قصة صاحب “الصندوق الأسود”!

النظرة التحليلية لانقلاب النظام على صاحب الصندوق الأسود تؤكد أنه انقلاب منظم يحمل هدفًا واضحًا وله سقف تحكمه عدة اعتبارات.

حالة الانقلابات ذات الطابع الإعلامي المبالغ فيه من بعض الموالين لنظام السيسي على البعض من زملائهم الموالين أيضًا لنظام السيسي وما يلتصق بها من استعراضات ضوئية توجه الرأى إليها وتجذب أنظار الجمهور بشدة تجاهها، هى حالة تجعلنا نتوقف ونتفكر فى طبيعة الأهداف التي تقف وراءها هذه الانقلابات، خاصة وأن شواهدها تؤكد أنها حالات مصنوعة كلها بفعل فاعل وليست وليدة موقف أو مبدأ أو قيمة، أو حتى صدفة.

  الانقلاب على “عبد الرحيم علي” صاحب فضائح الصندوق الأسود والذي استخدمه نظام السيسي بشكل كبير فى التشهير بالمعارضين له وأفرد له برنامجًا خاصًا فى إحدى الفضائيات الموالية له، هذا الانقلاب يجعلنا ننظر له نظرة الريبة والتشكك‘ فالأمر ليس مجرد انقلاب من نظام على أحد عملائه بسبب تجاوز دوره أو تجاوز حدوده، وإنما يتعلق بهدف أقوى يتعلق بإرباك الرأى العام وإبعاده عن التركيز فى أمور حياتية متشابكة فى ظل واقع شديد التردى على كل الجوانب، وخاصة الجانب الاقتصادي الذى خلف حالة من الفقر والجوع المتصاعد بشكل يومي .

انقلاب منظم

 النظرة التحليلية لانقلاب النظام على صاحب الصندوق الأسود تؤكد أنها انقلاب منظم يحمل هدفًا واضحًا وله سقف تحكمه عدة اعتبارات أهمها:

الاعتبار الأول أنه ليس صحوة ضميرية أو قيمية، لأن النظام الذى يسمح بالتنصت على المعارضين وإذاعة التسجيلات علنًا على وسائل الإعلام، هو نظام تجاوز حدود الفُجر ليس مع شعبه فقط وإنما مع العالم كله، فالمعروف أن أقل شبهة تجسس أو تنصت على معارض فى أى دولة في العالم كفيلة بإسقاط نظام بأكمله والإطاحة بالحاكم، والتجارب كثيرة، ولهذا فإن الكلام عن إحالة “عبد الرحيم علي” للتحقيق فى موضوعات الصندوق الأسود هو محض هراء لأن المتهم الرئيسي هو نفس هذا النظام الذي سمح بإذاعته، إذن فهذا التحقيق وراءه هدف آخر وأظن أنه لن يتم .

 الاعتبار الثاني أن الأقلام الموجهة للهجوم (المصطنع) على “عبد الرحيم علي” تلتزم بسقف فى تناول الحقائق حول تاريخ زميلهم فى فريق الخدم السلطوي، فتاريخ عبد الرحيم يعرفه الكثيرون بتفاصيله وهو تاريخ به تداخل قوى مع فساد السلطة والأمن؛ فبطل فضائح الصندوق الأسود هو جزء لا يتجزأ من هذا النظام، ولهذا فإن تناول سيرته التاريخية وتشويهها لابد أن يتم بقلم مواصفاته أقرب لمشرط الجراح وتحت رعاية كاملة من الأمن، حتى لا يتم التعرض أو الكشف عن حقائق تكشف عن فضائح النظام الحالي.

وهذا يظهر بوضوح في التناول الذى أفردت له إحدى الصحف القومية صفحة كاملة عن تاريخ صاحب الصندوق الأسود وذكرته بشكل مبتسر أقرب إلى التزييف لتستبعد كل ما يتعلق بصعوده من خلال قيادة فى حزب معارض قريب من سلطة “مبارك” آنذاك، ليبدأ دوراً أمنيًا منظمًا تحت إشراف الأمن ومباركة القيادة الحزبية المعارضة والتى كان لها دورا كبيرا فى تصعيده من مراسل فى محافظة المنيا لجريدة الحزب، الى مندوب الجريدة فى وزارة الداخلية فى القاهرة، وهي الوظيفة التي كان يتم اختيار أصحابها بعناية فائقة وبشرط أن يكون ولاؤهم لأولي الأمر سواء فى الحزب أو الداخلية وغالبا ما كان كلاهما أصحاب مصلحة واحدة.

مواصفات العميل الأمني

 وكان اختيار عبد الرحيم بشكل خاص من بين العشرات من المراسلين بسبب ما اكتشفته فيه القيادة الحزبية من مقومات مثالية للعميل الأمني، وهي مقومات مهمة عند القيادة الحزبية الذي كانت علاقته بالأمن أقرب من علاقته بحزبه المعارض، ما علينا… لم يفوّت صاحب الصندوق الأسود الفرصة والتقط الخيط وتمسك به وأخذ فى الصعود اللامتكافئ بشكل أزعج حتى القيادة الحزبية، وكان دائما ما يحظى بحماية حزبية وأمنية تخرجه من ورطاته الكثيرة، وامتلك من المواهب ما جعلته ينتقل إلى الصعيد الدولي ليحصل على دعم مالي كبير يإعتباره خبير فى مواجهة مخاطر جماعات التأسلم السياسي وساعدته فى ذلك القيادة الحزبية التي اكتشفته وكانت تلعب فى نفس المضمار “التأسلم السياسي”، واستمر فى هذا النهج وخدمة النظام والأمن حتى الآن .

 المهم ما أريد أن أقوله إن تناول المهاجمين لعبد الرحيم الآن من أتباع النظام لا يمكن أن يتطرقوا لتاريخيه الحقيقي لأن تناوله سيكشف زيف موقف النظام، وأن الأمر لا يزيد عن كونه تمثيلية هزلية أو فى أقرب التوقعات تناقض ثانوى بين رجالات النظام.

  والاعتماد الأكثر فى تحويل قضية عبد الرحيم علي إلى قضية شعبوية يكون على هؤلاء السذج الذين يتعاملون مع ثبات العوامل ويرون أن مصادرة “جريدة البوابة” والتي يملكها عبد الرحيم هو نيل من حرية الصحافة والتعبير بغض النظر عن اختلاف الآراء !!!، ويغضون النظر عن الخطة الموضوعة باحترافية شديدة واستخدامهم كأدوات فيها لخلق قضية تبعد الرأي العام عن همومه التي يعيشها وعن هموم أكبر متوقعة في الأيام المقبلة، وأن قضية عبد الرحيم سهل إغلاقها وعودته مرة أخرى إلى حظيرة النظام بعد أن يكون قد أدى دوره فى إرباك الرأى العام، وهو ما بدأ حدوثه بالفعل.

وتمثيلة عمرو خالد

وليس غريبًا أن يتزامن مع تمثيلية “عبد الرحيم علي” ما يثار حول دعاء “عمرو خالد” لأصدقاء الفيسبوك وهو فى الحرم وأمام الكعبة الشريفة، هو أمر هزلي ومضحك مما لاشك فيه، وأنا شخصيًا تهكمت عليه، ولكن المبالغة والتركيز عليه والذي تجاوز مواقع التواصل الإجتماعي إلى الصحف القومية التى لا تنطق عن الهوى يجعلنا ننظر للأمر بعين الريبة، وخاصة وأن تفاهة ” عمرو خالد ” فى هذا المشهد لا تزيد عن تفاهته فى معظم تناولاته الوعظية ومواقفه العامة .

تقلب إعلاميين السلطة والنظام بحسب متطلبات اللحظة أمرًا واضحًا فى الفترة الأخيرة ما بين بكاء لميس الحديدي على حسني مبارك وهجومها عليه بعد الثورة، وما بين مواقف أحمد موسى وخالد صلاح من العاهل السعودي ومملكته وقت أزمة السعودية مع مصر، ثم عودتهم بعدها بأيام لتملق العاهل السعودي والمملكة بعد توفيق أوضاعها مع النظام المصري، وما بين “شقلبظات” مصطفى بكري وتوفيق عكاشة، ولا يتعلق الأمر بالإعلاميين فقط وإنما يتعلق بالسياسيين الذين ارتفعت أسماؤهم كمدافعين عن الطبقة العاملة ضد الفاشية العسكرية وانقلبوا بقدرة قادر الى أربطة فى “بيادات” العسكر!!
ويحضرنى مشهد لقيادة حزب ذو ملمح اشتراكي، (نفس القيادي الذى اكتشف عبد الرحيم علي)، وهو يقف فى 25 يناير 2011 ضد ثورة الشعب بحجة عدم الاساءة للشرطة فى عيدها ودفاعًا عن “مبارك”، وبعدها بأيام وتحديدا يوم تنحي “مبارك”، اختطف الميكرفون وهو يصرخ “سقط الطاغية” !!، رغم أنه كان من أشد المدافعين عنه، وبعدها بشهور انحنى أمام المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بعد أن كان يطالب بقتلهم فى الشوارع، وبعد 30 يونيه 2013، عاد وبارك إعدامهم مرة أخرى ومنهم المرشد العام للجماعة الذى سبق وأن انحنى أمامه.

الأمثلة فى عالم السياسة والإعلام كثيرة وصعب تناولها في مقال، ولكنها تؤكد حقيقتين، الأولى، أن الصعود السياسي والإعلامي فى مصر يرتبط بالنفاق وتملق الحاكم، والثانية، أن الرأى العام ما زال ساذجًا يسهل خداعه بفعل عوامل كثيرة أهمها ضعف الحركات السياسية المعارضة في المجتمع .        

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه