ماكرون.. “المُخلّص”

في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام منشغلة بخبر شراء وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان لوحة “مُخَلّصُ العالم”، وراحت تبحث في تاريخ الشّاب عن دليل هُيامٍ بفن الرّسم أو ربّما بدايات مَيْل للعقيدة المسيحية باعتبار مفهوم “الشفاعة” المحمدية بات غير كاف في عهده، فمضى يقتفي أثر “الخلاص” على يد المسيح عليه السلام. كانت الحكومة الجزائرية تُشرف على إخراج مشاهد استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشروط إعلامية مُسبقة. استقبال شعبي مُخجل، تَدافع فيه الحشد شيبا وشبابا لاحتضان الرئيس الأوربي الفتيّ وتلمّسه، وعلت حناجر من عجِز عن الاقتراب “فيزا، فيزا”، وكأنّه “المُخلّص” الحالي، الذي سيرحمهم من عذابات الحياة في الجزائر!

الاستعمار الوسطي الجميل

  قبل المُضيّ في طرح بعض تفاصيل زيارة ماكرون إلى الجزائر التي دامت اثنتي عشرة ساعة، دعونا نُذكّر ببعض المعطيات التي سبقتها.

أوّلها، أنّ إيمانويل ماكرون يتفانى في استثمار الملف العربي والإفريقي باعتباره مجالا مُثمرا مادّيا لكنه مُهدّد، باعتبار الاكتساح الواثق للقوى المنافِسة على الخط (الصين وروسيا مثالا). فقبل زيارة الجزائر، كان ماكرون قد زار في أوائل شهر نوفمبر/ تشرين الثاني تونس. بعدها قفز إلى الإمارات، ومنها مرّ على عجل إلى الرّياض. ومُؤخرا طار إلى بوركينا فاسو، لحضور القمة الأوربية الأفريقية مارًّا بساحل العاج وغانا. وتخلّلت هذه الزيارات، استقبال للسيسي في باريس، و”تخليص” لسعد الحريري من الأَسْرِ السعودي. حركية لافتة جعلت اسم ماكرون يكاد لا يغادر نشرات الأخبار العربية تقريبا، ويرتبط شيئا فشيئا في الوعي العام العربي “السطحي” بصورة الرئيس الأوربي المتواضع “صديق” العرب والأفارقة.

   ثانيا، وجب الانتباه إلى أن أداء هذا الرئيس الفتِيّ لا يكتفي بالأدوار الدبلوماسية التقليدية، بل يجتهد في نحت صورة خاصة به، ويفاخر بحمله صك البراءة من ماضي فرنسا باعتباره شابا لا ينتمي للحقبة الاستعمارية، فهو القائل إنّ “فرنسا اليوم ليست فرنسا الأمس، وتجاوزا لذكرى الاستعمار الأليمة، وجب الانتباه إلى الأشياء الجميلة التي تركها أجدادي في إفريقيا”. وكأننا به وهو الحريص على عدم التفريط في المصالح الفرنسية في البلدان العربية والأفريقية، يُبشّر بمرحلة “استعمار وسطي جميل”.

ستر العورات

   زيارته إلى الجزائر الأسبوع الماضي لم تحتج منه مجهودا لصقل صورته كما فعل في أفريقيا، فالحكومة الجزائرية قامت بالواجب التجميلي بحذافره، لدرجة أنها انتقت ولقّنت الحشد الشعبي الذي رأيناه، مُقتضيات التهليل والترحاب بالضيف الفرنسي المبجّل (والعهدة على أصوات المعارضة).

   المُضحك في الأمر أنّها غالت في تكثيف فقرات الزيارة القصيرة بشكل يمنح الضيف الصّدارة على حساب المُستضيف. ومنعت منح التأشيرة لأغلب الصحافيين الفرنسيين (وحتى المحليين) لتُكَلِّف التلفزيون الحكومي بالتغطية الإعلامية تحت إشرافها وبشروط مُسبقة بهدف تجنّب إظهار صورة بوتفليقة، الرئيس العاجز عن الحركة والنُّطق أمام الرئيس الفرنسي اليانع. أهداف بائسة حرصت على ستر عورة بشاعة المشهد السياسي في الجزائر ولم تحسّ بأيّ حرجٍ من فظاعة المشهد الاجتماعي الذي أصاب ماكرون بالذّهول وربّما التقزّز وأصابت أحرار الجزائر بالخجل الشديد من السلوك الناطق بالدونية.

   اللقطات الشحيحة التي صوّرت ماكرون والعجائز تحتضنه و تقبّلُه، كانت كافية لنتساءل كعرب و بعيدا عن النوايا الطوباوية، بماذا ستفوز عجوز من عهد الغابرين إن احتضنت رئيسا فرنسيا أو حتى لامسته؟ هل تعتقد هذه الفئة الاجتماعية أن الشخصيات العامة والرؤساء تحديدا سيستمعون إلى مجاملاتهم أو مطالبهم؟ ثم ما معنى أن تحرص العجائز على الزّغردة والهتاف ترحيبا بالأوربيين؟

نشوة الكبرياء

مهما هوّنّا على أنفسنا وحاولنا أن نعلّل هذه السلوكيات البائدة بالتلقائية والبساطة في التفكير وأنّ ضيوف أوربا متصالحون مع ثقافاتنا، فإن الواقع أثبت عكس ذلك. فكم من رئيس ضبطته الكاميرات بوجه مُتقزز أو ساخر في لحظات الالتِحام بالعامّة.

   البؤس بالتأكيد لا يفتك فقط بأداء الحكومات والعجائز، بل ببعض الشباب أيضا، ولعلّ ما رأيناه في ذلك الجمع (الذي يحصل في مناسبات مماثلة في بلدان عربية أخرى أيضا) يؤكّد ذلك. المشكلة أن المشهد لم يقتصر على البؤس بل كان مُهينا ومُقزّما لقيمة الشباب الجزائري. إذ بدا ماكرون في غمرة طلبات السيلفي والصيحات المُطالبة بـ”فيزا، فيزا…” في أوج نشوة الكبرياء الفرنسي و إن موّه. ولم تتوقّف الأصوات العشوائية المطالبة بالتّأشيرة حتى بعد أن أجابهم بما معناه أن بلادهم أحوج إليهم من فرنسا، فلم يُدركوا أن تكالبهم على تأشيرات الهجرة لن ينفع فرنسا في شيء سوى مزيد من العبء.

     فات ماكرون وأمثاله من الرؤساء وأصحاب القرار الفرنسي أنّهم مُذنبون في جانب ما من تفشي الإحباط وإقدام الشباب على الهجرة ولو بطرق غير شرعية بسبب دعمهم الدائم لتشكيلة السّاسة العُجَّز الذين همّشوا حق الشباب في العمل وعجزوا حتى عن حماية ثروات البلد الطبيعية من عمليّات النّهب الأوربي الممنهج فقط مقابل البقاء في السلطة ولو لزموا كراسيهم المتحركة.

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه