مأساة مصر بين الصحفيين والعسكر

 

«الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان محظوظ، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه»، عبارة قالها عبد الفتاح السيسي في أغسطس (آب) 2014. وبعدها بدأت الحملة التتارية الموسعة على الصحفيين ونقابة الصحفيين.

الحقيقة أن الصحفيين لم يكن لهم أي قدر من الحظ لا مع عبد الناصر ولا مع السيسي ولا مع أي حاكم عسكري، ولكن إذا جاز لي كصحفي أن أتكلم عن الجماعة الصحفية فسأقول عبارة «لا أبرئ نفسي»، فانتهازية كثير من الرموز الصحفية كانت الطريق الممهد لكل جرائم الرؤساء العسكر ضد حرية الرأي والتعبير، ولهذا فالوصف الأكثر دقة أن حكام العسكر كانوا محظوظين بالصحفيين الذين انهار حالهم بفعل الفاشية وانتهازية بعضهم وانهار معهم حال الشعب المصري فأصبح الشعب مبتلى بحكامه وصحافته.

الأبنودي ونجم وفؤاد حداد

لم يكن هذا حال الصحفيين فقط فقد سبقهم إلى هذه الانتهازية شعراء وأدباء من أصحاب المواقف السياسية المناهضة للنظام العسكري وسرعان ما انقلب إلى العكس أمام عنف الفاشية العسكرية الحاكمة، بالطبع ساق المنقلبون إلى حضن السلطة مبررات عقلانية لانقلابهم على مواقفهم فمثلا الشاعر عبد الرحمن الأبنودي سجنه النظام الناصري عام 1966 وظل في السجن مدة 6 أشهر، وكان يُمارس في السجون آنذاك أسوأ أنواع المعاملة والتعذيب، وخرج الأبنودي بفعل ضغط أدباء عالميين وبعد أن كتب لرأس النظام، مثل البعض من المفرج عنهم، ما يسمي باسترحام أو استتابة وبعدها عاش في توازن مع النظام العسكري حتى بعد موت «ناصر»، وتحول التوازن إلى قناعة وحماس للنظام الحاكم الممتد والمتوارث من عسكري لآخر حتى إنه كتب قصيدة يمجد فيها عبد الناصر بعد موته بأعوام طويلة، وأمام الهجوم من الشباب المعارض عليه برر ذلك بأنه كان صغيرا ولم يكن ناضجا وقال: «كنت غلط وعبد الناصر كان على حق»، ولكن الواضح أن الضغوط وبعدها المغريات كانت من أهم أسباب تحول موقف الأبنودي الذي حذا حذوه كثير من الشعراء والأدباء أمثال أحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد وإن كان الأخير باندفاع أقل.

“عبد القدوس” صديق العسكر

ما علينا من الأدباء والشعراء ولنعد للصحافة والصحفيين وعلاقتهم المتشابكة مع الحكم العسكري، كان إحسان عبد القدوس صديقا للضباط الأحرار بصفة عامة ولجمال عبد الناصر بصفة خاصة، وقام بتبني موقف الضباط في موضوع الأسلحة الفاسدة أثناء حرب 1948 وأثار حملة كبيرة كانت أحد التراكمات التي أدت إلى التفاف الشعب حول حركة يوليو (تموز) 1952. وتوطدت علاقته بعبد الناصر بعد الثورة ورغم ذلك كان عبد الناصر حريصا على التلويح بالعصا أثناء استمتاع حلفائه بالجزرة فلم تمنعه هذه الصداقة من حبس إحسان عبد القدوس عندما حدث بينهما خلاف ثانوي!!، ربما يرى البعض في هذا الموقف نوعا من الغدر من «ناصر»، ولكن المتابع للسياق يكتشف من الأحداث أنه غدر من «ناصر» وتفريط من «عبد القدوس» ففي عام 1958 ماتت فاطمة اليوسف والدة إحسان عبد القدوس وصاحبة ومؤسسة روز اليوسف التي تحولت إلى مؤسسة كبيرة بعد ذلك، وكانت فاطمة اليوسف شخصية قوية استطاعت أن تدير المؤسسة وتتجاوز كثيرا من الأزمات. وبعد موتها وعلى حد قوله شعر إحسان بالارتباك وأنه سيفقد المؤسسة ووجد أن الحل أن ينقل ملكية المؤسسة للنظام العسكري الجديد ليضمن استمرارها ويضمن استمراره على رأسها بحكم علاقاته مع جماعة الضباط الحاكمة، وهو ما كان من المحال تنفيذه في حياة والدته فاطمة اليوسف، ويبدو أن إحسان فكر بطريقة تجنبه الحرج في الأوساط الصحفية فأراد أن يجعل هذا الإجراء ضمن موقف عام وإجراء عام من الصحافة بصرف النظر عن تبعات ما يستهدفه على حرية الصحافة واستقلالها فكتب مقالا عام 1960 بعنوان «لماذا لا تؤمم الحكومة الصحافة»!!! وعلى الأرجح أنه كان مقالا متفقا عليه فما أن كتب «عبد القدوس» أسطره هذه حتى تلقفها جمال عبد الناصر وأمم الصحافة وكأنه استجاب لمقترح من كاتب كبير!!، وفقدت الصحافة المصرية، التي كانت قد حققت الكثير من المكتسبات في مجال حرية التعبير، استقلالها وأصبحت تابعة للحزب الواحد الحاكم أي للدولة، وذلك بفعل التوافق الشخصي بين بعض الصحفيين والنظام الحاكم ودون اعتبار للمصلحة العامة.

اقتراح هيكل

ربما حاول محمد حسنين هيكل في مذكراته أن يتبرأ من هذا فأشار إلى رفضه للقرار وإبلاغه عبد الناصر برفضه وأنه اقترح مشاركة الحكومة مع العاملين في الملكية فرفض ناصر مما أدى بهيكل إلى تعديل القرار من نقل ملكية الصحف للدولة إلى نقلها لملكية التنظيم السياسي «الاتحاد الاشتراكي»، وأعتقد أن هذا كان موقفا تبريريا من هيكل الذي كان يجيد التبرير للنظام وإخراج قراراته في صيغ مقبولة.

وظلت الصحافة مبتلاة بنظام قمعي يسيطر عليها وعناصر صحافية تبرر لهذه الهيمنة وهذه السيطرة، هذا بالإضافة إلى دور الحارس الخاص داخل الجماعة الصحفية ضد الرافضين الجذريين للنظام، وفي الأوساط الصحفية حكايات كثيرة عن دور محمد حسنين هيكل وغيره من رؤساء تحرير الصحف الذين كانت تعينهم الحكومة لفرض رقابة داخلية ذاتية على المجتمع الصحفي وعلى الأداء الصحفي والتحكم في السماح والمنع في النشر بل ويصل الأمر إلى كتابة تقارير في المعارضين واستبعادهم وربما اعتقالهم، ولم يدفع ثمن هذه العلاقة المتشابكة سوى الشعب الذي عاش مغيبا سنوات طويلة حتى بعد موت «جمال عبد الناصر”

موسى صبري وحب كامب ديفيد

ونفس المأساة امتدت فترة حكم السادات الذي حاول التنكيل بالصحفيين وخاصة بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل ولكن حركة المد الجماهيري في الشارع هي التي ساندت موقف الصحفيين وجعلتهم ينجحون في التصدي لمحاولات التنكيل بهم وإجهاضها، وهنا أتوقف قليلا لتسليط الضوء على حقيقة مفادها أن الوعي الجماهيري وحركات المد الجماهيري هي التي تحمي الصحافة وليس العكس، فالمجتمع الصحفي جزء من المجتمع العام يتبعه في الصعود والهبوط.

وظلت فرق صحفيي السلطة تقوم بدورها في حصار الصحفيين المعارضين ومنهم موسى صبري الذي قال عبارته المشهورة للصحفيين المعارضين لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل «لا أريدكم أن تؤيدوا كامب ديفيد، أريدكم أن تحبوها»!!، ومع تحول أيدولوجية الدولة إلى الانفتاح الاقتصادي أصبح لهيمنة رأس المال دور في التأثير على الصحافة ولم يظهر هذا التأثير جليا إلا في النصف الثاني من فترة حكم حسني مبارك عندما بدأ مخططا منظما لتغيير بنية المجتمع الصحفي سواء بالترهيب أو بالترغيب من أجل كسر هذا البنيان الصحفي الذي كان يمثل شوكة في ظهر النظام رغم سيطرة النظام على قياداته، إلا أن علاقة المجتمع الصحفي حتى هذه الفترة ارتبطت بقدر كبير بقضايا المجتمع وهمومه ومشاكله مما سبب قلقا للسلطة التي لم تكن مقتنعة بأن الصحافة التزمت بشكل حرفي بالدور الذي رسمته لها منذ عام 1952 كظهير للسلطة وليس كضمير معبر عن الشعب.

في هذه الفترة ظهرت الصحف الخاصة مرة أخرى في مصر، واستقبلتها الساحة الإعلامية بتفاؤل مبعثه الخلفية التاريخية عن الصحافة الخاصة قبل تأميمها عام 1960 وخاصة دورها في محاربة الاستعمار وكشف فساد الحكومات في العهد الملكي ودورها في كشف فضيحة الأسلحة الفاسدة وموقفها الشعبي أثناء حريق القاهرة وتوجيه أصابع الاتهام للقصر الملكي وانتقادها للنظام العسكري بعد 1952 حتى صدور قرار التأميم، إلا أن هذا التفاؤل انقلب إلى خيبة أمل بسبب اختلاف طبيعة الرأسمالية المصرية المالكة لهذه الصحف قبل 1952 والتي كانت تقود حركة التحرر في مواجهة الاستعمار وتواجه فساد الملك وتنحاز للشعب وكانت بطبيعتها منتجة تستهدف التخلص من الهيمنة الأجنبية على الاقتصاد الوطني، عن طبيعة الرأسمالية الآن التي تعطل عجلة الإنتاج المحلي مقابل التربح السريع من التبعية للرأسمالية الغربية وشكلت تحالفا مع نظام حاكم لا يهتم باستقلال الوطن فأصبحت الصحف الخاصة التي يديرها صحفيون يخدمون مصالح فئات وحكومات تتعارض مع مصالح وهموم الشعب، وهنا اكتشف القطاع الصحفي المعبر عن هموم الوطن أنه محاصر بين ملكيتين خيرهما مر… ملكية دولة تخلت عن دورها في الحفاظ على استقلال الوطن والنهوض باقتصاده وملكية رجال أعمال فاسدين وموالين للدولة.

صحافة الشعب

لم يبق أمام الصحافة الحرة التي تعبر عن ضمير الأمة إلا أمل واحد يتلخص في كلمتين «صحافة الشعب» وهذا لن يتأتى إلا في ظل هيمنة الشعب على مقدراته، وهنا كما سبق وأن ذكرت حركة الأمة والشعب هي التي ستضمن حرية الصحافة لا العكس.

وإذا كان الجنرال عبد الفتاح السيسي قد رأى أن الجنرال جمال عبد الناصر كان أكثر حظا منه في الإعلام المحيط به، فأقول له أن الإعلام المصري لم يكن له أي قدر من الحظ في ظل حكم متوالية الجنرالات منذ عام 1952 حتى الآن، وطوال الوقت كان الشعب أكثر بؤسا بجنرالاته والقطاع الانتهازي من الصحفيين والإعلاميين الذين انسلخوا عن دورهم كضمير للأمة وأصبحوا أبواقا للفساد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه