمل الإخوان هذه المسؤولية. وهذه ثانية.

ثم قال محب الدين الخطيب شارحا فكرته: إن المسلمين مضى عليهم سنوات يقتصرون في إسلامهم على المسجد ومظاهر رمضان ومناسك الحج، ألا يستطيعون أن يصبروا عشرين سنة أخرى يربون فيها جيلا يعيش للإسلام وأنظمته، لا لنفسه ووجاهته، ويعدون فيها لذلك الجيل أنظمة الإسلام وآدابه وقواعده وأحكام فقهه الاجتماعي والإداري والمالي والدولي، فضلا عن تنظيم فقه الالتزامات والعقود، وفقه القصاص والتعزيرات والحدود. وأعظم من كل ذلك أن نتعرف إلى سنن الإسلام في أهدافه الملية وتوجيهاته المتعلقة بكيانه ومقاصده ومراميه. إن هاتين الأمانتين: أمانة إعداد الجيل الآتي، وإعداد النظام له، إذا استطعنا القيام بهما في عشرين سنة كان هذا أعظم عمل قام به المسلمون منذ ألف سنة إلى الآن.[1]

شهادة مسؤول التربية في الإخوان أيام البنا:

واضح أن حوار محب الدين الخطيب مع البنا، قد غير رأيه في عمل الإخوان بالسياسة، وهو ما تؤكده شهادة أخرى مهمة للدكتور عبد العزيز كامل رحمه الله، وقد كان مسؤولا عن التربية في جماعة الإخوان في عهد البنا، وكان مقربا جدا منه، وكان من آخر من لقوه قبل وفاته ببضع أيام، وكان يلقبه البنا: بابن الدعوة البكر، وقد كتب مذكراته تحت عنوان: (نهر الذكريات)، وقد قال فيها في حديث عن خريف 1948م: (عاد الأستاذ المرشد من أداء فريضة الحج بفكر جديد، لم يكن يخفيه، ولا يخفي الذين تأثر بهم..

وأود أن أسجل هنا اسم الحاج عبد الستار سيت سفير باكستان في القاهرة وقتئذ..

لقد كان رجلا هادئا، رضي النفس، مؤمنا بالعمل الهادي الطويل النفس، وكان يخشى على الإخوان عواقب الخطوات العنيفة التي اتخذوها، وأخذ يذكر للأستاذ ما اتبعوه في بلاده من عناية بتربية الشباب، واختيار العناصر التي يرجى لها مستقبل في الحياة العامة، أو يمكن أن يسمى بالجيل المقبل من القادة.. ولم يكن هؤلاء بعيدين عن شخصيات في الحكم بحكم النشأة، فقوي في نفس الأستاذ الاتجاه نحو التربية..

ولكن الرجل عاد ليجد حوادث القنابل والانفجارات في القاهرة، سلسلة توالت حلقاتها: انفجار ممر شيكوريل، شركة الإعلانات الشرقية، حارة اليهود.

وإلى جوار الانفجارات: مصرع المستشار الخازندار من رجال القضاء، ومصرع سليم زكي من رجال الأمن.

ملامح الصورة يرسمها المسدس والقنبلة والديناميت.

وكانت ملامح القلق بادية على وجهه، حتى المحاضرات، وزيارات الأقاليم زهد فيها.

بأذني سمعت منه وصف هذه الاحتفالات العامة بأنها (شغل دكاكيني) أي عمل صغير متفرق لا قيمة له.

ويأتي مصرع النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية ليضع الأستاذ في أشد المواقف حرجا.

كان كل أمله ـ كما سمعت ذلك منه بنفسي ـ أن يخلص باسم الإخوان المسلمين ومائة شاب “أربيهم ينتشرون في الأرض، داعين إلى الإسلام، ويجادلون الله عني يوم القيامة.. حين يسألني أقول: يا رب ربيت هؤلاء، ونشرتهم في الأرض يدعون إلى دينك”.

حصاد العمر الطويل: آلاف الشُّعَب، وآلاف المعسكرات، وآلاف الحفلات، والجرائد والمجلات والمنشورات، تركز عنده في مائة شاب يلقى الله بهم).[2]

شهادة مستشار الملك فاروق الصحفي:

وثالث الشهادات قدمها مستشار الملك فاروق الصحفي، وقد نشرها في جريدة الجمهورية، وهو الصحفي القبطي كريم ثابت، يقول: (اتصل بي الأستاذ مصطفى أمين أحد صاحبي دار (أخبار اليوم) في ذات يوم ـ وكنا في منتصف شهر ديسمبر سنة 1948م ـ وقال لي: إنه رتب اجتماعا بيني وبين الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين في مساء الغد.

وفي الساعة السابعة من مساء اليوم التالي التقيت بالشيخ حسن البنا عند مصطفى أمين في داره بالروضة وكانت هذه أول مرة أجتمع فيها بالمرشد العام للإخوان المسلمين.

وكان النقراشي قد أصدر أمره العسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وفروعها بالأقاليم، ومصادرة أموالها، وأخذ في تنفيذ التدابير التي يقتضيها هذه الإجراءات، وامتدت موجة الاعتقالات بين المنتمين إلى الجماعة.

وطفق الشيخ حسن يحدثني عن قسوة تلك التدابير واتساع نطاقها، وأفاض الشكوى منها.

ثم استطرد يقول: إن انحراف الإخوان المسلمين إلى الاشتغال بالسياسة كان خطأ كبيرا، وإنه كان أحرى بهم أن يتجنبوها، وأن يصونوا أنفسهم عن الانزلاق في معمعانها، وأن يقصروا رسالتهم على خدمة الدين، ويصرفوا جهودهم في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والهداية إلى آداب الإسلام، وهو الأصل في تكوين الجماعة).[3]

شهادات أخرى مهمة:

وهناك شهادات أخرى عن الأستاذ فريد عبد الخالق، والشيخ محمد الغزالي رحمه الله، والذي قال في أواخر حياته: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات). وكذلك شهادة العلامة الراحل أبو الحسن الندوي في مذكراته، وقد التقى بالمقربين من البنا فحدثوه عن هذه المراجعات بالتفصيل، وقد دونها في مذكراته التي بعنوان: (في مسيرة الحياة).

خلاصة هذه المراجعات:

ما أود أن أقف معه هنا بعد هذه النقول الطويلة والمهمة حول قضية تمييز العمل الحزبي عن الدعوي في عهد البنا، ومراجعاته في عمله السياسي، وما ينبغي على جماعة الإخوان فعله في المرحلة الجديدة، فما أفهمه من هذه النقول ما يلي:

أولا: أن البنا لم يرد بهذه المراجعات إلغاء العمل السياسي من الجماعة، أو مغادرته نهائيا، بقدر ما تعني أنه يريد مراجعة الأداء له، وأنه يحتاج لتخصص فئة من الجماعة فيه، ولا يدخله من باب العاطفة، كما فعل من قبل، وأن يتدرب كوادر الإخوان على العمل السياسي وإدارة الدولة من داخل دولاب الدولة نفسه، من حيث التمرن على الإدارات، ثم بعد ذلك يتم الدخول تدريجيا إليها.

ثانيا: وأما عن العمل الحزبي فهو يفضل أن ينضم كوادر الإخوان لحزب يثق في أهدافه ومبادئه، أو أن يتحول الإخوان لجماعة ضغط، تقف خلف من تثق فيه. أو تدخل العمل الحزبي باحتراف، بحزب يعبر عن المبادئ العامة للإسلام وهي مبادئ الجماعة وكل الجماعات الإسلامية، وذلك لأسباب مهمة، فأدوات ومنطلقات ووسائل وأهداف العمل الحزبي يختلف تماما عن العمل الدعوي.

وهو ما يحتاج في الحاضر والمستقبل للتخطيط له، والتهيؤ الصحيح للقيام به، بدل المكابرة في الاعتراف بهذه الأخطاء التي كلفت الجماعة والحركة الإسلامية، والحراك الثوري في كل بلاد الربيع العربي ضريبة كبرى، من الدماء والأموال، والحريات التي صودرت بشكل غير مسبوق.

 


[1] انظر: مقال (متى وكيف يقوم الحكم الإسلامي) للأستاذ محب الدين الخطيب، المنشور في مجلة (المسلمون) الشهرية، في العدد الأول من السنة الثانية الصادر في ربيع الأول سنة 1372هـ ـ نوفمبر سنة 1952م.

[2] انظر: مذكرات عبد العزيز كامل (في نهر الحياة) ص 59،58. طبعة المكتب المصري الحديث.

[3] انظر: ذكريات كريم ثابت الحلقة رقم (25) المنشورة في جريدة (الجمهورية) اليومية المصرية بتاريخ 12 من يوليو سنة 1955م. وقد رجعت إلى مذكرات كريم ثابت المنشورة في جزئين، بعنوان: (عشر سنوات مع فاروق) و(فاروق كما عرفته) فلم أجد هذه الحلقة موجودة على أهميتها، ودلالتها في التاريخ السياسي للإخوان المسلمين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه