ماكرون: عندما ينظر للحقيقة بنصف عين!

الرئيس الفرنسي ماكرون ينظر للحقيقة بنصف عين في الحملة العنيفة التي يقودها على ليبيا بسبب ما يُسمى “سوق العبيد” أي الاتجار في المهاجرين الأفارقة، وإقامة مزادات لبيعهم.

الاتجار في البشر، وسوء معاملتهم واستغلالهم بأية صورة من الصور جريمة ضد الإنسانية، تستوجب المحاسبة الشديدة، وما يجري في ليبيا من إساءة للمهاجرين الساعين لعبور المتوسط إلى أوربا هروباً من جحيم بلادهم نقطة صغيرة في بحر الانتهاكات للإنسان عموماً، والاتجار به في كل مكان على وجه الأرض، وأول وأشد المنتهكين هو العالم الأول، عالم ماكرون صاحب الحضارة، وشعارات الحرية والإخاء والمساواة بين الناس جميعاً.

يدافع عن المهاجرين وبلاده ترفضهم

المهاجرون الذين يرِق لهم قلب ماكرون اليوم تُغلق فرنسا وأوربا وأمريكا أبوابها أمامهم منذ فترة، والذين يخاطرون بحياتهم، ويركبون البحر، وينجون من مخالب الموت غرقاً، تتم مطاردتهم وإعادتهم من حيث جاؤوا، ولعل الرئيس الفرنسي يعلم أن مخيماً في بلاده اسمه “كاليه” كان يضم مهاجرين أفارقة وغير أفارقة قامت السلطات بإزالته بالقوة.

واللاجئون الفارّون من شبح الموت في سوريا والعراق وأفغانستان يواجهون أهوال الطريق، والمطاردات الأمنية العنيفة على حدود أوربا، وبين بلدانها، ومن ينجح منهم في دخولها يعيش منبوذاً مكروهاً.

يتحدّث الرئيس الشاب عن خطة لإجلاء المهاجرين من ليبيا، وهذا جيد، لكن نتمنى أن تكون وجهتهم إلى فرنسا وأوربا وأمريكا لاستيعابهم وبناء حياة جديدة لهم وليس إعادتهم من حيث أتوا، حيث الفقر والبطالة والبؤس والخوف والحروب، تجارة الكلام والشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع، فيها إغفال عن حقيقة وجوهر أسباب الفرار والمُجازفة بالحياة في الصحاري الشاسعة، والبحار الهادرة، حيث لا يفعل ذلك إلا من باتت حياته في بلده مستحيلة.  

دور غربي في تزايد الهجرة

لو نظر ماكرون بعيون متسعة لرأى الحقيقة كاملة، ولوجد فيها أن بلاده ودول القرار الكبرى من الأسباب الجوهرية فيما آلت إليه أوضاع الهجرة واللجوء وتزايدها؛ لأن البلدان التي يهرب منها ملايين البشر لا يجدون فيها وسيلة للعيش الكريم، ولا استقراراً وسلاماً، ولا قدراً من الأمان على الحياة، ويفتقدون المُناخ المشجع للبقاء والتفاعل السياسي في أوطانهم المسلوبة منهم بأنظمة سلطوية قاسية.

الحروب والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والقمع والتنكيل والانغلاق السياسي في الشرق الأوسط وأفريقيا – وهي المناطق الطاردة للبشر- هي كوارث تنتجها أنظمة حكم سيئة لا تستحقّ البقاء في السلطة ما لم تتغير وتتجه للديمقراطية وتلتزم قيم حقوق الإنسان، هذه الأنظمة تابعة للغرب وعواصمه الكبرى ومعهم روسيا أيضاً، وهي محمية منهم، والدمار الهائل الناتج عن الحروب تشعله تلك العواصم بالسلاح الذي تبيعه لمختلف الأطراف المتحاربة، وبالدعم الذي تقدمه للجميع في ساحات القتال دون أن تتدخل بجدية لإنتاج حلول سياسية.

والإرهاب الذي يحول الحياة إلى جحيم ويتسبب في الهجرات وينتشر مثل فيروس قاتل مُحصّن ويصعب القضاء عليه ليس بعيداً عن الغرب أيضاً الذي يوفر الحماية لأنظمة وتنظيمات تتفنن في خلق البيئات والأرض الخصبة لتفشي أفكار التطرّف وممارسات العنف.

عقاب ميركل لتعاطفها مع اللاجئين

ومن ينجح من اللاجئين والمهاجرين في دخول أوربا – وحتى المقيمين فيها منذ عقود وصاروا جزءاً من مجتمعاتها – يواجهون العنصرية والكراهية والتحريض ودعوات تيارات اليمين القومي المتطرف والجماعات النازية لطردهم من جناتهم، ويعتبرونهم بشراً من درجة متدنية عن درجة العنصر الأوربي الأبيض المتفوق، غير مرغوب فيهم سواء كانوا من أفريقيا أو الشرق الأوسط أو آسيا أو أية منطقة جغرافية طاردة للناس، وهذه ممارسة يومية لا تتوقف، بل تتصاعد، ولا تتورط فيها الأحزاب ونخب السياسة العنصرية وحدها، إنما تشترك معهم فئات شعبية وأنظمة حكم أيضاً، هي فوبيا جماعية، والمتابع يلحظ صعوداً سياسياً وشعبياً وانتخابياً لكل أحزاب التطرف في أوربا، وهذا يتم بتأييد شعبي، وبأصوات الناخبين، وهم عاقبوا مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل لأنها تعاطفت مع اللاجئين، وفتحت أبواب بلادها لإيوائهم فحرموها من الأغلبية التي تكفل لها تشكيل الحكومة بدل الطرق على أبواب الأحزاب منذ شهر ونصف الشهر دون جدوى لتأليف حكومة ائتلافية، وفي الرئاسة التي فاز بها ماكرون كانت المنافس القوي أمامه مارين لوبان، وهي زعيمة كبيرة لليمين العنصري في فرنسا وأوربا.

تاريخ استعماري مشين في العبودية

سحق البشر واستغلالهم قديماً وحتى اليوم أمر ثابت في تاريخ فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا، وغيرها من دول الاستعمار، وقد أصّل الاستعمار للعنصرية واسترقاق وعبودية الإنسان، وزعيمة الغرب الكبرى أمريكا لها فصل خاص في تاريخ الاستعباد للأفارقة، واستئصال شأفة الهنود الحمر وهم السكان الأصليون.

يُمكن لماكرون أن ينتقد – وهو في بوركينافاسو – الحقبة الاستعمارية ترضية للأفارقة وجبر خواطرهم، لكن لا يمكنه أن يطوي هذه الحقبة السوداء، أو أن يجعل الشعوب الإفريقية والعربية تنسى عذاباتها مهما سعى للتنصل من نتائج جرائمها عندما يقول إنها صارت من الماضي، ليس بمثل هذا البساطة يصير تاريخ طويل من الاحتلال والاستعباد والتنكيل بالإنسان إلى مجرد ماضٍ يجب غلق صفحته؟ 

 الغرب أصل شبكات الاتجار بالبشر

أي مساس بكرامة وآدمية الإنسان عمل مرفوض تماماً، الله خلق الإنسان حراً كريماً، وما يجرى في ليبيا، أو أي بلد آخر، لا يمكن قبوله، وهو نشاط شبكات تهريب منظمة عابرة للحدود تنفق المال في نقل الفارّين من بلدانهم إلى ليبيا محطة العبور لأوربا، والشبكات تسعى لتحصيل هذا المال عبر بيع ما لديها من بشر لأصحاب أعمال وأشغال، وعندما يسدّد المهاجرون المستعبدون ما دُفع فيهم من ناتج عملهم يُتركون لشأنهم، إما يعودون لبلدانهم، أو يمكثون في ليبيا، أو يركبون البحر أملاً في الوصول إلى شواطئ أوروبا، هو ليس بيعاً وشراءً على نمط ما كان يجري من اصطياد الأفارقة، ونقلهم في أقفاص لأمريكا، وبيعهم هناك ليكونوا ملكاً خالصاً لمن اشتراهم ليفعل بهم ما يشاء، ولا على النمط القديم للرق والاستعباد في الدولة الرومانية، وسائر دول وممالك أوربا من عبودية مطلقة، وإلغاء كامل لكينونة الإنسان المستبعد، إنما هو استعباد وقتي، ومع ذلك فهو مُدان، ولا يجوز أن يكون موجوداً، لكنه ليس حصراً على ليبيا، أصل العصابات والشبكات الدولية الكبرى للإتجار بالبشر موجود في الغرب، وهي تعمل بنشاط، وتبيع وتشتري وتتاجر في الناس خصوصاً النساء والأطفال، ولا رادع لها حتى الآن.

حكومة السراج مظلومة

يتغافل ماكرون عن حقيقة الاستعباد الذي يضرب العالم من شرقه إلى غربه، ويتغلغل في فرنسا وأوروبا، وينتفض ضد ليبيا التي تغيب فيها الدولة وتفتقد لسلطة حكم حقيقية، ولا تشهد استقراراً، إنما تعيش في انقسام، وتمرح فيها الميليشيات، ويدمرها الاقتتال الأهلي، والحالة الليبية الغارقة في الفوضى يتحمل جانباً مهماً من صناعتها واستمرارها فرنسا والغرب لأنهم يشجعون على استمرار الانقسام بعدم توفير الدعم والتمكين الكامل لحكومة فايز السراج المعترف بشرعيتها الدولية لتمارس مهامها.

لو كانوا جادين في القضاء على الرق في ليبيا، واستعادة هذا البلد لوحدته، لساعدوا حكومة السراج والمجلس الرئاسي بكل وسيلة لبسط السلطة الشرعية لنفوذها على كامل التراب الليبي بالتوقف عن الدعم السري والعلني لأحد أطراف الانقسام والاقتتال والعائق أمام التوصل لحل سلمي لرغبته في أن يكون رئيساً لليبيا وهو خليفة حفتر وكيانه السياسي والعسكري في الشرق، وكذلك صياغة حل سياسي شامل وفاعل، ومنع التدخل الخارجي السلبي المربك في الشأن الليبي، وعندما تستقر الأوضاع يمكن محاسبة الحكومة الشرعية على أي إساءة تجاه أي مهاجر، كما يمكنها القيام بدورها في السيطرة على الحدود وصد موجات الهجرة إليها ثم منها إلى أوربا.

الحقيقة بعيون متسعة

بدون ذلك يصعب توجيه اللوم للسراج وللشعب الليبي في جريمة تجارة العبيد، لأنه عمل عصابات منظمة محمية من ميليشيات مسلحة، وقد تكون هناك أطراف خارجية تدعم تلك الميلشيات، وتمدها بالسلاح حتى تستمر الأزمة في ليبيا.

من حق ماكرون أن يدشّن نفسه زعيماً دولياً، وأن يعيد لفرنسا مكانتها خارجياً، وأن يدافع عن الأفارقة، والقضايا الإنسانية، لكن عليه أن يكون منصفاً ويعرض الحقيقة كاملة، وليس منقوصة، فهو ينظر إليها بأقلّ من نصف عين، وليس بعين متسعة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه