لماذا ينتحر الألمان؟

لا شيء كان ينقص الطيار المنتحر, فهو في ريعان الشباب، وينتمي لأسرة ثرية، والدته تعمل مدرسة، ووالده رجل أعمال ناجح، وأثبتت تقارير المحققين قيامه بشراء سيارتين باهظتي الثمن له ولصديقته

 

صلاح سليمان*

 

 

 

انتحر مساعد الطيار الألماني الشاب “أندرياس لوبيتس” بإسقاط طائرته الإيرباص فوق جبال الألب في رحلتها المتجهة من برشلونة إلى ألمانيا، وأرغم  150 راكبا بريئاً معه علي الانتحار.

 وتعتبر هذه الحالة سابقة خطيرة في حوادث الانتحار في ألمانيا، فأغلب سكان هذا البلد يتمتعون بقسط وافر من الرفاهية والرخاء الاجتماعي لا يتوافر  لسكان دول أخرى كثيرة ـ فلماذا إذن ينتحر هؤلاء المرفهون؟! وما الذي ينقصهم ؟!

 

لا شيء كان ينقص الطيار المنتحر فهو في ريعان الشباب، وينتمي لأسرة ثرية، والدته تعمل مدرسة، ووالده رجل أعمال ناجح، وأثبتت تقارير المحققين قيامه بشراء سيارتين باهظتي الثمن له ولصديقته السابقة قبل انفصالهما وقبل انتحاره بوقت قصير . فالرفاهية والحياة الرغدة كانت عنوان حياته، لكنها علي أية حال لم تكن المرة الأولي التي يقدم فيها شاب مرفه علي الانتحار في ألمانيا، بل هي تأتي في سلسلة من انتحارات الشباب باتت تؤرق المجتمع كله وبدأ يتساءل عن أسبابها؟.

ويذكر أنه قبل عدة سنوات انتحر حارس مرمي المنتخب الألماني لكرة القدم “روبرت أنكه” وكان عمره آنذاك الثانية والثلاثين عاما مما ترك علامة استفهام حول أسباب الانتحار ولماذا يقدم هؤلاء الشباب عليه ؟ وأين تكمن إذن العلة ؟

 

الأطباء النفسيون يرجحون أن سبب انتحار الكثير من الشباب يرجع إلى إصابتهم بالاكتئاب، ففي ألمانيا وحدها  يعاني حوالي 4 ملايين شخص من الاكتئاب، وقد أشارت دراسة حديثة صادرة من مكتب الإحصاء الاتحادي إلى تزايد أعداد المنتحرين في السنوات الأخيرة ، فاكثر من 400 شاب في سن المراهقة ينتحرون سنويا في ألمانيا، ووفق إحصائية رسمية صدرت عام 2007 فقد انتحر 9.402 شخص في تلك السنة وحدها.

 

طبيب الأمراض النفسية الألماني رولف “ديتر هيرش” المهتم بحالات الانتحار يصف كثرة حالات الانتحار في المجتمع بأنها باتت تمثل فضيحة اجتماعية وأخلاقية كبيرة ، خاصة وأن نصف المنتحرين هم من كبار السن. ففي العام الماضي وحده وصل عدد المنتحرين من الذين تعدو سن الستين حوالي أربعة آلاف فرد، لكن الطبيب هيرش يعتقد أن النسبة أكثر من ذلك بكثير .

 

الحقيقة أن دوافع الانتحار بالنسبة للشباب صغير السن لا زالت غير واضحة تماما، لكن ربما نوع الحياة المليئة بالضغوط والأنانية المفرطة، وعدم إظهار قدر كبير من التسامح والرحمة ،والتفكك الأسري، يدفع الشباب إلى الإصابة بالاكتئاب.

 أما كبار السن فعزلتهم وانتقالهم إلى بيوت المسنين تجعلهم يفتقدون مباهج الحياة، خاصة وأن إحساسهم النفسي يتزايد بأنهم يقتربون من نهاية العمر دون رعاية مناسبه، وهو الأمر الذي يجعلهم يعيشون تحت ضغط نفسي بان حياتهم أصبحت لا قيمة لها فيرغبون في وضع النهاية بأنفسهم، أما الذين يعانون من الأمراض المزمنة وأمراض الشيخوخة فان التخلص من عبء الحياة يبدو لهم نوعا من النجاة من آلام المرض الذي لا شفاء منه .

 

الحياة في الدول الصناعية الكبرى يغلب عليها الطابع المادي، فالناس مهتمون بجمع المادة أكثر من اهتمامهم بالقيم وحاجة البشر إلى المشاعر والعواطف الدافئة. لذلك فإن المجتمع مسؤول مسؤولية مباشرة علي إقدام الكثيرين علي الانتحار، وهذا ما يؤكده الباحث الاجتماعي “هانز فيدلر” عندما يقول: إن كبار السن هم في أمس الحاجة إلى المساعدة والرعاية من قبل المجتمع والأهل والأصدقاء، لكن أنانية المجتمع المتفشية تسبب لهم شعوراً قويا بالوحدة والاكتئاب الذي يقودهم إلى الانتحار

 

يقول الباحث كذلك إن الإنسان بشكل عام يحب الحياة ويحافظ عليها عندما تتوافر فيها البيئة الاجتماعية السليمة التي تحفظ له قيمته وأمنه ويكون بها قدر كبير من الرعاية والمشاعر الدافئة والرحمة بين البشر، عندئذ سوف يحافظ المسنون علي الحياة ويتمسكون بها ولن يظهروا أي تبرم منها، لأن فيها قدر كبير من احترام كبار السن ورعايتهم وهذا مهم جدا لهم للاستمرار في هذه الحياة .

 

إن ارتفاع معدل الانتحار بين الألمان يكمن في رؤية أحادية الجانب من قبلهم للحياة ، تخلو في الغالب من الجلد والصبر والإيمان المطلق بالله فيقررون عندها وضع حد لحياتهم أمام العجز في مواجهة ضغوط المجتمع وعدم القدرة علي تحصين النفس بالعوامل الروحية والعزيمة القوية اللازمة للتغلب علي صعوبات المجتمع وأمراضه الاجتماعية.

 

 هناك نوع آخر للتخلص من الحياة بدأ ينتشر في أوروبا وهو ما يطلقون عليه الموت الرحيم، وهو الرغبة الشخصية في إنهاء الحياة نتيجة مرض عضال أو كبر السن وعدم الشعور بمباهج الحياة ، ومازال الألمان يتذكرون إحدي السيدات في هامبورج التي لجأت إلى طلب المساعدة في إنهاء حياتها بالموت الرحيم  لأنها بلغت من العمر 79 عاما ولم يعد لديها الرغبة في الحياة رغم إنها لا تعاني من أي أمراض عضوية إنما فقط كانت خائفة من أن تقضي بقية عمرها مقيمة في دور لرعاية المسنين.

 

يقول الأطباء الألمان إنه يمكن بالتأكيد تقليل عمليات الانتحار في المجتمع وذلك بتدريب الأطباء والممرضين والعاملين في قطاع رعاية كبار السن والمصابين بالاكتئاب، علي توفير مزيد من الاهتمام والرعاية الصحية لهم، ثم بالنظر بعين الاعتبار إلى الحالات المصابة بالاكتئاب ومحاولة إنقاذها قبل تدهور الحالة وتأخر الوقت بإقدام المصاب علي الانتحار

 

__________________

 

*كاتب مصري مقيم في ألمانيا

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه