كلام آخر عن محمد صلاح

 

(1)

أين كافكا ليفرح ويتطهر من الكوابيس؟، فقد استطاع إنسان أعزل من أي سلاح أن ينتصر على وحوش القهر والفساد في “مستوطنة العقاب”، والمفرح والمذهل أن الفرد الواحد لم ينتصر بالحرب أو بحملات الإعلام وإطلاق ملايين الكلمات في الصحف والفضائيات، لكنه انتصر بتعويذة قصيرة مهذبة مكونة من 15 كلمة وخمس نقاط فقط:

“بكل أسف طريقة التعامل فيها إهانة كبيرة جدًا.. كنت أتمنى التعامل يكون أرقى من كدا…”

هذا نص التغريدة التي أطلقها نجم كرة القدم الدولي محمد صلاح، محتجا على الطريقة التي تعاملت بها معه مؤسسات تحتمي بالنظام السياسي تحت شعار “دعم الدولة” حتى لو كان الغرض الواضح من الشعار هو سرقة حقوق المواطنين، وتكدير مزاجهم والاستهانة باتفاقاتهم وتعاقداتهم، والحكاية أن صلاح كنجم مشهور تعاقد حصريا مع شركة اتصالات دولية لاستخدام اسمه وصورته في الإعلانات، ثم فوجيء بشركة محلية منافسة تتجاسر وتسرق حقوقه، وتضعه تحت طائلة القانون وغرامة شرط جزائي بمبلغ ضخم يصل إلى 100 مليون جنيه، وذلك الانتهاك يحدث ببلادة وتطفل تحت رعاية الدولة المصرية وأجهزتها الأمنية واتحادها الرياضي لكرة القدم، لكن التغريدة المهذبة التي اعتمدت على التلميح أكثر من التصريح، كانت كافية لإجبار “نظام الإتاوة” على التراجع عن الابتزاز العلني، لتجنب غضبة ملايين من الناس العزل الذين يرون في محمد صلاح بطلهم المحبوب الذي يعوضهم عن نقص الإحساس بالفخر والانتصار، نتيجة شيوع الهزائم العامة والخاصة بسبب وضاعة وتسلط هذه الأنظمة نفسها.

(2)

هل تصلح مشكلة محمد صلاح كمدخل لمقال سياسي؟، قبل أن نتسرع في الإجابة علينا أن نضع بعض الشروط الموضوعية، مثل: عدم انفصال المقال عن مشاعر الجماهير، ومثل عدم انزلاقه لسلوك التمجيد السطحي للنجوم، خاصة وأن صلاح ليس أول مواطن مصري يدخل نطاق العالمية، فقد سبقه من الرياضيين فريد سميكة صاحب أول ميدالية أوليمبية في الغطس، وصاحب أول ظهور على شاشة السينما الأمريكية، قبل أن يحقق عمر الشريف نجومية أكبر عبر شاشة العالم، وهناك السيد نصير وخضر التوني الذي نال الإشادة والتكريم من الزعيم الألماني هتلر، ويرى بعض المفكرين في الغرب أن أمنية هتلر أن يكون التوني ألمانيا، تتضمن إشارة تدحض عنصرية الزعيم النازي وما أشيع عن رؤيته للبشر خارج الجنس الآري، وفي الأدب لدينا نجيب محفوظ، ولدينا أيضاً الدكتور محمد البرادعي كموظف دولي حاصل على نوبل للسلام، والدكتور بطرس غالي كأول عربي يقود منظمة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى أبطال العالم في الاسكواش وشخصيات أخرى أقل شهرة، لكن كل هذه الاسماء شيء ومحمد صلاح شيء آخر، وهذه تفرقة لا علاقة لها بالقيمة الثقافية أو العلمية ولكن بالقدرة على التأثير العام، وهو مقياس يرتبط بالجماهيرية أكثر من ارتباطه بقاعات السياسة وأروقة العمل الأكاديمي، أو بالحقل الرياضي في أزمنة لا تشبه زماننا اليوم في ثورة الاتصالات وسطوة عصر الجماهير، ومن هذه الزاوية الجماهيرية تحديدا تبدو قوة محمد صلاح كظاهرة مؤثرة، ليس في الضغط على نظام بلاده في الداخل بحيث يتم ترضيته وحل مشكلاته دون صدام مع مؤسسات الدولة البيروقراطية الغبية، ولكن في تحسين “الصورة النمطية” لمصر وللمصريين لدى الرأي العام الدولي، وهي مهمة نجح فيها صلاح بموهبته وسلوكه الشخصي، بينما فشل فيها النظام برغم إنفاقه لملايين الدولارات  من أجل تحسين صورته المشوهة، حتى أن زيارة السيسي إلى بريطانيا (حيث يلعب صلاح الأن) كانت تعبيراً عن انهيار مكانة الرئاسة المصرية نفسها، كما تجلت في المعاملة المهينة التي تعامل بها ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق مع عبد الفتاح السيسي، وهذه المفارقة توضح لنا جانبا من متغيرات “عصر الجماهير” بحيث لم يعد “التأثير” رهناً بالمناصب السياسية ولا حتى بامتلاك الثروة والسلطة، ولكن بمدى نصيب الفرد من “الحب الطوعي للجماهير”، ومن هنا ظهر غضب النظام من (جثة وصورة واسم) الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق، لأنه استطاع أن يجمع الشباب حوله في حياته وبعد وفاته، بينما فشل “نظام الإتاوة والقهر” في حشد الجماهير ذاتها أيام الانتخابات الرئاسية، برغم كل ما بذله وأنفقه وألح عليه.

(3)

كيف يمكن أن تستفيد مصر من ظاهرة صلاح قبل أن ينقضي وقتها وتتحول إلى ذكرى؟، أعتقد أن المسؤول الأحمق الذي تسبب في مشكلة صلاح تسرع في الإجابة بطريقته عن هذا السؤال ففعل ما فعل، وقد علمت أن كثيرين من “ذباب السلطة” أخذوا على صلاح سراً عدم الإعلان الواضح عن تأييده للسيسي في الانتخابات الأخيرة، وغمزوا مستنكرين عدم تصويته للسيسي أمام الشاشات، لأنها صورة كانت تساوي الكثير لدعم صورة النظام في الخارج، وأعلم أن سماسرة السوق ينتفعون من شهرة محمد صلاح بأسلوب القرصنة والبلطجة غير القانونية، وأن أدبه منعه من الاعتراض طالما لم يصيبه أذى، خاصة وأن معلوماته عن الفساد المؤسساتي في مصر جعلته يؤثر السلامة، خاصة وأن بعض الرسائل غير المباشرة كانت تصل إليه عن إمكانية استدعائه لأداء الخدمة العسكرية وإنهاء التأجيل المؤقت الذي حصل عليه، وهذا “الاستدعاء” يعني خسارته لكثير من المال والشهرة ويهدد مستقبله الرياضي، أو يدفعه للتضحية بجنسيته المصرية ويثير حول اسمه الغبار، ويحكي بعض المقربين أن صلاح أدار هذه التوازنات بحكمة الريفي المصري الذي لا يرغب في “تعطيل المراكب السايرة”، وأن الملايين التي تبرع بها لصندوق تحيا مصر لم تكن في حقيقتها دعما لنظام سياسي، بل كانت أقرب إلى “بدل الجهادية” في الأزمنة القديمة، لكي يتفهم البيروقراطيون دوره الوطني ومسيرته الدولية التي تخدم مصر في مجال أهم وأعظم من تجنيده ليلعب في “طلائع الجيش” مثلا بدلا من روما وليفربول وملاعب أوربا، وأعتقد أن الأزمة الأخيرة كسرت هذه التوازنات الصامتة، وأن هناك من يتربص بصلاح الآن من داخل المنظومة الفاسدة، وربما يأتي الوقت الذي يتجاسر فيه هؤلاء الملعونون ويوجوهون إليه السهام المسمومة، كما فعلوا مع مثله الأعلى محمد أبو تريكة، الذي أسعد الملايين على المستوى المحلي، كما يسعدهم صلاح اليوم بفخر أسمى على المستوى الدولي، ولهذا كان اهتمامي بكتابة هذا المقال من أجل التنبيه لضرورة الوعي بقيمة محمد صلاح كممثل يعيد الاعتبار في الخارج لصورة “المصري الناجح”، وهي صورة تختلف عن نماذج أخرى قد تكون مشهورة عالمياً لكنها لا تمثل صورة “المصري الناجح، وأتذكر الآن على عجالة حالة عماد الفايد (دودي) صديق الأميرة ديانا في الفراش وحادث الموت، كما أتذكر غيره من الكبار الذين اساؤوا استخدام الثروة والسلطة وقدموا صورة تساهم في تقزيم مكانة مصر وتشويهها في مخيلة الرأي العام الخارجي.

(4)

ختاماً أنبه إلى أن ظاهرة محمد صلاح ليست ظاهرة كروية عابرة، لكنها نقلة عظيمة في علاقة الشرق بالغرب عموماً، فهو مختلف عن نموذج أفريقي مثل “جورج وايا” الذي حقق نجومية عالمية أكبر قادته لرئاسة بلاده، ولا لنماذج لاتينية مثل بيليه ومارادونا وميسي، لأن كل حالة من هؤلاء تختلف تماما عن الأخرى في طريقة شهرتها وفي “اتساع تأثيرها” خارج ملاعب كرة القدم، وإذا تذكرنا أن الوعي المصري والعربي كان ولا يزال يتعامل بتوقير كبير مع الأسماء الأوربية في كل المجالات من أرسطو إلى شكسبير إلى نيوتن إلى فولتير إلى بيتهوفن ومئات الأسماء، بينما كان الغرب ينظر لنا على أننا بدو، متسولون، همج، نمتطي الإبل تحت سفح الأهرامات ونصطاد التماسيح من النيل ونطلب البقشيش بمذلة من الخواجات، لكن صلاح حطم هذه الصورة النمطية المهينة، وقدم صورة جديدة تجلت بوضوح في هتافات وأناشيد  ومحبة جماهير بريطانيا (التي ظلت تنظر لنا باستعلاء كخدم في مستعمرة تابعة لدرة التاج)، وهكذا فإن ما فعله صلاح من إنجاز لا يقتصر على إحراز الأهداف في مستطيل أخضر لكرة القدم، ولا حتى على جائزة أحسن لاعب في مسابقة رياضية مهمة، لكن إنجاز صلاح خارج الملعب أهم وأبقى، لأنه إضافة حضارية عظيمة لتصحيح صورة مصر، وهي مهمة صعبة فشل فيها رؤساء وسفراء وسياسيون كانوا خصماً لا إضافة.

#أدعم_محمد_صلاح

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه