مبادرة ذاتية (بحثاً عن الكلمة السواء)

 

(1)

مات الناصح الأشهر الذي قضى حياته يدرس علوم النفس ويقدم الوصايا غالية الثمن لتحسين حياة الناس. مات «وين داير» في مثل هذه الايام، لأن الموت لا يهتم بالنصائح ولا يخضع لقوانين العلم ومعادلات العلماء، كان «وين داير» يعرف أن نصائحه لا تمنح الحياة لأحد، ولا تحفظ حياة أحد، وإذا لم يكن قد عرف ذلك، فلا شك في أنه عرفه الآن بعد أن قدم قبل أيام دليلا قويا على أن علمه ونصائحه مجرد وجهة نظر في الحياة، لكنها لا تمنحها ولا تحفظها، فقد مات داير مريضا متألما برغم كل نصائحه التي تحولت إلى إنجيل معاصر لعشرات الملايين في أنحاء العالم.

(2)

عجيبة هذه الحياة، وأعجب ما فيها هو الإنسان نفسه، وأنا وأنت وهو وهي وداير من هذه المخلوقات العجيبة، ننصح الآخرين بسهولة، في حين أننا لا نعمل بما ننصح بها، وينصحنا الآخرون بحماس أكبر، وهم كذلك لا يعملون بنصائحهم. الحياة تبدو في لحظة التأمل كأنها مجموعة متقاطعة من وجهات النظر، كأنها مجرد اقتراحات لتجربة هذا الشيء، وعكسه أيضا.

(3)

في كتابه الشهير «عندما تؤمن به ستراه» ينبهك «داير» إلى أنك عندما تنتقد شخصا ما، أو تصفه، فإنك تكشف عن نفسك أكثر مما تكشف عن الآخر الذي تنقده، لذلك كان يؤكد دوما أن الشخص “ليس ما يفعله” بل “ما يفكر فيه”، فأنت مثلاً قد تتصنع في أفعالك، وتدعي وتكذب وتنافق، لكن إذا تأملت أفكارك جيدا ستعرف من أنت، وإذا أردت أن تتغير بشكل ما، فلا تجتهد في تغيير سلوكك أولا، ركز على تغيير أفكارك، وساعتها ستنجح في اكتساب سلوك جديد يتلاءم مع هذه الأفكار، بل إن مشاعرك ليست إلا نتيجة طبيعية لتفكيرك. التفكير هو أساس كل شىء في حياتك، لذلك فإن ما يغضبنا من الآخرين في معظم الأحوال، ليس تصرفاتهم هم، بل تصرفاتنا المزعجة التي نراها في الأخرين، ثم نرفض الاعتراف بأنها تصرفاتنا لمجرد أنهم كانوا قادرين على القيام بها بينما عجزنا نحن، والتفسير ينطبق ايضا على التصرفات التي ننوي القيام بها أو نخطط لها ونحلم بتنفيذها، لكننا نعجز عن ذلك، فلما يقوم غيرنا بها نهاجمهم ونحاول النيل من هذه التصرفات وتشويهها!

(4)

الحقيقة أنني تذكرت «داير» ليس بمناسبة مرور ثلاث سنوات على موته، لكن بمناسبة ردود الأفعال السياسية على ظاهرة المبادرات والنداءات التي راجت خلال الأسابيع القليلة الفائتة، وهي مبادرات متشابهة إلى حد كبير، لكن كل فريق يختلف مع مبادرة الآخر، ثم يقدم نفس المبادرة باختلافات ذاتية بسيطة لا تتناقض مع الجوهر المشترك للأزمة وتصور الخروج منها!

(5)

لا تعجبني الطريقة التي يتعامل بها «باعة التنمية البشرية» مع الإنسان، صحيح أن هذا الاتجاه له جذور ثقافية قريبة من علم النفس، ومن حكمة الفلاسفة، ومن مفهوم الكارما عند الهندوس، ومن وصايا الأديان أيضا، لكنها انسلخت عن هذا الجذر الحي، والتحقت بمفاهيم التسويق ومغريات الربح والتجارة، بحيث أصبحت الحياة مجرد «مول» ضخم، والإنسان مجرد «زبون» يمسك في يده كتابا ملونا يتضمن إرشادات مختصرة لأماكن الخصومات، وأفضل طرق الشراء، وخريطة المحال والمطاعم ودورات المياه، وأخشى أن يكون المفهوم «المنحرف» قد وصل وسيطر على طرق التفكير السياسي، وعلى أساليب التواصل مع الجمهور السياسي باعتباره أيضا «زبونا» يجب تعويده على استهلاك «براندات» وماركات معينة وإغواؤه بخصومات ومميزات للارتباط بالمحل كنوع من منافسة التجار بصرف النظر عن قيمة الحياة ومستوى جودة البضائع المطلوب تسويقها

(6)

لن أنسى ذكرى المؤلف الأمريكي الأسطوري الذي باعت كتبه أكثر من الإنجيل، لذلك لن أنحرف إلى تسويق بضاعتي السياسية في سرادق عزاء الكاتب التعيس الذي تحول إلى تاجر سعادة، فقد عاش «داير» طفولة تعيسة في أحد الملاجئ، وتحمل الكثير من الفقر والمذلة حتى تمكن من تحقيق نقلة كبيرة في حياته، وصار من أشهر أساتذة علم النفس في الجامعات الأمريكية، وافتتح عيادة شهيرة للعلاج النفسي، وتفرغ لتأليف الكتب في هذا المجال، تزوج أكثر من مرة، وفشل مثل الناس العاديين الذين ينصحهم، ثم انتقل للعيش أخيرا في هاواي حيث مات بسرطان الدم.

(7)

في شبابنا كنا نقول إن عبد الناصر لم يكن ناصرياً، ولما تعرفت على كتابات «داير» قرأت فيها نفس التعبير تقريبا عن عيسى المسيح، فكان ينصح المسيحيين ألا يكونوا مسيحيين، لأن المسيح لم يكن مسيحياً لأنه لم يكن ينتمي إلى نفسه بل إلى قيمة إنسانية أشمل منه، ويقول للبوذيين لا تكونوا بوذيين بل كونوا مثل بوذا، وهكذا.

لم يكن داير يهتم بأولوية العادات والعبادات والسلوك الجمعي، بل يذهب إلى حقيقة المعتقد، فالمسيح كان يدعو للحب والسلام، فهل يفعل المسيحيون ذلك؟ أم أصبحوا الآن يقتلون ويحاربون باسم الدفاع عن المسيحية؟ وحتى لا تبدو الأمثلة التي أنقلها عن «داير» طائفية، أنقل الأمثلة إلى الإسلام، وأنظر معكم إلى حالة «داعش» والتنظيمات المتطرفة، قد يخدعوننا بأنهم يدافعون عن الدين، ويقولون إن الإسلام يوصي بذلك، لكنهم لا يشبهون الإسلام، بل يشبهون فكرتهم هم عن الإسلام، لأن الفكرة يمكن للبعض تأويلها وتلوينها حسب مزاجه وميوله، أما الرسول فلا يمكن تلوينه وتأويله، لذلك يخشى الداعشي أن يقتدي بالرسول الكريم، ولا يسأل نفسه هل كان محمد يفعل ما يفعله الداعشي الآن باسم الإسلام؟

(8)

على كل حال، هذه المناوشات الفكرية ليست نصيحة، وليست دعوة أحرضك بها على سلوك ما، لكنها مجرد اختبار لأفكاري عن نفسي وعن العالم، وبالمرة حاولت أن أقتدي بنبي الرحمة وأدعو لهذا الرجل الذي لا أعرفه (وين والتر داير) بالرحمة.

الله يرحمك يا وين داير، لم تكن مسيحياً، لكنك حاولت أن تكون مسيحاً عصرياً بقدر علمك وبقدر عمرك.

(ختام)

شاركت في صياغة هذه العبارة كخلاصة لنصوص ووصايا طويلة من مؤلفات «داير»، وأرجو أن يكون المعنى والمغزى واضحين:

* عندما ترقص، فأنت تعرف مسبقاً أن خطواتك لن تذهب بك إلى مشوار بعيد، فقط أنت تستمتع باللحظة وبإيقاع الخطوة. أعتقد أن هذا مما يجب أن نفعله في حياة نعرف جميعاً نهايتها.

فكر في غيرك في عيد التضحية والفداء، هذا أنسب لمعنى العيد.

كل عام وأنتم بخير وبركة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه