لماذا الخوف من دفن الجثامين؟!

الشيبخ عمر عبد الرحمن
الشيبخ عمر عبد الرحمن، الزعيم الروحي للجماعة الإسلامية بمصر

ظاهرة إخفاء جثامين الخصوم تكشف عن نزعة عدوانية جديدة تتنافى مع الفطرة الإنسانية.

هذه النزعة لا تحترم النفس البشرية ولا تقدس حق الإنسان في أن يدفن بكرامة، ويكشف تكرار هذه الظاهرة في العقود الأخيرة عن حالة من الرعب تشعر بها حكومات وأنظمة أمام من يحملون أفكارا في الحياة وبعد الممات، ولا فرق بين أنظمة مستبدة في العالم الثالث والولايات المتحدة التي يعتبرونها قمة الحضارة ونهاية التاريخ.

ما أثير من جدل حول دفن جثمان الشيخ عمر عبد الرحمن، والحملات الإلكترونية و”الهاشتاجات” التي تطالب بعدم دفنه والمزاعم بأن قبره سيتحول إلى مزار، مجرد أوهام وادعاءات من أشخاص يدفعهم الغل والكراهية للتخلي عن إنسانيتهم، ولم يشف غليلهم موت الشيخ الأزهري بعد سجنه، في زنزانة انفرادية لأكثر من 23 عاما بسبب قضية ملفقة.

 

فكرة الرعب من الجثامين هي الدافع الذي جعل الأمريكيين يخفون جثة الشيخ أسامة بن لادن بعد قتله، ولم يسلموها لأهله، ودفنوه في مكان مجهول

 ومازالت الشكوك حتى الآن في صحة ما أعلنه باراك أوباما من إلقاء الجثمان في البحر، ولم يقتنع كثيرون بتصريح الرئيس الأمريكي السابق بأنهم ألقوه في المحيط الهندي “ليأكله السمك وفقا للشريعة الإسلامية”؛ فالشريعة الإسلامية تقضي بدفن الميت بعد الصلاة عليه تحت الأرض، وليس إحراقه أو إغراقه في البحر كوجبة بشرية للأسماك.

بالتأكيد لن يظل المكان الذي دفن فيه أسامة بن لادن سرا لفترة طويلة، وسيأتي يوم ويتسرب الخبر عن مدفنه سواء كان في جزر المحيط أو في أمريكا أو حتى لو كان قد دفن سرا في أرض إسلامية. ولكن عندما يأتي ذلك اليوم سيكتشفون أنهم كانوا على خطأ وعاشوا في وهم كبير، فالناس لن تشد الرحال إلى قبر أي شخص مهما كانت مكانته، ومهما كانت رمزيته؛ لسبب بسيط هو أن عقيدة المسلمين لا تقدس القبور.

 

يمكن القول أن تقديس القبور والتبرك بها والحج إليها من أصول ممارسات الشيعة

 

 وتشير الحشود والشعائر في النجف وكربلاء ومزارات قم إلى أن ظاهرة الاهتمام بالقبور مرتبطة بشكل أساسي بفرق الشيعة وليس لها الأهمية والتقديس عند عموم المسلمين.

عبر التاريخ، للمسلمين زعماء وأبطال في كل مكان، من أيام الصحابة والتابعين وحتى الآن، وتنتشر قبور مشاهير الأمة في كل القارات، ولم يحدث أن احتشد إليها الناس أو انطلقوا منها لتغيير العالم، ولكن ما ظهر من أضرحة ومقامات في مصر لبعض الصالحين ومشايخ الصوفية يعود في معظمه إلى فترة الفاطميين الذين كانت لهم معتقدات مرتبطة بتقديس الأموات.

ومنذ نهاية العهد الفاطمي توقف تقريبا في مصر ومعظم بلاد العرب ظاهرة بناء الأضرحة على القبور، حتى الصوفية في البلاد العربية الذين مازالوا يترددون على المقامات اكتفوا بالأضرحة القديمة، خاصة المنسوبة إلى آل البيت ومشاهير المتصوفة، ولم يفكر أحد في العصور الحديثة بتحويل قبور مشايخ الطرق الجدد لأضرحة بسبب انتشار التعليم  وتغير الزمن.

لكن ثم ملاحظة وهي أنه بينما توقف بناء الأضرحة للمشايخ وأصحاب الطرق برزت ظاهرة جديدة وهي قيام بعض الملوك والحكام والزعماء السياسيين ببناء أضرحة لهم لتخليد ذكراهم، ومن هؤلاء الذين لهم أضرحة سياسية سعد زغلول وجمال عبد الناصر، ولم يفكر العامة في التوجه إليها للزيارة كقبور أو لالتماس البركة!

لا يوجد تقديس للقبور في عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان من مظاهر العودة لفقه السلف في أرض الحجاز هدم الأضرحة وإزالة شواهد القبور ، والتزم الحكام في بلاد الحرمين حتى اليوم بمنع أي اهتمام بقبور من ماتوا حتى لو كانوا ملوكا، ولا يوجد أي اهتمام بغير قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه بجواره، أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ويمنع حراس الحرم النبوي الشريف أي مظاهر لا تتوافق مع آداب الزيارة، وهذا النهج مطبق أيضا في البقيع  حيث قبور الصحابة، فهناك حرص على مساواة القبور بالأرض وعدم تمييز أي قبر حتى لا يتحول إلى مزار ويتم تقديسه.

من الأمثلة الواضحة على أن الخوف من تحول القبور إلى مزارات أمر غير قابل الحدوث، هو أن الشهيد حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين أكبر جماعة إسلامية في العالم العربي الحديث مدفون في مقابر الإمام الشافعي، ورغم مكانته في مصر والعالم وكثرة أتباعه ومريديه ومحبيه لم يتحول قبره إلى مزار، ولم تنظم الرحلات لزيارة مدفنه، بل لو سألت من ينتمون للإخوان عن مكان القبر فربما لا تجد عندهم إجابة، وقبل كتابة هذا المقال سألت بعضا ممن أعرفهم فاختلفوا في مكان دفنه.

 

وعدم الاهتمام بقبر الشيخ حسن البنا ليس له علاقة بمكانة الرجل وتقدير الناس له، وإنما لأننا كمسلمين ليس في عقيدتنا تقديس الموتى

 

 فالمسلم عندما يموت ليس للجسد غير دفنه و يبقى العلم والأفكار التي مات من أجلها، فهي التي تخلد وتبقى بقدر ارتباطها برسالة الإسلام الخالدة، خاصة إن قتل الشخص أو مات أسيرا أو مسجونا، وهذا قانون ينطبق على المسلمين وغيرهم، وكم من عالم مات لم يشعر به أحد أو لا يعرف مكان قبره أحد ولكن أفكاره بلغت الآفاق.

ويبدو أن الأمريكيين أخذوا فكرة عدم تسليم الموتى من طغاة بلادنا، ففي فترات تاريخية ظهرت فكرة إخفاء الجثامين بالدفن في أماكن مجهولة أو تذويبها في الحمض (في بعض البلاد)، ولكن هذه الممارسات المدانة لم تمنع انتشار أفكار من أخفوها، ومن أبرز الأمثلة صاحب الظلال الشهيد سيد قطب الذي لا يعرف المصريون المكان الذي دفن فيه حتى الآن.

 ورغم إعدامه وتغييب جثمانه بلغت أفكار سيد قطب كل أنحاء العالم، وكان إعدامه ووضوح الروح الانتقامية لنظام عبد الناصر منه حيا وميتا سببا في أن تفسيره للقرآن الكريم أصبح أشهر تفسير في العصر الحديث، وكانت كتبه الأكثر توزيعا في نصف القرن الأخير، وعلى نحو مشابه تكرر الإخفاء مع ضابط الجيش المصري خالد الإسلامبولي المتهم بقتل السادات الذي لم يتم تسليم جثمانه منذ إعدامه، ومازالت أسرته تطالب به وتنتظر تسلم رفاته لتهدأ نفوسها.

الأمثلة كثيرة، وليست متعلقة بالمشاهير فقط، بل هناك ما هو أسوأ، فهناك ظاهرة المفقودين والمختفين، الذين انقطعت أخبارهم ولا توجد أي معلومات عنهم، ولا يعرف أهاليهم إن كانوا قد ماتوا أم أنهم مازالوا على قيد الحياة، ويتمنى أقاربهم الحصول على معلومة تنهي معاناتهم حتى ولو بتأكيد بالموت لتبرد نار الأمهات، وهذا ملف إنساني أكثر مأساوية يستحق الاهتمام.

الحقيقة أن إخفاء جثامين السياسيين والعلماء من أصحاب المواقف جريمة، وهي من ميراث العصور الوسطى، ممارسات مخزية لا تضر الشخص الميت، الذي تحرر من سجانيه وخرج من ضيق الدنيا إلى رحمة الله الواسعة، وتخلص من ظالميه بخروج الروح من الجسد، وإنما يترتب عليها آثار غير منظورة في دوائر أوسع ومساحات أبعد.

إن تسليم الجثامين لدفنها حق انساني وسلوك يحض عليه الدين والشريعة، ويحل الدفن الكثير من المشكلات التي لا تموت مع مرور الوقت، فهو يطفئ نيران القلوب ويغلق ملفات لا حصر لها، مفتوحة، ولكن يبدو أن الرعب الذي يعيشه الجلادون مع ضحاياهم أكبر من أن نستوعبه ونفهمه، فهناك أشخاص يخوفون أعداءهم حتى وهم موتى، ولكن تفنى الأجساد وتختفى، وتبقى الأفكار لا تموت.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه