قصة فنجان القهوة التركي

المفارقة الغريبة أن تركيا التي يحمل فنجان القهوة أسمها ليست منتجه لحبوب البن الذي تصنع منه قهوتها

يستيقظ الكثيرون يوميا وﻻ يمكنهم أن يبدءوا يومهم بحيوية ونشاط إلا بعد تناولهم لفنجان من القهوة التركية ذات الرائحة والطعم المميزين. البعض يفضلها حلوة المذاق، وآخرون يحبونها متوسطة أو قليلة الحلاوة ، بينما يرغب كثيرون في احتسائها مرة حتي يستمتعوا بمذاقها الطبيعي من دون أية إضافات.

ورغم أننا جميعا نعرف ماهي القهوة التركية، ومدي شهرتها في معظم دول العالم، فإن المفارقة الغريبة أن تركيا، التي يحمل فنجان القهوة اسمها، ليست منتجه لحبوب البن الذي تصنع منه قهوتها، بل تستورده من كل من البرازيل ( أكبر منتج للبن في العالم )  وكولومبيا وإثيوبيا واندونيسيا واليمن، لتعده وتحضره وتقدمه علي الموائد باسم “القهوة التركية“.

لاكتشاف حبوب البن أكثر من رواية ترويها لنا كتب التاريخ، تقول إحداها إن أحد رعاة الأغنام فوجئ بغنمه تعتريها حالة من الحيوية والنشاط المفرط كلما تناولت طعامها من شجرة معينة، لم يستغرق الأمر طويلا حتي قرر الراعي تناول الحبوب التي تثمرها تلك الشجرة ليقف بنفسه علي الأسباب التي تجعل أغنامه تتمتع بكل هذه الحيوية ليكتشف بعد تناولها مدي تركيزه ونشاطه، ويقال إن هذه كانت قصة اكتشاف شجرة البن في البرازيل. بينما هناك حكاية أخرى تروي عن أن مكتشف شجرة البن هو الصوفي أبو بكر بن عبدالله العيدروس في اليمن، حيث كان يمر دوما بشجرة البن ويري ثمارها ذات اللون الأحمر التي ﻻ يعيرها أحد  من المارة أي اهتمام رغم كثرة حبوبها، وﻻ ينتفع بها أحد، فقرر تذوقها، ليدرك مدي ما تفعله في العقل وما تبعثه من قوة في التركيز، وما تبثه في الجسم من حيوية ونشاط وميل إلي السهر، فاتخذها طعاما وشرابا يعينه علي السهر للعبادة، وأوصي أتباعه بها وأرشدهم إليها، لتنتشر بعد ذلك في كل أنحاء اليمن والحجاز ومصر، وترسل هدية إلي قصر السلطان العثماني ومن هناك تنتشر في أفريقيا و أسيا ودول البلقان وأوربا حتي أسوار فيينا، وتتناقلها البواخر إلي كافة أنحاء العالم، لتصبح القهوة المشروب الأكثر شهرة وانتشاراً واستهلاكا في أرجاء المعمورة .

وقالوا في القهوة شعراً

وقد وصل اﻷمر بمحبي وعشاق القهوة التركية لتنظيم الأشعار في عشقها، نذكر منها علي سبيل المثال:

سوداء إن يسقاها الصب لم ينم

                     تأتي بفنجان مجعبب قزم

توقظ فيك من الذكري التي نسيت

                      ﻻ حبذا ذكري توقظ عند ألم

تركية في الحرملك نشأت حقبا

                       ما مسها غير كف القين والخرم

لها تضوع طيب إن إذا نضجت

                       تخرس شكوي المكلوم عن الكلم

ويبدو أن شهرة فنجان القهوة وارتباطه باسم تركية جاء  من طريقة التحضير التي اكتشفها اﻷتراك واستخدمها محبو القهوة في العالم، إذ كانت حبوب البن قبل ذلك يتم غليها مع الماء ثم تشرب، لكن وصول تلك الحبوب إلي قصر السلطنة العثمانية، كان سببا في اختراع طريقة جديدة لإعداد القهوة، حيث كان يتم تحميصها بدرجات متفاوتة ثم طحنها واستخدامها في إعداد فناجين القهوة التي أضيف إليها القليل من السكر لتقليل مذاقها المر، كما تم وضع قطعة صغيرة من الحلوى إلي جوار كل فنجان إذا ما كانت القهوة مرة أي من دون إضافة سكر لها.

ومن تركيا لكافة أنحاء العالم، يمكنك أن تطلب فنجانا من القهوة التركية بالطريقة التي تحبها، وستجد طلبك أيا كان المكان الذي تتواجد فيه، عدا اليونان فهي الدولة الوحيدة التي ترفض أن يسمي فنجان القهوة بالتركي، فإذا جلست في أحد مقاهي أثينا أو غيرها من المدن اليونانية وطلبت فنجانا من القهوة التركي سيسارع النادل بإخبارك بأنه ﻻ يوجد مشروب بهذا الاسم، عارضا عليك أنواعا أخري من القهوة كالأمريكية والفرنسية، واليونانية التي هي في حقيقة الأمر القهوة التركية.

القهوة عزيزي القارئ ليست مجرد مشروب نحتسيه في الصباح ليمنحنا الطاقة والحيوية والنشاط في بداية اليوم، وﻻ هي مجرد فنجان صغير يحوي مشروبا ساخنا ذا نكهة وطعم مختلف؛ على رصيف أحد المقاهي المنتشرة في كافة أنحاء العالم، القهوة تراث شعبي ثقافي يوليه الشعب التركي اهتماما بالغا، ربما يفوق اهتمام الشعب الإنجليزي بمشروبه المفضل الشاي وطقوسه المعروفة، فمن طقوس احتساء القهوة في تركيا  أن يتم تناولها في الصباح بعد تناول طعام الإفطار، وفي وقت الظهيرة بعد تناول وجبة الغداء، وﻻ يتم تقديمها إلا في فناجين خاصة مزينة في الغالب برسوم لأزهار التوليب وأوراق اﻷشجار وطيور الجنة، وهي الرسوم الموروثة من زمن الإمبراطورية العثمانية، والتي تحمل في مجملها مدلولات ذات صلة بالطابع الاسلامي.

ومن طقوس تقديم القهوة لدي اﻷتراك أن يوضع إلي جوار فنجان القهوة كوبا صغيرا من الماء، فإذا ارتشف منه الضيف رشفة خفيفة، فإن ذلك يعني أن زيارته قصيرة، وأنه ﻻ يشعر بالجوع، أما إذا شربه عن آخره فإن ذلك يعني أن زيارته ممتدة وأنه يرغب في تناول الطعام مع أهل المنزل، فيؤخذ ذلك في الاعتبار من دون أن يشعر الضيف بالحرج من مضيفه.

القهوة المالحة للعريس

وفي الموروث التركي أيضا عادة غريبة متصلة بتقديم القهوة في المناسبات الخاصة، وهي عادة تقديم  ” القهوة المالحة ” للخاطب عند التقدم لخطبة فتاة، وهو تقليد غريب ﻻ تزال الأسر التركية تحافظ عليه حتي الآن، حيث تقدم القهوة الممزوجة بالملح بدلاً من السكر للعريس ﻹختبار مدي قوة تحمله وصبره وحبه لعروسه، فإن احتسى الخاطب فنجان القهوة المالح حتي آخره من دون أن تظهر علي وجهه علامات النفور أو الضيق تتم الموافقة عليه من جانب أهل العروس، أما إذا تناولها بنفور دل ذلك علي عدم قدرته علي التحمل وقلة صبره وضيق خلقه فيتم رفض الزيجة.

ونظرا لتلك المكانة الرفيعة التي تتمتع بها القهوة في تركيا تأسست عام 2008 جمعية ثقافة القهوة التركية التي تهدف إلي المحافظة علي هذا الموروث الثقافي ونقله للأجيال المتعاقبة بصورته القديمة نفسها، إذ تقوم الجمعية في كل صيف بتنظيم دورات خاصة لتعليم طرق تحضير القهوة التركية وفقا للطريقة العثمانية، يحصل في نهايتها الدارس علي شهادة تعلم صنع القهوة التركية التقليدية، التي ترتكز علي تحميص حبوب البن بدرجة معينة، ثم طحنها بالمدق، ليوضع بعد ذلك ملعقتان صغيرتان من البن لكل فنجان قهوة مع القليل من الماء البارد والسكر حسب الرغبة، وتطهى علي حبات الجمر، وعند الغلي تظهر رغوة يقال لها ” الوش” يتم توزيعها علي الفناجين بقدر متساو من دون تحريكها ثم يعاد غلي باقي المشروب مرة أخري ويسكب في الفناجين، وﻻ يشرب الماء بعد القهوة وإنما قبلها لكي يكون طعم الفم حياديا حتي يستمتع الشارب بطعمها المميز، وتلاقي هذه الدورات اهتماما كبيرا من جانب اﻷتراك والأجانب علي حد سواء .

كما تم تأليف كتاب عن القهوة التركية يسرد تاريخها وطرق إعدادها ويوضح مكانتها كموروث ثقافي شعبي لدي اﻷتراك، وتمت ترجمته إلي اللغة الانجليزية، وفي هذا اﻹطار أيضا تم إدراج القهوة التركية في قائمة الميراث الثقافي غير الملموس التي أعدتها مؤسسة اﻷمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ” اليونسكو ” وذلك عام 2013 في أذربيجان لتحتل المركز الحادي عشر في القائمة .

ولمعرفة الساسة اﻷتراك بمدي ارتباط مواطنيهم بالقهوة وحبهم لها، تجدهم يتحدثون عنها في اجتماعاتهم وخطبهم الجماهيرية، إذ حكي رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في أحد لقاءاته الشعبية أنه عندما تولي رئاسة بلدية إسطنبول وزعت زوجته وشقيقاته 40 جراما من القهوة علي كل منزل في منطقتهم، وسأل الحضور هل تعرفون لماذا 40 جراما بالتحديد؟! مضيفا : لدينا مثل شعبي يقول إن ذكرى فنجان من القهوة المرة يدوم 40 سنة حافظا معه المودة، وها نحن معكم من وقتها، متمنيا أن يديم الله سبحانه وتعالي المحبة والمودة بينه وبين الشعب التركي.

ومع التطور الذي طرأ علي مجمل حياتنا ، وظهور أنواع أخري من القهوة كالقهوة الأمريكية والفرنسية والإيطالية، تطور فنجان القهوة التركي بدوره ليساير العصر، حيث بات يقدم ممزوجا بالحليب الساخن، أو بالكراميل، أو بطعم الفانيليا، أو الشيكولاتة، أو ممزوجا بمطحون حبوب المستكة، وكذلك بنكهات الفستق والبندق أو مع الهيل.

ورغم تعدد الخيارات أمام عشاق القهوة التركية، وانتشار الآلات الحديثة لصنعها، فإن فنجان القهوة الكلاسيكي مازال يحتل مركز الصدارة عند أولئك الذين يفضلون تحضير فنجان قهوتهم الصباحية داخل مطبخهم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه