لقد قلقنا عَ الفاضي

أنوار أيوب سرحان*

CN
كنتُ كعادتي أتلصّص على برامج قنوات الأطفال لعلّي أجد فيها ما يناسب لأقدّمه لأطفالي، إذ صفعتني  عبارة ” لقد قلقنا ع الفاضي يا داروين”، والتي تقولها الشخصية على أنها حديث بالعربية الفصيحة، بينما هو تعبيرٌ دارج في لهجات محكية يعني عبثًا، و”الفاضي” هو الفارغ . وكمهتمة باللغات والهوية وبالطفولة والتنشئة لا أخفي اني في البداية “قلقت ع المليان”  ، بل صعقت من أن تكون هذي هي اللغة التي تسوَّق إلى أطفالنا على أنها العربية الفصيحة خاصّةً بعد أن تربّصتُ بالحوار في برامج قناة cn بالعربية فإذا هو بلغة مكسّرة ومشوّهة تكفي لتجعل الطفل غريبًا عن هويّته  المنشودة. وكنتُ سأنتفض كعادتي بحديثٍ ثائرٍ عن الهوية والوعي والانتماء، لولا أن راودني هاجسٌ انتهازيّ لأستعير هذي العبارة لعلّها تناسب ما يجري من زخم الأحداث التي نقلق بشأنها..

شارلي إيبدو:
لستُ بصدد التحليل من منظور سياسيّ لجريمة شارلي إيبدو وتداعياتها السياسية ، فلهذا الشأن  أهله المختصّون،ولكن لننتبه قليلًا إلى العقلية التي تتبنّى مثل هذا الفعل، إلى ردود فعلنا على العملية، وإلى ما تعكس من طرق تفكير راسخة فينا .
فمن متوالية الأحداث منذ أول رسم اعتُبر مسيئًا للرسول الكريم، إلى ما يحذو حذوه من مقالات أو كتابات أو أفلام تثور لها أمّة الإسلام وتنتفض لاعتبارها مسيئةً للمسلمين، وهي ذات الأمة التي لا تهتزّ لكلّ ما يُغتصَب من إنسانيتها يوميًّا من المحسوبين عليها قبل سواهم. يبدو وكأن الرسول لا يسيئه أن تبيت أمّته في العراء وألا يملك أطفالنا الاختيارَ لشكل الميتة البشعة التي تنقضّ عليهم إما بفعل السلاح من حروب فتتت الشعوب أشلاءً، أو بفعل البرد والتجمد بعد أن لم يعد لأحدهم مأوىً من شتاءات قاتلة، أو حتى أن يموت اختناقَا أو دهسًا لأنّ ذويه انشغلوا بأسلمة الآخرين ونسوا تنشئته ورعايته .ولا ضيرَ أن يرضع الطفل انعدامَ قيمته لأنّه منذور لآخرةٍ دون أن يحيا الأولى.
 
و لا يسيئ رسولنا الكريم أنّ من أمّته من يستميتون ليثبتوا أنّ دينه إرهابيُّ دمويّ ، إذ لم نشهد هندوسيًّا قتل سواه إن أكل لحوم الحيوانات التي يؤمن بقدسيتها، ولا مسيحيًّا فجّر نفسه في جماعة مسلمين لاقتناعهم بأنّ الصليب وهمٌ “وقد شُبّه لهم” أو لترديد الآية ” قد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة”، ولا سمعنا بمسيحيّ  ذبح مسلمًا لأنّه تبنّى تفسير الجلالين بأنّ الضالين هم النصارى. ولكننا نجد من يدّعون أنّهم أتباع رسول الرحمة ممّن يكفّرون الجميع ويقتلون باسم الله ورسوله . ليرسموا دينًا ضعيفًا ينصّبهم محامين للدفاع عن ربّ لا يثقون بقدرته على الدفاع عن ذاته، ويجعلهم أسيادًا لسواهم لا  لنفوسه وحرّاسًا على قناعات الجميع.

أولئك المتحدّثون باسم الإسلام ، ممّن لم ينتبهوا أنّ أوّل الكلام ” اقرأ” وأنّ زاد العبادة ” لعلكم تعقلون” و “لعلكم تتفكّرون”، فاحتكروا الجهل وتشبّثوا بقشور لعباراتٍ انتزعوها من سياقاتها وشوّهوا معانيَها وألبسوها ما ليس منها،  ونسوا أنّ القانون الأهمّ يتجلى في الآية “لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغَيّ” وبقوله تعالى “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، ترسيخًا لحرية الإيمان والمعتقَد، وأنّ الحريّة الشخصية مكفولة بالآية “ولا تزِر وازرةٌ وزرَ أخرى” ، والأجدى للمسلم  تطهّرُه من أوزاره لا محاسبة أوزار الآخرين ، كما تطبيق ما يؤمن به منهجًا لحياته لا الانشغال بسِواه وبما يسلكون.

فإذا كنا قد قلقنا لأجل رسم أو فيلم أو كتاب ينتقد أو حتى يهاجم الإسلام ورسوله، ولم نقلق لأجل ما يسوَّق من زيف باسم الإسلام ورسوله، فلنا أن نصفع أنفسنا بحقيقة انشغالنا بالهامشيّ وتجاهل المركزيّ معترفين :”لقد قلقنا ع الفاضي”!

ميا خليفة:
  صخبت المواقع والصحف هذا الأسبوع أيضًا  بانتفاضات الغيورين لخبر فوز شابة لبنانية الأصل كألمع نجمات موقع إباحيّ. خبر هزّ الكثيرين من “المدافعين عن الأخلاق” الذين انبروا لشتم ميا خليفة ولعن حضارة “التعرّي في الغرب الكافر الفاسق”. فيما سارعت عائلة الشابة لإعلان التبرّؤ منها مطلقًا.
لقد قلق الشعب العربي وخاصّة اللبناني لأنّ ثمة شابة “تجاهر بالإباحية”، ولم يقلقوا من النسب الهائلة لأعداد العرب الذين يزورون هذي المواقع وللإحصائيّات التي تكشف إدمان تلك النسب على زيارة هذا الموقع تحديدًا. وتجلّت الكارثة في جهر الفتاة بعريها، بينما بدا طبيعيًّا حدّ البداهة ذاك الكمّ من الزبائن، ومن غير المقلق أبدًا وفق مشهدنا أنّ ما أثارنا يتعلق بسلوك فرد واحد (هو تلك الشابة) بينما لم نتأثر لشريحة واسعة (هم زوّارها).
أما اللافت حقًّا فكان ردّ ميا خليفة بالسخرية من شاتميها والتساؤل باستهزاء  :”يخيفكم أمري أكثر مما يقلقكم امتداد تنظيم الدولة الإسلامية”؟
أهي صفعة إذن بأننا نخاف أساسًا ما يتعلق بالحرية الشخصية للآخرين ولا نخشى ما قد يمسّ الجميع حقًّا؟ بعيدًا عن موقفنا الشخصي من التعري ألا يبقى التعري مسألة خاصةً بصاحبه أولًا وقبل وبعد كل شيء؟
إذا أقلقنا جهر فتاةٍ بالتعرّي ونحن العارفون بما يجري في الخفاء، ثم لم نقلق لما يزخر فينا من الجرائم البشعة ومن الاستهتار بإنسانيّتنا باسم الأخلاق والدّين فلنشهد “لقد قلقنا ع الفاضي” !

خنق الفكر ووأد السّؤال
ينشغل المسلم بإيمان سواه ويفوته إيمانه الشخصيّ، يمارس الرقابة على أخلاقيات الآخرين ناسيًا أخلاقياته الذاتية، ويستميت لأجل الدّين والشرف لدى الآخر ولو أضاعهما في نفسه،  مستعدًّا لمنع الحياة عن الآخرين كي يضمن لذاته حياةَ موعودة قد تأتي أو تغيب.
نتشبّث بعقليةٍ تجعلنا متقوقعين بالعابر منكرين الراسخ، ساعين للهيمنة على الآخر دون السيطرة على أنفسنا، مستعدّين للثورة لأجل القشور غير آبهين بأمراض تعشّش في عمقنا وتتكاثر. نؤمن بأنّ نقد أية ديانة أو أحد رموزها يعدّ ازدراء لها، وننسى أن الازدراء الأخطر هو ما يُنسب إليها من نقيض معانيها.

فهل يمكن لعاقلٍ أن يغمض ذهنه عن العلاقة التبادلية العميقة بين هذي الرؤى وبين ثلاث قضايا تتصدّر مشهدنا الفكريّ والثقافيّ هذه الأيام،  في إحداها يواجه كاتبٌ شابّ حكم الإعدام لمجرد أنه ساءل التاريخ الإسلاميّ وطرح أفكاره ورؤاه المختلفة عمّا يراه “المتحدثون باسم الرب ” في موريتانيا، بينما يُجلد مدوّن سعوديّ لأنه كتب ما يظنّه “ولاة الأمر” إساءةً للدين، وتحاكَم كاتبةٌ مصرية بتهمة ازدراء الأديان لأنّها صاغت فكرتها بما يزعج المؤوّلين؟
لقد كان الدّين وما زال أحد أخطر الوسائل للسيطرة على العقول ومحاربة الفكر ، ولكن المتربّصين بالعقول لن يقدروا عليها إن كان سلاحها المعرفة الحقيقية والإدراك والوعي، والذي يبدأ من معرفة اللغة إلى معرفة سواها، لفهم الدين الحقيقي كما يليق، مخلصين لأوّل لفظةٍ في القرآن الكريم “اقرأ” ، لتكون هذي رسالتنا الأهمّ لأبنائنا .
حسنًا.. “لقد قلقنا ع الفاضي” كثيرًا فمتى “نقلق ع المليان” ونثور على عقليةٍ تسكننا لنحيلها ارتقاءً حقيقيًّا أوّل خطاه المعرفة للحقيقة لا لما يتصوّره الآخرون عنها؟؟ والتي لن تتأتى إلا بفتح أبواب الفكر مشرعة لكلّ سؤال ولكلّ اختلاف مهما كان

_______________

كاتبة  وأديبة فلسطينية

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه