محمود فهمي النقراشي باشا (1888 ـ 1948)

 

أبدأ حديثي عن محمود فهمي النقراشي باشا بأن أذكر رأيي القائل بأنّ مكانته الحقيقية في مسار التاريخ المصري الحديث والمُعاصر تفوق أهميته المشهورة و شُهرته المتداولة ، ذلك أن اسمه دائماً ما يأتي مُقترناً باغتياله على يد جماعة الإخوان المسلمين بعدما أصدر قراره بحلّ هذه الجماعة، وهي نهاية مروعة بالطبع وكفيلة بأن تخلُق لصاحبها مكانة تاريخية مُلحّة، لكن الحقيقة أن تاريخ محمود فهمي النقراشي باشا ينتظم كثيرا مما هو أهم من هذا بكثير، ولو أن محمود فهمي النقراشي باشا توفي وفاة طبيعية في أكتوبر أو نوفمبر 1948 أي قبل وفاته بشهرين أو ثلاثة وقبل قراره حل الجماعة بشهر أو اثنين لكان له من تاريخه ما يحفظ له مكانة بين أقرانه قبل أن يصدر قرار الحل ويدفع حياته ثمناً لهذا القرار.

ربما يظن القارئ أنّني مُنحاز إلى قيمة محمود فهمي النقراشي باشا في العمل السري في ثورة 1919 وهي القيمة الخطرة التي جعلتْه في النهاية وبعد أن وصل إلى منصب وكيل وزارة الداخلية هدفاً عزيز المنال استهدفته المُخابرات البريطانية لتُقدّم عنقه إلى حبل المشنقة في غضون أو في ثنايا أو في أعطاف قضية اغتيال السير لي ستاك ومع أن قرار إعدامه توقّف بسبب عدم الحصول على إجماع القُضاة، فإن هذا كله على أهمّيته ليس هو أهم ما في تاريخ محمود فهمي النقراشي باشا.

وربما يظن القارئ أن دور محمود فهمي النقراشي باشا في أكبر الانشقاقات التي تعرّض لها الوفد وهو انشقاقه مع أحمد ماهر في 1937 هو ما يجعلُ للنقراشي مكانة تاريخية مُتميّزة بين رجال الحركة الوطنية، والحقيقة أن هذا الانشقاق رغم أهمّيته وخطورته ومعقباته وما ترتب عليه لا يعدو أن يكون انشقاقاً حزبياً عليه ما عليه، وله ما له، وله ما يُبرّرُه، وله ما يُدينه.

وربما يرى القارئ رابعاً أن أداء محمود فهمي النقراشي باشا في حرب فلسطين سواء كان هذا الأداء جيداً أو رديئاً أو مُندفعاً أو مُتواطئاً هو ما يجعلُ لهذا الزعيم مكانة ذات طبيعة خاصة في تاريخنا المُعاصر، والحقيقة أن أداء محمود فهمي النقراشي باشا في هذه الحرب التي خاضتها مصر وهو رئيس وزرائها كان محكوماً بالمقدّمات، إحكاماً متينا ومحيطا وهو إحكام لم يفلت منه محمود فهمي النقراشي باشا ولم يُغيّره، كما أن ما احتواه هذا الأداء الحربي والاستراتيجي من أخطاء و ما احتواه في أخطائه من توجهات أو تعبير عن توجهات كان يعطي أصحابه  العُذر الحقيقي بحيث لا يُمكن لنا أن نتّهم محمود فهمي النقراشي باشا بالتقصير المُجرّم فضلا عن أن نتّهمه بالخيانة أو التواطؤ.

قبل هذه الميادين الأربعة تأتي أهمية محمود فهمي النقراشي باشا في حقيقة الأمر من فشله المُعلن (ونجاحه غير المُعلن) حين آثر أن يعرض قضية استقلال مصر على مجلس الأمن (1947)، وأن يعرضها بنفسه، وهكذا قُدّر لمصر الرسمية أن تتواجد مُبكّراً في هذا المحيط الدولي ، وعلى هذه المنصة، وأن تُمارس التجربة المُبكّرة التي أفادت السياسة الخارجية المصرية وأفادت المدرسة الدبلوماسية المصرية فضلاً عن أثرها غير المباشر في تسريع خطوات الجلاء البريطاني بمفاوضات 1954 الذي يعود الفضل الأكبر في إتمامه إلى حركة المقاومة الشعبية التي قادها الوفد في 1951 بعد إلغاء المعاهدة على يد مصطفى النحاس باشا زعيم الأمة الذي وقّعها في 1936

سوف نُلخّصُ للقارئ في موضع آخر كثيراً من التفصيلات المهمة من واقع ما ترجمه أساتذتنا من الوثائق البريطانية حول تلك الفترة لكنّنا سنُركّز في هذه المقدّمة على مجموعة من الحقائق التي لا بدّ منها لفهم مسار قضية الاستقلال الوطني في مسيرة التاريخ المصري المعاصر، وفهم طبيعة الدور الذي أتيح للنقراشي أن يُؤديه حتى لو أنه توفي قبل أن يدرك أبعاده.

الحقيقة الأولى: أن ذهاب الحكومة المصرية أو رئيسها محمود فهمي النقراشي باشا إلى مجلس الأمن كان في حقيقة الأمر اهتداء مُباشراً بالتجربة السورية واللبنانية التي أثمرت إعلان استقلال سوريا ولبنان في 1946 و إلزام فرنسا بالجلاء النهائي بقرار من مجلس الأمن كان الفضل في استصداره لمجموعة المفاوضين السوريين المُتميزين ومنهم الزعماء هاشم الأتاسي وسعد الله الجابري ومن بينهم رئيس الوزراء السوري اللاحق فارس الخوري الذي تولى بنفسه في ذلك الوقت منصب مندوب سوريا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن،  و صحيح أن الشوفونية المصرية لم تُعلن هذه الحقيقة للجماهير بأيّ صورة لكن القارئ الجيد للتاريخ العربي يستطيع أن يصل إلى هذه الحقيقة بكل بساطة ، ومن الجدير بالذكر أن السوريين كالعهد بهم و بحبهم لمصر والمصريين ساعدوا محمود فهمي النقراشي باشا مساعدات قيّمة في عرض القضية المصرية وتجهيز ملفها كما ساعدوه في معرفة كثير من الحقائق عن المجتمع الدولي ورجاله.

ومن الحق أن نقول إن محمود فهمي النقراشي باشا (حتى وإن كان مُخطئاً) دفعه الطموح الوطني إلى أن يتصوّر أن مصر قادرة على أن تحصل من مجلس الأمن على إنصاف يتناسب مع ما حصلت عليه سوريا ولبنان مع الاختلاف المبدئي بين وضع مصر و وضع سوريا ولبنان  ومع الاختلاف المفهوم في المطالب ، كذلك فإن محمود فهمي النقراشي باشا رأى أن  من واجبه الوطني (لا السياسي) أن يذهب إلى هذا الطريق مهما كان الوضع مختلفا ، وفي الحقيقة فقد كانت مصر قد حصّلت منذ 1922و1936 من حقوقها على ما هو أفضل مما حصلت عليه سوريا في ذلك الوقت لكن محمود فهمي النقراشي باشا أُعجب بفكرة هذا التحكيم الأممي العلني .

الحقيقة الثانية : أن هذه التجربة على الرغم من ورودها العارض في سياق الآليات التفاوضية الوطنية المتصلة سرعان ما أثمرت معرفة بآليات جديدة في المناقشات لم يكن للمصريين عهد بها في تعاملهم مع البريطانيين من قبل، وعلى سبيل المثال فقد عرف المصريون درساً ثميناً حين اكتشفوا عن قُرب بعض العوامل الحاكمة لما يُمكنُ أن نُسميه مسار الأمريكيين المُتماوج في التعبير عن رغبتهم في عرض القضية في الجمعية العامة بدلاً من مجلس الأمن حتى لا يُحرجوا أنفسهم مع العرب بإظهار عدم تأييدهم لمصر في مطلبها ، ومن المثير أن هذه السياسة الأمريكية ظلّت سائدة حتى انكشفت بالانقلاب العسكري المصري في 2013  ثم تأكد الانكشاف وتعمق بمجيء الرئيس ترمب بأطروحاته غير المبالية بالرصيد الأمريكي في الخداع الاستراتيجي المعتمد على إظهار وجه ناعم وغير حقيقي ولا بالتراث الأمريكي في الالتفاف التعبيري الخبيث. كذلك فقد بدأ المصريون يعرفون لأول مرة طبيعة بعض الخلافات بين بريطانيا وأمريكا، كما بدأوا يعرفون لأول مرة أيضاً أن الأمريكيين يتمتعون بأطماع كبيرة في مصر وفي ليبيا ويتحدثون عن قاعدة في برقة ويتحدثون بصراحة عمّا يُمكن لمصر أن تُقدمه لهم بالإجبار قبل التراضي في نطاق ما يروجون له من قيامهم بما صوروه على أنه مهمتهم التاريخية والكونية في محاربة انتشار الشيوعية. كما صارحوهم في لحظة عابرة بأنهم لن يُقدّموا لمصر عوناً مالياً لأن القانون الأمريكي لا يتضمّنُ ما يُمكّنُهم من تقديم هذا الدعم بل إنهم رفضوا أن يكفوا عن محاربتهم الخفية وربما الحاقدة للقطن المصري طويل التيلة.

الحقيقة الثالثة: أن نشاط محمود فهمي النقراشي باشا الدائب و الواسع وحرص مرافقيه على ترتيب المقابلات الرفيعة المستوى له فضلا عن مكانة مصر يومها كل أولئك قد مكّنه من أن يلتقي بالرئيس الأمريكي نفسه،  ومن أن يتباحث مع وزير الخارجية الأمريكي الأشهر مارشال ،وأن يلتقي بزعماء ووزراء من هذا المستوى ، ومع أن هذه المقابلات لم تُسفر عن انحياز فوري أو إنجاز حقيقي  لكنها رمت بذورا جيدة ، وأستطيع أن أقول إن محمود فهمي النقراشي باشا الذي عاد بقدر كبير من خيبة الأمل اكتسب بفضل هذه الجُرعة  المعتبرة من خيبة الأمل مناعة جزئية ضد توقّعاته للموقف الدولي في الحرب التي كان العرب مُقدمين عليها من أجل الحفاظ على أراضي فلسطين، ولولا أن العرب الرسميين وعلى رأسهم محمود فهمي النقراشي باشا وأنداده الذين حضروا اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة  وما بعدها قد عرفوا مُبكّراً هذه الحقائق عن التواطؤ الدولي لكانت الخسارة العربية في فلسطين أكثر تبكيراً وأضخم  حجماً ممّا حدث بالفعل بسبب ما كان من هذا التغييب المُتعمّد لوجهات نظر العرب عن المُجتمع الدولي وهو ما تواطأت عليه فرنسا وبريطانيا وأمريكا و الاتحاد السوفييتي.

الحقيقة الرابعة  أن أسلوب التصلّب الظاهري التقليدي الذي تمسّك به الوفد المصري برئاسة النقراشي في عدم التفاوض مع البريطانيين قد نجح في أن يضغط على أعصاب البريطانيين (الباردة) من حيث لم يتصور المصريون، ذلك أنه حتى من قبل ذهاب محمود فهمي النقراشي باشا للأمم المتحدة فإن جولة مُفاوضات محمود فهمي النقراشي باشا مع البريطانيين كانت هي الأقصرُ زمناً على الإطلاق في جولات المفاوضات البريطانية المصرية، ومع هذا فإن البريطانيين حاولوا بكلّ وسيلة أن يبدأوا مفاوضات جديدة مع محمود فهمي النقراشي باشا في الأمم المتحدة وطلبوا من الأمريكيين الضغط على مصر في هذا الاتجاه، بيد أن محمود فهمي النقراشي باشا كان طموحاُ بالطبع إلى أن يحصُل على ما لم يحصُل عليه من سبقوه ، ولهذا فإنه كان يُريد أن يبني على ما حقّقته مفاوضات سلفه المباشر إسماعيل صدقي باشا مع بيفن (مفاوضات صدقي بيفن 1946 المشهورة) ، وكما هو معروف عن محمود فهمي النقراشي باشا فإن تصلّبه الصريح دفع البريطانيين في رسمهم لخُططهم القادمة إلى أن يكونوا أميل إلى فهم الموقف المصري الشعبي والحزبي الذي لم يعُد يُلقي بالاً للمعاهدة التي لم تكن بريطانيا نفسها حريصة في نظرهم على أن تلتزم بروحها.. وهكذا يُمكن لنا القول بأن فشل مفاوضات محمود فهمي النقراشي باشا ثم فشل مهمته في الأمم المتحدة كان ذا نتيجة مباشرة في موقف الوفد الحاسم والنحاس باشا بعد سنتين حيث انتقل هذا الموقف بتدرج متوقع من إعادة التفاوض إلى إلغاء المعاهدة إلى الكفاح المُسلّح من دون أن تكون بريطانيا سباقة في تحديد البدائل أو المسارات ، وهو ما جعل البريطانيين جاهزين للجلاء على يد الأمريكيين الذين استطاعوا الدخول كطرف ثالث للقضية المصرية منذ ذهب محمود فهمي النقراشي باشا إلى الأمم المتحدة، وهنا أحبّ أن أكرر وجهة نظري حين  أصف الأمم المتحدة نفسها بأنها تقع في نطاق الولايات المتحدة الأمريكية من باب النفوذ بأكثر مما تقع في هذا النطاق من باب الجغرافيا.

و إذا قيل إن الدور الأمريكي في المفاوضات البريطانية المصرية كان هو الدور الفاعل  الحقيقي الذي أوصل هذه المفاوضات إلى ما عُرف باتفاقية الجلاء في 1954 التي جرت مع ضباط يؤمنون بالولايات المتحدة الأمريكية ويثقون بها كما تثق بهم، فإننا نستطيع أن نقول بأن هذا الدور لم يبدأ إلا موازياً لزيارة محمود فهمي النقراشي باشا للولايات المتحدة الأمريكية ليعرض القضية في الأمم المتحدة ، بينما أثبتت مُجريات الأحداث اللاحقة أنه عرضها في الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر مما عرضها في مجلس الأمن ، وأن الولايات المتحدة أجرت له  ولمرافقيه عدداً من التقييمات الموضوعية و الشخصية لقياس تجاوب كل منهم مع مصالحها،  وربما أدّت هذه التقييمات فيما بعد إلى دفعه هو نفسه (بتكثيف متوالٍ من دهاء الأمريكيين المؤسسين في إدارة وتحوير الصراعات الوطنية ) إلى اتخاذ القرار الذي أدى إلى مصرعه هو نفسه .

 بيد أن التاريخ يحدثنا بوضوح عن أن هذه التقييمات الميدانية قد انتهت بالولايات المتحدة إلى قرارها النهائي الذي كشفه مسار التاريخ فيما بعد، وهو أن من الأيسر عليها أن تأتي ببعض الضباط المصريين إلى الحكم من خلال انقلاب أو ثورة تبدو إسلامية أو يسارية، وتستريح من أمثال محمود فهمي النقراشي باشا وممن هم أقوى منه موقفاً وشعبية وحزبية كالنحاس باشا أو قوة الإخوان الصاعدة.

نبدأ المعالجة التحليلية لشخصية محمود فهمي النقراشي باشا بذكر حقيقة مهمة وهي أنه كان بمثابة المعلم الوحيد وخرّيج مدرسة المعلمين العليا الوحيد بين رجال القانون والإدارة الذين تزعّموا الحركة الوطنية في الحقبة الليبيرالية، ولم يجد محمود فهمي النقراشي باشا نفسه مُضطراً إلى أن يدرُس القانون ولا إلى أن يحصُل على ليسانس الحقوق ليتماشى أو ليتبارز مع أنداده فقد كان اندماجه في العمل الوطني قد حدث مُبكراً ولم يترُك له وقتاً لمثل هذا الترف الفكري الذي مارسه على سبيل المثال التربوي الكبير الأستاذ محمد فريد أبو حديد (المولود 1893  أي بعد محمود فهمي النقراشي باشا بخمس سنوات) والذي هو واحد من أبرز خرّيجي المعلمين العليا إنجازا في الأدب والتاريخ والوظائف التربوية العليا ، مع هذا فإنه آثر أن يدرس الحقوق وأن يحصُل على درجة الليسانس في القانون في أثناء عمله التربوي .

ومن المثير أن محمود فهمي النقراشي باشا لم يبدا حياته الوزارية بوزارة المعارف بل إنه تولاها بعد أن وصل إلى تولي وزارة الداخلية بأهميتها وخطرها. وقد أتاح عمل محمود فهمي النقراشي باشا بالتعليم  و وزارة المعارف أن يكون زميلاً و صديقا لعدد كبير من العلماء و الأدباء ورجال التربية فقد كان صديقا لمشرفة باشا (المولود بعده بعشر سنوات) ولأمثال مشرفة من مُؤسسي كُلّيتي العلوم والآداب ، ولطائفة من رجال العلم والتعليم من الدرعميين والأزهريين، كما أتاح له اتصالاً وثيقاً برجال الثقافة والفكر، ومن الجدير بالذكر أن صداقته للأستاذ عباس محمود العقاد (المولود بعده بعام) كانت مُمتدة وعميقة بل إن حُزن العقاد على فقدان حياة محمود فهمي النقراشي باشا كان هو سبب كل العداء والكراهية الذي ينفعل به الأستاذ العقاد ضد جماعة الإخوان المسلمين..

نعرف أن الشائع و المستقر والثابت في المنتج التاريخي هو أن أحمد ماهر باشا هو زعيم الانشقاق على النحاس وأن محمود فهمي النقراشي باشا كان معه في هذا الانشقاق رديفا وعونا وشريكا لكن الحقيقة المتعلقة بالتاريخ في طور صناعته تقول بأن محمود فهمي النقراشي باشا هو الذي بدأ وأن أحمد ماهر انضم إليه، ومن الطريف أن الانشقاق بدأ بسبب مداولات في مجلس الوزراء على مناقصة تعلية خزائن أسوان، وكان محمود غالب باشا مُعترضاً على ما طلب عثمان محرم الموافقة عليه، وانضم محمود فهمي النقراشي باشا إلى رأي محمود غالب باشا كما انضم مكرم عبيد باشا إلى رأي عثمان محرم باشا ، ولمّا تنامى الخلاف وتحوّل إلى مناقشة حول نزاهة الحكم انتقل إلى الشارع السياسي، ولم يكن أحمد ماهر في ذلك الوقت عضواً في مجلس الوزراء وإنما كان هو رئيس مجلس النواب الوفدي وهكذا أصبح أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي باشا زعيمين للانشقاق بينما كان محمود غالب معهما لكن اسمه اختفى مع أنه تولى الوزارة معهما بعد ذلك بعيداً عن الوفد ، وبهذا الانشقاق نشأ حزب الهيئة السعدية بزعامة أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي باشا ، وأشترك هذا الحزب  في الوزارات الائتلافية والانتخابات البرلمانية بهذه الصفة ، وكانت أولى الوزارات التي شارك فيها السعديون بصفتهم سعديين هي وزارة محمد محمود باشا الرابعة في يونيو 1938، وكان الحزب السعدي  يشترك بوزراء كانوا قبل هذا وفديين  من قبيل أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي باشا ومحمود غالب ثم جاء الوقت الذي وصل فيه أعضاء الهيئة السعدية أنفُسهم إلى الوزارة بسبب انتمائهم للهيئة السعدية فكان من هؤلاء إبراهيم عبد الهادي باشا ، وحامد محمود ، ونجيب إسكندر ، وعبد الرزاق السنهوري،  ، وعلي أيوب ، وأحمد مرسي بدر.

و من الطريف أن التاريخ يذكُر ثنائي ماهر ومحمود فهمي النقراشي باشا دائماً بتقديم أحمد ماهر حتى ليتصوّرُ القارئ أو المتابع أن أحمد ماهر كان يكبُر محمود فهمي النقراشي باشا بسنوات كثيرة تسمح له بهذه الأسبقية المُطلقة في كل ذكر بينما الحقيقة انهما كانا من مواليد نفس العام  1888، وأن محمود فهمي النقراشي باشا ولد في 26 إبريل أي قبل أحمد ماهر الذي ولد في 30 مايو،  بينما ولد معاصرهما ورئيس الحزب المؤتلف مع حزبهما الدكتور محمد حسين هيكل باشا في 30 أغسطس من السنة نفسها ، ونحن نعرف أن احمد ماهر توفي في فبراير 1945 بينما عاش محمود فهمي النقراشي باشا حتى تعدّى الستين وتوفي  في ديسمبر 1948.. لكن الطريف أيضا أن أحمد ماهر باشا سبق النقراشي باشا إلى تولي الوزارة منذ 1924 وإلى تولى رياسة الوزارة منذ 1944، وعلى طريقة الدفعات المتوازية بين المدارس العليا المختلفة فقد تخرّج محمود فهمي النقراشي باشا في المعلمين العليا في عام من عامين متواليين تخرج فيه من رجال القانون كل من أحمد ماهر ومحمد حسين هيكل وعبد الحميد بدوي وبهي الدين بركات ومكرم عبيد وعبد الرحمن الرافعي وحسن نشأت الذين ولدوا في الفترة نفسها.

وليس من قبيل المصادفة أن ينظر إلى محمود فهمي النقراشي باشا وهؤلاء الحقوقيين على أنهم أبناء سعد زغلول ذلك أنهم تخرجوا في الفترة التي كان سعد زغلول نفسه وزيراً للمعارف ومُتحمّساً لإرسال البعثات والتوسّع فيها، ولهذا كانت بعثاتهم بصورة أو أخرى على يدي سعد زغلول الذي كان وزيراً للمعارف (1906 ـ 1910)

ومن المهم في هذا المقام أن نُشير إلى أن محمود فهمي النقراشي باشا كان سابقاً في السن على الأبطال الميدانيين الحقيقيين في ثورة 1919 من أمثال إبراهيم عبد الهادي وسيد باشا وعريان يوسف سعد وهم الذين نشرنا مذكراتهم وتواريخ حياتهم في كتابنا عن العمل السري في ثورة 1919: مذكرات الشبان الوفديين، كان محمود فهمي النقراشي باشا حسبما تواتر في هذه المذكرات بمثابة قائد من قادة هذا العمل السري يُشارك فيه بنفسه لكنه يُوجّه ويُنسّقُ بأكثر مما يُشارك، وكان مع صديق عمره أحمد ماهر قريبين جدا من القائد الأكبر للعمل السري وهو عبد الرحمن فهمي بك (عم أحمد ماهر باشا ) الذي عُرف على أنّه ديدبان الثورة، وصاحب المذكرات المشهورة التي نُشرت فيها رسائله إلى سعد زغلول في المنفى ورسائل سعد زغلول إليه.

بعد كل هذه الزوايا الكاشفة يمكن لنا القول بأن محمود فهمي النقراشي باشا كان هو النموذج البارز للسياسي الذي يبدو للوهلة الأولى أنه امتلك كل مقومات النجاح، ومع ذلك لا ينال ذروة النجاح، وهو النموذج البارز لرجل الدولة الذي يحظى بأكبر قدر من الأخلاق الفاضلة والفضائل البارزة، والسجايا الحميدة، ومع هذا لا تكون محصلة إنجازاته وجهوده إلا في صورة تبدو وكأنها متناقضة مع الفضائل المطلقة. ولو أن الفكر السياسي علي مستوي الرأي العام كان ناضجا بما فيه الكفاية لكانت تجربة محمود فهمي النقراشي باشا  في الحكم قد أصبحت  بمثابة صمام أمان وتجربة حية كفيلة بأن تحمي مصر من خطايا العهد التالي الذي عرف على أنه عهد ثورة 1952، ولكن لسوء الحظ الوطني فإنه لا عبد الناصر استوعب تجربة محمود فهمي النقراشي باشا ، ولا الصحافة عرضت تجربة محمود فهمي النقراشي باشا  عليه وعلى غيره من أجل العبرة والخبرة، وهكذا تكررت خطايا عهد محمود فهمي النقراشي باشا  بصورة مضاعفة على مدى عهد عبد الناصر دون أن ينتبه أحد، أو بالأدق دون أن ينبه أحد إلى أن التاريخ الوطني حلقات متصلة لابد لها أن تفيد من بعضها على نحو ما هو مفترض.. ولكن مستشاري السوء كانوا كما نعرف (ونتوقع) يفضلون تصوير الأمور للحاكم، وكأنها تبتدئ من الصفر المطلق. وكذلك كانوا يفعلون مع الشعب أيضا حين يصورون البدايات المطلقة ويحرضون على توقع الانتصارات المطلقة.

كان محمود فهمي النقراشي باشا نموذجا مبكرا لنزاهة الحكم غير المرتبطة  بسعة الأفق على نحو من كانوا قبله الذين جمعوا بين الخاصتين في ذكاء أما النقراشي  فقد  كان يبدو حريصا على أن يوصف بأنه حنبلي على نحو ما كان بالفعل ، ومع أن مصر أوذيت بسبب بعض مواقفه ، فإن المؤرخين يحرصون على إثبات هذه الحقيقة في مطلع أحاديثهم عنه ، وعلى سبيل المثال فإن المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي (1889 – 1966)  وجد نفسه ( وهو ينقل نبض الشارع ) ملزما بأن يذكر أن النقراشي باشا كان وطنيا شريفا نزيها نظيف الذمة المالية ومن القلائل الذين لم يتربحوا من وراء مناصبهم .

كان محمود فهمي النقراشي باشا للأسف الشديد  هو ذلك الزعيم الذي قاد صراع الدولة بأجهزتها مع جماعة الإخوان المسلمين إلى سكة الندامة التي لاتزال لها آثارها بعدما اندفع النقراشي إلى هذا الصراع متسلحا بما لم يكن الصراع في حاجة إليه ، فقد كان الأمر يتطلب سعة الأفق وتوظيف البدائل والاتفاق على النهايات لكن النقراشي اندفع الى اعتبار نفسه صاحب الصواب والحق وقد اقنع نفسه بهذا متسلحا  بإخلاصه و وطنيته وثقته فيما يظنه أو يعتقد فيه ، و مدفوعا بما كان يتراكم أمامه من تقارير أمنية  كانت تغذيها  المخابرات الغربية بخبث ودهاء ، وكان هو يندفع بإخلاص إلى ما يراه واجبا عليه  مفرطا في الوقت ذاته فيما كان متاحا له من مزايا نسبية ، فلا هو استغل علاقاته الطبيعية ولا هو استغل علاقاته السياسية والحزبية الواسعة الممتدة، وهو استثمر معرفة أصدقائه ولا كفاءة محبيه من أهل الفكر والقلم ‘ ولا هو استغل دلاله بشخصه المحبوب، ولا استغل المحاور، ولا لجأ إلي ديناميات الصراع، ، وإنما نراه وقد أدخل الأمور بسرعة بالغة في دائرة لا تنتهي من المعالجات الأمنية المتناقضة مهما كان المسئولون عنها أكفاء.

ولأن محمود فهمي النقراشي باشا رجل شجاع ومسؤول ويتمتع بالثقة في أخلاقه وتدينه فقد أورثته الطاعة ذلك الغرور الإبليسي الذي لا يعرف صاحبه أنه يمارسه من دون أن يدري، ولو أن محمود فهمي النقراشي باشا كان ذا خطيئة مشينة أو نقيصة خلقية بارزة لكان هذا أفيد لبلاده، أقول هذا وأنا أستلهم قول العارفين: رب زلة أورثت ذلا وانكسارا، ورب طاعة أورثت كبرا.

ربما كان محمود فهمي النقراشي باشا محظوظا بوفاته المفاجئة فلا أظن أن حياته السياسية المقبلة كانت تحمل له أي فرصة أخري لأمجاد جديدة يضيفها إلى رصيده أمام التاريخ والوطن، ولو أنه لم يقتل في نهاية 1948 لكان عليه أن يتعرض للمهانة الشديدة حين يفوز الوفد عليه في انتخابات 1950 فينفض عنه بعض أقطاب الحزب السعدي ليعودوا إلى الوفد.

ولسنا نعرف هل كان التوجه إلى معارضة الملك فاروق في 1951كفيلا بأن يجتذب محمود فهمي النقراشي باشا لو كان لا يزال على قيد الحياة وهو المعروف بحماسه الصادق واندفاعه السريع ووطنيته المخلصة؟ وهل كان من الممكن له على سبيل المثال أن يكون (لو امتد به العمر) علي رأس قائمة الموقعين للعريضة التي قدمت للملك في 1951 التي كان على رأس موقعيها خليفته إبراهيم عبد الهادي باشا والدكتور هيكل باشا الذي نال جزاءه بتنحيته عن رئاسة الشيوخ بسبب هذه العريضة التي كان الملك يحتفظ بأسماء موقعيها في محفظته حتى لا ينساهم أبدا.

ولو استمر محمود فهمي النقراشي باشا  حيا ومسئولا حتي ما قبل قيام ثورة 1952 بقليل لكان من المحتمل أن يقود مواجهة صريحة مع تنظيم من قبيل تنظيم الضباط الأحرار، ولم يكن هذا ليفضي إلا إلي تنامي احتمالات تدخل الجيش في السياسة على نحو شبيه بما حدث في سوريا بعيدا عن التعقل والتدرج الذي بدأ به الرئيس محمد نجيب واستمر ينتهجه ، ولكن النتيجة كانت ستمضي في طريق آخر، وهو أن يكون هذا التنظيم نفسه (أو غيره إذا ما قدر تصفيته) أعنف في معاملته للحكومة وللنقراشي منه  في عنفه مع أي رئيس وزراء آخر، ذلك أن جماعات الراديكاليين يكرهون السياسيين الأطهار بأضعاف ما يكرهون الساسة ذوي السمعة المختلف في شأنها ، ويرون أن وجود الأطهار يمثل العقبة في طريقهم، وأن قتلهم هو الأجدى. وربما يسألني القارئ: هل هناك ما هو أعنف مما لقيه النقراشي باشا من القتل وأجيبه بأن العسكر لم يكونوا ليقبلوا بقتل النقراشي باشا وإنما كانوا سينسفونه بموكبه على النحو الذي نسف به الرئيس رفيق الحريري. وربما نسأل أنفسنا بطريقة مماثلة عما نتوقعه لو أن الثورة قامت ومحمود فهمي النقراشي باشا على قيد الحياة وظني أن ذلك لو حدث لقدم النقراشي باشا إلى المحاكمة على نحو ما قدم إبراهيم عبد الهادي، ولنال حكما بالإعدام على نحو ما نال إبراهيم عبد الهادي، وربما كان أسوأ حظا ولم ينل تخفيف الحكم علي نحو ما خفف الحكم عن إبراهيم عبد الهادي. ولو تأملنا هذا كله على نحو ما صورت لاسترجعنا إشارة الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع.

كان محمود فهمي النقراشي باشا بالمصادفة أو بغيرها صاحب أطول الوزارات عمراً في حكم الملك فاروق بعد الزعيم مصطفى النحاس باشا، ذلك أن وزارته الثانية استمرت لأكثر من عامين، كما أن وزارته الأولى استمرت قرابة عام ولم يترك الحكم إلا باغتياله في 28 ديسمبر 1948. وقد كانت علاقة النقراشي باشا بالملك فاروق نموذجًا للقصة الإنسانية المكتملة، فقد بدأت العلاقة وكأنها مفاجئة (بينما لم تكن في الغالب كذلك) حين قتل أحمد ماهر وتولى النقراشي باشا رئاسة الوزارة خلفا له كما تولى رئاسة الهيئة السعدية، لكن النقراشي باشا استطاع أن يبقى في موقعه طيلة ما يقرب من عام كامل (بدءا من فبراير 1945) في ظروف معقدة، وقد بدا أن الملك فاروق وجد فيه ضالته أخيرًا، فقد كان النقراشي باشا فيما يبدو يشرح للملك البدائل ثم يقول له إن الأمر له، ثم لا يباهي بآرائه هو.  وهكذا وجد الملك الراحة مع النقراشي باشا، وإن كان مجتمع السياسة الحي لم يجد نفس القدر من الراحة مع النقراشي باشا. وهكذا أصبح النقراشي باشا من حيث لم يرد نموذجًا لرئيس الوزراء الملكي تمامًا، وهكذا أيضا واجه النقراشي باشا حركات الطلاب والشباب والراديكاليين بغير ما كان يتوقعه الناس من زعيم كان في شبابه ثائرًا إلى الحد الذي جعل رقبته تقترب من المفصلة.

وهكذا فإن النقراشي باشا رغم كل شيء اضطر للاستقالة في فبراير 1946، ولجأ الملك إلى تكليف خلف له هو صدقي باشا الذي بقي حتى ديسمبر 1946 حين أصبح النقراشي باشا نفسه متهيئا للعودة بنمط جديد من الخبرة القادرة على إرضاء الساسة وإرضاء الملكية في الوقت نفسه، وهكذا قضى النقراشي باشا مع الملك سنتين في أطول وزارة لزعيم أقلية (ديسمبر 1946 – ديسمبر 1948)، وقد بات الملك مستريحًا إلى النقراشي باشا كرجل تنفيذي من طراز رؤساء الوزراء التنفيذيين الذين عرفناهم فيما بعد في عهود العسكر لكن الملك فاروق  كان يدرك بالحاسة الملكية  أن النقراشي باشا يفتقد الزعامة الحقيقية و الكبرى التي يمثلها النحاس باشا، ولهذا فإن الملك في ظل نضجه بدأ يحسب حسابات فطرية ذكية تتمثل في أن يكمل  بنفسه هو  وبطريقته الجسورة بعض ما كانت تفتقده شخصية النقراشي باشا من مقومات سعة الاطلاع ومن إجادة وزن الأمور .

وبهذا المنطق كان الملك مشاركًا بصفة أو أخرى في إدخال عبد الحميد بدوي إلى وزارة النقراشي باشا، كما أنه هو الذي قرر من دون أن يشاور النقراشي باشا أن يختار إبراهيم عبد الهادي باشا (الذي هو نائب النقراشي باشا في رئاسة الهيئة السعدية) ليكون رئيسًا للديوان الملكي.

وفي هذه الفترة كان الملك يمارس كثيرًا من صلاحيات رئيس الوزراء بنفسه، ومن ذلك ما نعرفه عن تدخله في أمور جوائز الدولة والجامعة والتعليم … إلخ)

لكن الملك ترك النقراشي باشا من دون الحماية الكافية في مواجهاته مع جماعة الإخوان المسلمين التي تمت بناء على طلب الغرب (الأمريكان من وراء ستار البريطانيين) وذلك على الرغم من أن الملك كان أدرى بخباثات الأمريكان من دراية النقراشي باشا نفسه، وهكذا ترك الملك النقراشي باشا يدفع ثمن اندفاعه في معاملة الإخوان على نحو ما ترك أحمد ماهر باشا يدفع ثمن اندفاعه في إعلان الحرب والموقف منها. وكان الثمن في حياة الرجلين هو حياتهما نفسيهما. ولم يتعطف الملك فاروق على أي من الرجلين باللقب الذي يرفع اسميهما إلى صاحب المقام الرفيع ليكونا مثل علي ماهر باشا أو محمد محمود باشا. ومع هذا فإن مقتل النقراشي باشا (من بعد مقتل أحمد ماهر) طبع نفسية الملك فاروق بقدر من الحزن الحقيقي الذي أسهم مع الزمن في حمله على التخلي عن العرش مع ما اقترن به هذا التنازل من حكمة ورضا وذكاء.

نعرف أنه في عهد محمود فهمي النقراشي باشا   دخلت مصر حرب فلسطين (مايو 1948). وفي عهده أيضاً انضمت مصر إلى هيئة الأمم المتحدة، وعرضت قضايا مصر على مجلس الأمن، أعلن على الملأ في مجلس الأمن يوم 5 أغسطس 1947 أن على بريطانيا الجلاء التام ودون أية شروط وينسب أنصاره إلى النحاس باشا التقليل من فرص نجاحه حين أطلق تصريحه بأن محمود فهمي النقراشي باشا لا يمثل مصر».

أما إنجازاته التنفيذية كثيرة، ومنها إنشاء الكلية البحرية، وكانت عند إنشائها تسمى بكلية الضباط البحرية بالإسكندرية، وإنشاء البنك الصناعي، و إنشاء مصلحة الأرصاد الجوية، وقناطر أدفينا ، وتأميم شركة الكهرباء بالقاهرة وتمصير كثير من الشركات ، و في عهده  تم اعتماد عشرة ملايين جنيه للبدء في تنفيذ مشروع كهربة خزان أسوان كما تم تعويض أهالي النوبة عن تلف محاصيلهم بسبب حجز المياه خلف خزان أسوان، كما تم إنشاء المدينة الجامعية لجامعة فؤاد الأول. وإليه يعود الفضل في إصدار بعض التشريعات الوطنية الجديدة بعد انتهاء الامتيازات الأجنبية ومنها قانون الشركات، والقانون المدني الجديد.

في مجال التعليم يُذكر للنقراشي باشا أنه أنشأ مدارس ليلية لخريجي المدارس الصناعية والتجارية الثانوية، وأنه هو الذي ألغى تدريس اللغة الإنجليزية في السنة الأولى من المدارس الابتدائية، كما أنه هو الذي وحّد المناهج في مدارس رياض الأطفال وفي عهده أنشئت أقسام اللغات الشرقية ومعهد الصحافة في كلية الآداب جامعة القاهرة.

مع ذلك فإن بعض الأخطاء التي تنسب إليه كبيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنه في نهاية عهد وزارته الأولى وقعت الحادثة المشهورة بفتح كوبري عباس على الطلبة المتظاهرين فوقه.

ولد محمود فهمي النقراشي باشا في الإسكندرية، وفيها تلقى بدايات تعليمه والتحق بمدرسة المعلمين الخديوية وتخرج فيها، كما تخرج في جامعة نوتنجهام ببريطانيا (1909)، وعمل مدرسا في مدرسة التجارة العليا حيث التقى بزميل عمره الدكتور احمد ماهر. شارك مبكرا في العمل السياسي من خلال ثورة 1919 ولمع اسمه، وتنقل في مناصب التعليم وعمل ناظرا لمدرسة رأس التين الثانوية التي ارتبط اسمه بها، ومديرا للتعليم في أسيوط كما عمل سكرتيرا عاما لوزارة المعارف

وفي عهد وزارة الشعب اختاره الزعيم سعد زغلول باشا وكيلا لمحافظة القاهرة ثم عين وكيلا لوزارة الداخلية وعقب مقتل السردار الإنجليزي السير لي ستاك سنة 1924 لكنه أحيل للمعاش واعتقل واتهم مع أحمد ماهر في أعقاب مقتل السردار وقدم للمحاكمة ثم أفرج عنه.

بدأ محمود فهمي النقراشي باشا مناصبه الوزارية وزيراً للمواصلات طيلة وزارة النحاس باشا الثانية (يناير 1930 ـ يونيو 1930)، ثم عاد إلى نفس المنصب في وزارة النحاس باشا الثالثة (مايو 1936 ـ 31 يوليو 1937)، وكان خروجه من الوزارة مع إعادة تشكيلها عند تولي الملك فاروق سلطاته الدستورية في نهاية يوليو 1937، وكان هو أبرز الوزراء الذين تركوا الوزارة يومها، لأن زميله أحمد ماهر لم يكن عضواً في الوزارة وإنما كان خارج الوزارة كرئيس لمجلس النواب.

هكذا لم يشترك محمود فهمي النقراشي باشا في وزارة النحاس الرابعة (أغسطس 1937) ولا في الوزارتين الأوليين من وزارات محمد محمود الثلاث التي أعقبتها، ولكنه قبل العمل كوزير للداخلية في وزارة محمد محمود باشا الرابعة (24 يونيو 1938 ـ 18 أغسطس 1939)، وذلك بعد أن حدث الاتفاق على اشتراك السعديين مع محمد محمود باشا في هذه الوزارة (بهذا الائتلاف أصبح أحمد ماهر وزيراً للمالية ومحمود فهمي النقراشي باشا وزيراً للداخلية)، وهي على كل الأحوال أطول وزارات محمد محمود الثلاث المتصلة عمراً.

وفي الوزارة التالية وهي وزارة علي ماهر باشا، خرج الدستوريون من الحكم مع خروج محمد محمود باشا منه، وبقي السعديون يساندون علي ماهر وكان من العجيب أن يتنازل محمود فهمي النقراشي باشا عن وزارة الداخلية التي تولاها في وزارة محمد محمود السابقة ليتولى وزارة المعارف مع علي ماهر باشا. والأكثر مدعاة للتأمل والتقدير و الإعجاب ما يرويه الدكتور هيكل باشا سلفه في وزارة المعارف من أنه ـ أي محمود فهمي النقراشي باشا  ـ كان سعيداً جداً بتولي هذه الوزارة خلفاً له (!!)  ومن الطريف أن أحمد ماهر باشا قطب السعديين  الذين كانوا هم الحزب الرئيسي  في هذه الوزارة لم يشترك في هذه الوزارة.

ثم خرج علي ماهر باشا من الحكم وخلفه حسن صبري باشا كرئيس للوزارة لكن محمود فهمي النقراشي باشا استمر، وها هو مع تشكيل وزارة حسن صبري (28 يونيو) يعود ليتولى وزارة الداخلية حتى 2 سبتمبر فقط، حيث يتولى المالية لأول مرة في حياته، لكنه لا يمضي فيها أكثر من عشرين يوماً يخرج بعدها ومعه السعديون من وزارة حسن صبري باشا في 21 سبتمبر 1940وذلك بسبب الخلاف الحاد على موقف مصر من دخول الحرب العالمية الثانية.

وتتشكل وزارتا حسين سري باشا الأولى على نحو ما انتهت وزارة حسن صبري بلا مشاركة من السعديين فلا يشارك فيها محمود فهمي النقراشي باشا ثم تتشكل وزارته الثانية فلا يشارك محمود فهمي النقراشي باشا فيهما حتى مع عودة السعديين إلى الاشتراك في الوزارة!

وفي فبراير 1942 يعود الوفد للحكم ويبقى حتى أكتوبر 1944 حيث يتولى أحمد ماهر باشا رئاسة الوزارة، وعندئذ يتولى محمود فهمي النقراشي باشا وزارة الخارجية في وزارتي ماهر باشا الأولى والثانية، وكان هذا أول عهده بوزارة الخارجية، وللقارئ أن يعجب من أن يقبل تولي الخارجية فقط بعد أن تولى الداخلية والمالية في وزارات مَنْ لا تصل صلته بهم إلى صلته برئيس الوزراء الجديد أحمد ماهر باشا!! ولكن الذي رأى محمود فهمي النقراشي باشا يقبل وزارة المعارف في وزارة علي ماهر بعدما كان قد تولى الداخلية في وزارة محمد محمود لن يتعجب من هذه الثقة بالنفس!

على أي الأحوال فإنه الآن يكون حتى الآن (أكتوبر 1944) قد شارك في سبع وزارات مع خمسة رؤساء وزراء هم: النحاس باشا (وزارتان)، ومحمد محمود، وحسن صبري، وعلي ماهر، وأحمد ماهر (وزارتان)، وقد تولى خمس وزارات هي: المواصلات، والداخلية، والمعارف، والمالية، والخارجية.

وفي 24 فبراير 1945 تولى هو نفسه رئاسة الوزارة عقب اغتيال أحمد ماهر ويجمع معها الداخلية طيلة وزارته الأولى، كما يستبقي الخارجية في حوزته في الأيام العشرة الأولى من رئاسته للوزارة.

أما في وزارته الثانية فإنه يحتفظ بالداخلية طيلة عهد الوزارة (ديسمبر 1946 ـ ديسمبر 1948)، كما يستبقي الخارجية معه من بدء الوزارة وحتى 19 نوفمبر 1947، حيث يتركها ليتولى المالية إلى نهاية عهده في الوزارة، وحين يتعرض للاغتيال فإنه يكون (شأن صدقي باشا في معظم أوقات وزارته) محتفظاً بالرئاسة والداخلية والمالية.

هكذا تعددت مناصب محمود فهمي النقراشي باشا الوزارية على مدى 19 عاماً كاملة إلا يومين (1 يناير 1930 ـ 28 ديسمبر 1948)، تولى فيها 5 وزارات في تسع وزارات (رأس وزارتين منها)، وعمل مع خمسة رؤساء وزارة بالإضافة إليه هو نفسه.

•••

ونأتي إلى واقعة اغتياله وقد نقلت الصحف والأدبيات التاريخية وصف الحادث عن صحيفة مسائية كانت تصدر في ذلك الوقت وهي الزمان التي كان الأستاذ الحمامصي مسؤولا عنها كانت تربطه بالنقراشي باشا صلة قرابة:

” في العاشرة إلا الثلث من صباح اليوم دخل ضابط بوليس برتبة ملازم أول صالة وزارة الداخلية في الطابق الأول فأدى له حراس الوزارة التحية العسكرية وأخذ يقطع الوقت بالسير البطيء في صالة الوزارة كأنه ينتظر شيئا وعندما أحس بقرب وصولة دولة النقراشي باشا اتجه نحو الأسانسير ووقف بجانبه الأيمن وفي تمام العاشرة وخمس دقائق حضر النقراشي باشا ونزل من سيارته محاطا بحرسة الخاص واتجه للأسانسير فأدى له هذا الضابط التحية العسكرية فرد عليه مبتسما وعندما أوشك النقراشي علي دخول الأسانسير اطلق عليه هذا الضابط ثلاث رصاصات في ظهره فسقط قتيلا ونقل جثمانه إلى داره بمصر الجديدة “

” وأعلنت محطة الإذاعة الحداد لمدة يومين تقتصر فيهما البرامج على القران الكريم والأخبار والأحاديث بمعرفة المذيعين وحدهم مع إعفاء المذيعات كنوع من الحداد “

دفن النقراشي باشا بجوار صديقه ورفيق عمره أحمد ماهر باشا في المدفن المقام بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) بالقرب من مستشفى دار الشفا بالعباسية.

 وكان  الأستاذ مصطفي أمين الذي يتمتع بصداقة النقراشي باشا وثقته كما كان أقوى مؤيديه وأنصاره بقلمه وصحيفته  ،  رثاه عقب وفاته بمقال جعل عنوانه:” النقراشي كان يعرف انه سيموت'”  مشيرا إلى أنه كان   قد تنبأ له باغتياله راويا  أنه ذهب لزيارته في منزله قبل اغتياله بأسبوعين تقريبا ودار الحوار بينهما حول القرار الذي ينوي إصداره بحل جماعة الإخوان المسلمين فتمسك النقراشي برأيه في ثبات عجيب يعرف عنه منذ شبابه الباكر أيام اشتراكه في ثورة 1919 وقال بالنص: “سوف أصدر القرار وأنفذه وبعد الاطمئنان على الحالة سأستقيل وأعود معلما كما بدأت وأعلم ابني هاني وصفية بنفسي’! ولما رآه مصطفي أمين مصرا على تنفيذ رأيه قال له: ‘قد تكسب رأيك ولكننا سنخسرك.. وتحققت النبوءة واغتيل النقراشي.. وختم مصطفي أمين مقاله قائلا: تلقيت نبأ مقتل النقراشي فلم ابك ولم انتحب لأني بكيته بالدمع السخين قبل أن يموت بأسبوعين.

  وقد توالت حفلات تأبين النقراشي باشا وتباري الشعراء والأدباء في رثائه، وكان في مقدمة الشعراء الراثين له المفكر الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) وقد رثا صديقه النقراشي باشا  بقصيدة عنوانها “الشهيد الأمين” مطلعها :

أسفي أن يكون جهد رثائي/ كلم عابر ورجع بكاء

وقد عجز الأستاذ العقاد عن حضور الحفل بسبب المرض فعهد بإلقاء هذه القصيدة إلى الأستاذ محمد شوقي أمين (عضو مجمع اللغة العربية فيما بعد).

وفي هذه القصيدة الحافلة بالجزع والألم يظهر الأستاذ عباس محمود العقاد على غير طبيعته ملتاعا عدميا سوداوي المزاج وهو يعبر عن ألمه من أنه لا جدوى للرثاء فقد ذهب الفقيد ولا رجعة له ، وليس يغنيه الدمع ولا يفي له بشيء وهو يرى أن فناء النقراشي بالنسبة له أصعب من فنائه هو :

أسفي أن يكون جهد رثائي/ كلمٌ عابرٌ ورجع بكاء

ما رثاء الحزين غير تعلَّا/تٍ وما النوح غير نفث هواء

ليتني أخرس الفناء لساني/ قبل يومٍ أشقى له من فنائي

ما وفاء بذل الدموع من الحز/ ن على من وفّى ببذل الدماء

•••

ويعبر الأستاذ العقاد عن أساه لضلال النفوس التي ارتكبت هذه الجريمة بغدرها وظلمه وظلماتها وعشوائيتها  وهو يتساءل عن هذه الحواس التي تعطلت وصدقت المفتريات واندفعت إلى هذا الإثم في ظل عجز المتعقلين عن الهداية :

إنَّ حزني على هذه الأنفـ/ ـس ضلَّت فينا سبيل السواء

نُكِسَتْ بينها الموازينُ نكسًا/ واستحالت معالم الأشياء

كم رأينا غدرًا ولا من عُداةٍ/ وشهدنا حربًا ولا من عداء

ظلماتٌ تقودها خبطَ عشوا/ ءَ وويلٌ لخابط العشواء

أتصمُّ الآذانُ عن صادق النصـ/ ـحِ وتصغي طوعًا لكلِّ افتراء؟

أمةٌ في الشقاء من معتدٍ فيـ/ ـها عليها ومن صريع اعتداء

أعجز العاجزين يقوى على إيذا/ ئها غايةً من الإيذاء

والقديرون يشتكون من العجـ/ـز إذا مهَّدوا لها بالدواء

كيف كيف النجاءُ من هذه المحنـ/ ـة بل أَيْنَ أَيْنَ حقُّ النجاء؟

ثم يؤكد الأستاذ العقاد حزنه على ما انتاب الأمة من تزييف الحقائق وسيطرة السفهاء وتحكم الجهل الذي هو أوخم عاقبة من حكم البهائم .. ، وهو يختم هذا الجزء من قصيدته بتساؤله الشهير:  إذا كنا نحكم على النقراشي بالقتل فمن هو الذي يستحق البقاء ؟

إن حزني حزنٌ على هذه الأمـ/ـة رفقًا بها إلهَ السماءِ

قُلبت آيةُ الحقائق فيها/ وقضى سفلها على العظماء

غيلة الموت للغيور عليها/ وقضاء الحياة للجهلاء

وقضاء الجهول أوخمُ عقبى/ من قضاء البهيمة العجماء

فتنةٌ تَعْمَهُ البصائرُ فيها/ وتضلُّ العقولُ في تيهاء

إن أبينا البقاء حقًّا لمحمو/ د، فمن ذا يرجى لطول البقاء؟

•••

ويفيض الأستاذ العقاد في تجلية معنى بيته الأخير متخذا من هذه الفكرة مدخلا للحديث عن شمائل الإنسانية الرفيعة في شخص النقراشي باشا وهو الذي بلغ أقصى الحنان ، وأشم الحفاظ ، وأخفى العفاف ، وأعدل الإنصاف ، وأهدى الذكاء ، و أبلغ الزهد ، وأنصع الخلق ، و أجمل الصبر ، وأصرح الجهاد  وهو يتساءل بكل ثقة  فيقول : 

 فنبئوني فإنني أنا واللـ/ ـه عراني عيٌّ عن الإنباء

أي سهمٍ ترمي به يدُ مصر/ يٍّ فيه موقعًا لرماء

أي تلك الخصال مرمى اغتيالٍ/ لبني مصر بل بني حواء

أَيُغَالُ الحنانُ فيه حنانًا/ كاد يحصى به مع الضعفاء؟

أَمْ يُغَالُ الحفاظ فيه حفاظًا/ يتحدى جحافل الأقوياء؟

أَمْ يُغَالُ العفاف أصدق ما كا/ ن عفافًا في مستسر الخفاء؟

أَمْ يُغَالُ الإنصاف يحمى عُداه/ حين يقضي من صفوة الأصفياء؟

أَمْ يُغَالُ الذكاء يخترق الحجـ/ ـب، بنورٍ يهدي كنوز ذكاء؟

أَمْ يُغَالُ الزهد الذي حار فيه/ كل مغر من سطوةٍ وثراء؟

أَمْ تُغَالُ الخلائق الزُّهرُ كادت/ تترقَّى إلى ذرى الأنبياء؟

أَمْ يُغَالُ الصبر الطويل على الجهـ/ ـد بلا مِنَّةٍ ولا إعياء؟

أَمْ يُغَالُ الجهاد في حب مصر/ ويح مصر من تلكم النكراء؟

ويختم الأستاذ العقاد قصيدته ببيت بسيط صادق معبر بقوة عن حجم مصيبته في صديقه الذي لا يتحدث عنه طيلة القصيدة إلا باسمه المحمود دون ألقاب أو كنى :

إن محمودًا الذي فقدته/ واحدٌ لا يقاس بالنظراء

يرحم الله مصر إنك يا /محمود في رحمة مع الشهداء

ومن الجدير بالذكر أن صديقا آخر للنقراشي باشا وهو  الشاعر الكبير علي بك الجارم (1881 – 1949) رثاه في الحفل ذاته بقصيدته الشهيرة التي تربو على ستين بيتا .  وقد توفي الشاعر الجارم العظيم أثناء إلقاء ابنه لهذه القصيدة في حفل التأبين. وقد وصفت مجلة الرسالة وفاة الشاعر الجارم بعبارات دقيقة و معبرة عن تقديرها له فقالت :  توفي الشاعر المغفور له الأستاذ علي الجارم بك يوم الثلاثاء الماضي، وهو يستمع إلى قصيدته في رثاء المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وكان يلقيها ابنه  الأستاذ بدر الدين الجارم في حفلة التأبين   بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية،: ” كان يتلو الأبيات مع ولده بصوت منخفض، وفجأة توقفت شفتاه ومال إلى الجالس بجواره، بينما كانت قصيدته (وداع) تلقى في وداع النقراشي، حمل إلى غرفة مجاورة لقاعة الاحتفال، ثم فاضت روحه” .

استفتح الشاعر علي الجارم قصيدته بالإشارة إلى أن المناسبة تستدعي الدمع فيلبيها القلب بدمعه بصدق و غزارة وهو يتعمق هذا المعنى الحزين بحكمة الصديق المكلوم مع حرص ظاهر على التجلد والرضا بالقضاء والقدر .

ماءُ العيونِ على الشهيدِ ذَارفِ/ لو أنّ فيضًا من مَعينك كافِي

إنْ لم يَفِ الدمعُ الهتونُ بسيبهِ/ فلمن يَفي بعدَ الخليل الوافي؟

شيئان مَا عِيبَ البكاءُ عليهما/ فقدُ الشباب، وفُرقَةُ الأُلّافِ

أغْرَقْتُ همي بالدموعِ فخانني/ وطفَا، فويلي من غريقٍ طَافِي!

وإذا بكَى القلبُ الحزين فما له/ راقٍ ولا لبكائِه من شافِي

والدمعُ تهمي في الشدائِدِ سُحبُه/ ومن الدموع مُماطلٌ وموافِي

حَارتْ به كفي تُحاولُ مَسحهُ/ فكأنَّها تُغْريه بالإيكاف

وأجلُّ ما يَلقى الشريفُ ثوابَه/ إنْ غَسَّلَتْه مَدامعُ الأشرافِ

و قد صور  الشاعر علي الجارم في قصيدته ما اعترى مشاعره المضطربة حين سمع نبأ رحيل صديقه وهو يحاول التأسي بوصف جلال موكب الفقيد الذي فاق موكب واحد من كبار الهنود في التاريخ  وهو الملك سابور ،  وبالحرص على إظهار الإيمان بالقدر الذي لا يرد مهما كان المفتدون راغبين في حياة الفقيد ومع كل هذا التجلد الذي يظهره الشاعر فإنه يلجأ إلى تصوير يصعب علىيّ أن أتقبله وهو وصفه الموت بأنه أعمى يصوب سهامه : 

طيرُ المنيةِ صِحْتَ أشأمَ صيحةٍ/ وهززتَ شرَّ قوادِمٍ وخوافِي

وَعَلَقَت بالأملِ العزيز مُحصّنًا/ بظوامِئ الأرماحِ والأسيافِ

والجندُ والأعوانُ ترعى موكِبًا/ ما حازه سابُورُ ذو الأكتَافِ

يَفْدونَ بالمهجاتِ مهجَةَ قَائدٍ/ في كلِّ منعرجٍ وكلِّ مطَافِ

رانَ الذهولُ، فكلُّ عقلٍ حائر/ وجرى القضاءُ، فكل طرفٍ غافِي

والموتُ أعمى في يديه سهامُه/ يرمي البريةَ من وراء سِجَاِف

والموتُ قد يُخفي حمَاهُ بنسمةٍ/ هفّافةٍ، أو في رحيقِ سُلافِ

يغشَى الفتى ولو اطمأنّ لموئِلٍ/ في الجو أو في غمرةِ الرجّافِ

ويحَ الكنانةِ بعد نزعِ شَغافِها/ أتعيشُ فِي الدنيا بِغير شَغَافِ

•••

ويجيد الشاعر علي الجارم الحديث الحماسي عن بطولة النقراشي في مواجهة الحياة و مشكلاتها وفي مواجهة حكم الإعدام بالشنق الذي كان  يتهدده في مطلع حياته حين رنا لاستقلال وطنه بمشاعر المحب الوله فعانى  الزجر والحبس والأسر و التخويف من الاغتيال وكان أكبر من كل ما تعرض له حتى خافه الموت فكان حظه أن يستشهد فوق جواده كالكرام ، على النحو الذي تمناه خالد بن الوليد لنفسه ، وهي صورة كلاسيكية كان في وسع الشاعر أن يجد صورة أخرى غيرها  أدنى مناسبة لما يصفه من كفاح سياسي طويل لم يقع في ساحات المعارك  :

قد عاشَ يحمل رُوحَه في كفِّهِ/ ما قَالَ في هول النضال كفافِ

يلقَى الكوارثَ باسمًا متألقًا/ والدهرُ يعصِفُ والخطوبُ سَوافي

والموت يكشرُ عن نُيوبِ مَشانقٍ/ غُبرِ الوُجوهِ دميمةِ الأطرافِ

بينَ الرياحِ الهُوجِ يزأر مثلَها/ ويثورُ في غَضبٍ وفي إعْنافِ

يَرنو إلى استقلال مصر كما رنَتْ/ عين المحبِّ لطارقِ الأطياف

ما ارتاعَ مِن حبسٍ ولا أسرٍ ولا/ زَجْرٍ، ولا قتلٍ، ولا إرجَافِ

وإذا دهتهُ الحادثاتُ بفادحٍ/ لم تلق إلَّا هِزَّةَ استخفافِ

هابتْهُ أسبابُ المنيّةِ جَهرَةً/ فَرمتهُ خائنةً بِموت زُؤافِ

مَوتُ الكرامِ البيضِ فوقَ جيادِهم/ لا فَوقَ نُمرقَةٍ وتحتَ طِرافِ

فلكم تمنَّى «ابنُ الوليد» مَنيةً/ بين الصواهِل والقَنا الرعَّافِ

•••

 ويعدد الشاعر عليالجارم بدون كلل ولا توقف مزايا النقراشي باشا من جرأة ونخوة وشهامة وطهر ونقاء وثقة و إشراق وعزة و عفاف ونزاهة وتجرد وقناعة وألفة ونبل  وعزيمة و إرادة  واستبشار و رهبة وعدل و سمعة و ذكرى وخلق وشرف وعصامية وعبقرية و قدوة  :

ذهبَ الجريءُ النَدبُ ذُخرُ بلاده/ غَوْثُ الصريخِ ونُجعةُ المُعتافِ

خُلقٌ كأمواهِ السحابِ مُطَهَّرٌ/ وسَريرةٌ كلآلِئ الأصدافِ

وتبسمٌ للمعضِلاتِ كأَنَّه/ إشراقُ وجهِ الروضةِ المئنافِ

ونقَاءُ سُكَّان السماء يحوطه/ رَبُّ السماء بعزَّةٍ وعَفافِ

ونزاهةٌ سِيقَتْ لها الدنيا فما/ ظفِرتْ بغير تنكُّرٍ وعِيافِ

عُمَرٌ حوى الدنيا ولم يملِك سِوَى/ شاءٍ كأعوادِ القِسيِّ عِجَافِ

والمرءُ إن يَخْشَ الدنيَّةَ في الغِنَى/ يَقنَعْ بِعيشٍ في الحياة كَفافِ٣٠

قد كانَ في غير التحرُّج مَنفذٌ/ سهلٌ إلى الآلافِ والآلافِ

مَهما يَقُلْ من خالَفوه فإنّه/ في نُبلهِ فردٌ بِغير خِلافِ

وعَزيمةٌ لا الصعبُ في قاموسِها/ صَعبٌ، ولا خافِي الطريقِ بخافِي

فإذا أرادَ فكل شيءٍ آلةٌ/ وإذَا رمَى فالويلُ للأهدافِ

يزدادُ في ظُلَمِ النوازلِ بِشْرهُ/ كمْ كُدرةٍ تحتَ النميرِ الصافيِ!

يُخْشى ويُرهبُ كالمنيَّةِ مُرهفًا/ عَدْلٌ لدَى الإرهابِ والإرهافِ

فإذا طلبتَ الحقَّ منه وجدتَهُ/ سهلَ الرحابِ مُوَطَّأَ الأكنافِ

ذِكرى كحاليةِ الرياضِ شميمُها/ راحُ النفوسِ وراحةُ المُستافِ

إنَّ الفَتى ما فِيه من أخلاقهِ/ فإذا ذَهَبْنَ فكُلّ شيء «ما في»

ما زانَه الشرفُ المنيفُ بِغيرها / ولو انتَمى لسراةِ عبدِ منافِ

عِشنا على الأسلافِ طولَ حياتِنا/ حتى سئمنا عِشرةَ الأسلافِ

العبقريُّ حياتُه من صُنعِه/ لا صنعَ أسماءٍ ولا أوْصَافِ

يَكفيهِ مِنْ شَرفِ المجادة أنه/ دَرْسُ العصورِ وقُدوةُ الأخلافِ

•••

ثم يلجأ الشاعر علي الجارم إلى طراز جميل ومشهور يوظفه الشعراء في المديح والرثاء فيصطنعون عيوبا ويناقشونها بالمنطق و الأدلة ليبينوا بها عن الفضائل  التي تمتع بها من يرثونه ، وفي حالتنا فان النقراشي باشا حسب وصف الشاعر الجارم يتميز بالصمت الوقور أو صمت الهيبة  ، وخطبه تجلجل بلا هتاف ، وهو متعقل غير مجازف ، وهو مقدم غير متحسب ، وهو محب للوطن كاره للإجحاف ، وهو سابق ومتبوع ، وهو يقود الشباب بلا استغلال  :

عابوا السكوتَ عليهِ وهو فضيلةٌ/ لغَطُ الحديثِ مَطيّةُ الإسفافِ

صَمْتُ الهمام النجدِ أو إطراقُه/ خُطَبٌ مُجَلْجِلَةٌ بِغير هُتافِ

قولُ الفَتَى من قلبِه أو عقلِه/ فإذا سَمَحْت فلا تَبعْ بِجُزافِ

حَسبُ الذي ألقَى اللجامَ لِسانُه/ ما جاءَ مِن زَجْرٍ بسورةِ «قافِ»

خاضَ السياسةَ ملءُ جُعبتِه هَوى / مصرٍ ومَحوُ الظلمِ والإجحاف

ما كانَ في الجُلَّى بحابِسِ سَرجِه / عَن هَوْلها يوْمًا ولا وَقَّافِ

يَمضي ويتبعُه الشبابُ كما جرتْ/ جُرْدُ المذاكي في غُبَار خَصافِ

••

ويلخص الشاعر علي الجارم مذهب النقراشي السياسي وجهوده الوطنية بعبارات  حماسية وتصوير ذي شاعرية بديعة فيقول :

نادَى مُلِحًّا بالجلاء مناجزًا/ ماذا وراءَ الوعدِ والإخلافِ؟

ودعَا بوادي النيلِ غيرَ مقَسَّمٍ/ سُودان مصرَ كشاطئِ المُصطاف

يا يومَ أمريكا وكم بكَ موقفٌ/ أعيا النُّهَى وبراعةَ الوصّافِ

هِيَ صيحةٌ لم يَرْمِها مِنْ قَبلهِ/ بطلٌ بوجه السادةِ الأحلاف

صَوتٌ إذا هزّ الأثيرَ جهيرُه / فلَكم بمصرٍ هز مِن أعطَافِ

فِي كُلِّ أذنٍ مِنهُ شَنْفٌ زانَها/ ما أجملَ الآذانَ بالأشنافِ

أصغى له جمع الدهاةِ وأطرقوا/ شَتَّان بين السمع والإنصافِ!

سَمِعوا بيانًا عبقريًّا ما بِه / فِي الحقِّ مِن شططٍ ولا إسرافِ

وجدالَ وثَّابِ البديهةِ ثابتٍ/ في يوم ملحمةٍ ويومِ ثِقافِ

وصراحةٌ بهرت عيونَ رجالِهم/ لمّا بدتْ نُورًا بِلا أسدافِ

ثم إن الشاعر علي الجارم في نهاية قصيدته ينادي النقراشي باشا نداء الصديق المكلوم:

قالوا: الرثاء، فقلتُ: دَمعُ محاجِري/ بِحرٌ، وأنّات الحزين قوافِي

شِعرٌ مِنَ الذهب النُّضار حُروفه/ ولكم بسوقِ الشعر من زَيّافِ

«محمودُ»، قد لقي المجاهدُ ربَّهُ/ في جنَّةِ النفحاتِ والألطافِ

ثم نأتي إلى البيت الذي روى لي أستاذنا أحمد علي الجارم أن المنية أدركت والده الشاعر الكبير عنده:  

نَمْ هَادِئًا إنَّ الغِراسَ وريفةٌ/ تُزهَى بأكرم تُربةٍ وقِطافِ

وانزِلْ إلى مَثوى الصديق تَجد بهِ/ ما شِئتَ مِنْ حُبٍّ ومن إشرافِ

قَبرُ الشهيد سماحةٌ فيَّاحةٌ/ وَمديدُ ظِلِّ حدائقٍ ألفاف

ما مَات مَن كتبَ الخلودُ رثاءَه/ ووشَى له حُللَ الثناء الضَّافي

حُيِّيتَ مِن مُزنِ العيُون بوابلٍ/  ومِنَ الحنانِ بناعم رَفَّافِ

حظي اسم محمود فهمي النقراشي باشا بكثير من التخليد نظراً لوفاته الدرامية المفاجئة، وقد حظي اسمه بتكريم يفوق تكريم اسم أحمد ماهر باشا الذي كان أول ضحية للاغتيالات السياسية فيما بعد الحرب العالمية الثانية (تلاه أمين عثمان باشا ثم احمد حسنين باشا ثم محمود فهمي النقراشي باشا)، وتحمل مدارس كثيرة اسمه منها مدرسة محمود فهمي النقراشي باشا النموذجية التي كانت بمثابة أفضل المدارس النموذجية حين تأسيسها كما أنه يحظى بتكريم أكثر في مسقط رأسه في الإسكندرية، وبلغ حماس المصريين لتخليد ذكره أن سُمّي باسمه الثلاثي كثيرون ممن ولدوا وهو في ذروة مجده أو عقب وفاته حين كان مسموحا بالأسماء الثلاثية لشخص واحد، ومن هؤلاء الذين سمّوا باسمه ابن لفنانة كبيرة من أعلام التمثيل.

أما محمود فهمي النقراشي باشا نفسه فقد سُمي بالاسم المركب الذي كان أشهر من تسمّى به قائد عسكري ومفكر مصري عظيم هو محمود فهمي باشا  (1839 ـ 1894) الذي كان من أهم قادة الثورة العرابية وكان رئيس أركان الجيش المصري حين وقع الاحتلال 1882 وقد حُكم عليه بالإعدام وخُفّف الحكم للنفي إلى سيلان حيث توفي هناك بينما بقي زميلاه عرابي والبارودي  على قيد الحياة حتى عادا إلى مصر.

كان محمود فهمي النقراشي باشا  قد تزوج من ابنة عم السيدة صفية زغلول وانجب منها ابنا وابنة ، أما ابنه فهو المهندس هاني الذي يعد أكثر أبناء رؤساء الوزراء المصريين حضورا في الحياة العامة الآن رغم هجرته المبكرة إلى ألمانيا ، والأسباب معروفة ،  وأما ابنته السيدة صفية فقد تزوجت شامل أباظة ابن إبراهيم الدسوقي أباظة باشا ، وهي والدة الدكتورة هدى أباظة التي ألفت كتابا عن جدها ، وكان للسيدة زوجته  أولاد من زوجها السابق الذي كان سكرتيراً عاماً لوزارة المواصلات قبل وفاته.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه