قراءة للحالة العراقية

في القوانين والأعراف الأممية تعتبر إحدى الدول واقعة تحت الاحتلال في صورتين، الأولى حين تحكمها فعليا سلطة خارجية. والثانية تتجلى مع بقاء ممارسة سلطتها في تلك الدولة بعد انتهاء الاحتلال.

في العراق يتجلى الأمر بصورتيه، الأولى مع بقاء وجود ست قواعد أمريكية في عدد من مناطق العراق حسب تقرير لموقع غلوبال ريسيرش الأمريكي. فيما تبدو الصورة الثانية من خلال إنشاء الاتفاقيات الأمنية المشتركة والمعاهدات التي دائما ما تعقدها الدولة المحتلة مع الدولة الواقعة تحت الاحتلال والتي لا تخرج عن مفهوم الاتفاقيات غير المتكافئة التي تعقد بين المنتصر والمهزوم، نموذجها مجموع الاتفاقات التي عقدتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حكومة بغداد التي هي جزء من مخرجات الاحتلال والطرف الشريك ببقاء ممارسة الاحتلال لسلطاته داخل العراق.

هذا هو السير الطبيعي لحوادث التاريخ وأخلاقيات حراك الأمم في عصور التوحش القديم الحديث، بعيدا عن عبارات التلطيف في وصف المنتصر والخاسر على حد سواء، هذا ما يضعنا ضمن فكرة (الأمر يكمن في فهم القضية).

الإشكالية الأعظم

نعتقد أن قراءة الحالة السياسية العراقية لا تخرج عن تصور ما ذكرناه في مقدمتنا كي لا نغرق في جزئيات لا تستحق الكثير من التحليل إذا ما تصورنا الإشكالية الأعظم التي أصابت العراق باتساع دوائر الاحتلال، حيث استبدل الاحتلال الأمريكي بمجموعة احتلالات.

لأجل ذلك فقد بدت مظاهر تدوير الوجوه والاحزاب واضحة، إذ لا تـَغير حقيقي طرأ إلا من خلال فن التضليل وإجادة لعبة الافتراق والالتئام شكلا لأحزاب عاصرت رحلة المحتل الأمريكي وفي كنفه منذ 15 عاما لتعيد إنتاج نفسها مع كل فترة انتخابية، ما يشكل صورة من صور استبدال شكل الاحتلال بشكل آخر.

نعتقد أن المتغير الذي مثل لحظة الحسم في تربع الأحزاب الميليشياوية على صدارة القوائم الفائزة، هو نتائج المشاركة بما سمي بالحرب على الإرهاب وهي الصفحة الأهم في الحروب الأمريكية الكونية، والتي شكلت حروبها السابقة في أكثر من مكان في العالم تمهيدا لإعلان هذه الحرب التي اعتبرتها أمريكا حربها المقدسة، فيما اعتبرها الكثيرون النتيجة الطبيعية للانتهاكات الأمريكية لسيادة الدول لغرض تثبيت عصرها الامبراطوري.

الجهد الأمريكي

وفق ذلك لا مساغ للاستغراب لما تمخضت عنه نتائج الانتخابات الأخيرة في العراق وما سينتج عنها من مشهد سياسي قريب ضمن تحالفات القوائم الفائزة التي ساعدت على بقاء ممارسة الاحتلال لسلطته في العراق بعد الانسحاب الشكلي للقوات الأمريكية، بل وكانت المساند لقوات الاحتلال في بداية غزوه للعراق، والتي شكلت أيضا البديل وعنصر الفوضى والقتل والترويع والتهجير التي طالت مدن العراق بساكنيها. وهي نفسها التي لعبت الدور الأكبر في القتال تحت مظلة الجهد الأمريكي المفرط في استخدام القوة والبطش والعنف في تدمير المدن العراقية وتسويتها بالأرض فوق رؤوس أهلها ضمن أضخم صناعة لحرب تمتنع عن التعريف .

ليس هناك من تغيير جوهري طرأ في انتخابات 2018 بعد فكرة التحالفات الجديدة القديمة التي تذكرنا بانتخابات عام 2010 عندما استأثر نوري المالكي بالسلطة وانتزعها برغم خسارة حزبه في تلك الانتخابات، حينها تناغمت إرادة الأصيل مع هوى الشريك على ذلك (أمريكا وإيران).

لا فرق بين احتلال واحتلال .

في ذلك يصف القانون الدولي والأعراف الأممية حالة الاحتلال بأنها مستمرة مع استمرار جملة الأفعال التي يرتكبها الاحتلال أو السلطة الناتجة عنه، والتي تتسبب في تشكيل النتيجة الجرمية كما يحصل في العراق اليوم. ومن صور ذلك أعمال الإبادة الجماعية والانتقام المفرط التي تمخضت عن حرب ينتظر العالم يوما ما كشف اسرارها بجانب صور كثيرة أخرى، مثل إكراه السكان وإيهامهم على الخدمة العسكريّة لصالح القوة الخارجية كما يحصل من حشد ميليشياوي في العراق. والقيام بعمليّات التغيير الديمغرافي للمدن وتطبيق سياسة العقاب الجماعي. والانتقام من السكان ومصادرة ممتلكاتهم وضرب ثقافاتهم وما يندرج تحت ذلك من آثار وشواهد تاريخية مهمة. من دون وجود ضرورة عسكرية لذلك.

لا فرق بين احتلال واحتلال. 

في العراق فقط تحتل قوائم الأحزاب الميليشياوية الترتيب الأول تعضدها المباركات الخارجية إقليمية كانت أو دولية.. وضع لا غرابة فيه إذا ما نظرنا إلى المنتج الطبيعي لآثار الاحتلال التي تتسم حتما ببروز عمليات التنكيل والقتل والاختطاف لإتمام أهداف خارجية مع تعطيل الجوانب القانونية ولوائح حقوق الانسان بعدم محاكمة المتهمين بالأفعال الاجرامية وفق إجراءات مبنيّة على روح القوانين والقواعد المتعارف عليها محليا أو دوليا.

الاحتلال قائم

ويعتبر الاحتلال قائما ما دامت آثاره قائمة بموجب القوانين والاعراف الأممية عندما يتخذ صورا ومآرب معينة كما يحصل من احتلال اقتصادي للعراق الآن والمتمثل في استيلاء دولة ما أو مجموعة دول على موارده بطريقة غير مشروعة، ليترك آثاره على الصحة العامة والخدمات الطبية، مع شيوع الفقر والجهل والحرمان في أعلى درجاتها.

ويعتبر الاحتلال مازال قائما ما دام التهديد قائما للعاملين في الهيئات الدولية كالصليب الأحمر، والهلال الأحمر بتنفيذ أنشطتهم الإنسانية في المناطق المتضررة، والاطلاع على ظروف السجناء والمحتجزين.

بعد أن نكون قد أدركنا فهم القضية، علينا أن نقيم تلك الانتخابات الهجين المعفرة بطعم الاحتلالات المتعددة والتي يبدو أن العراقيين (سائرون) فيها إلى المتاهة تجمعهم قوائم الفتح والنصر الزائف وتفرقهم أحلاف دولة اللاقانون في ظل غياب القرار والوطنية العراقية.

ولو قدر لفضاءات علم السياسة والقانون الدولي تطبيق قواعد القياس المتاحة في العلوم الفقهية لوجدنا أن الاحتلال وصف ينطبق على سلوك الأنظمة مع شعوبها من حيث الأثر السيء الذي تتركه سياسات الأنظمة المستبدة وأول قواعدها، قول الأصوليين (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب). فمن من دولنا لا ينطبق عليه واقع الاحتلال من حيث وصفه وأسلوبه ونتائجه على المجتمع؟

وهنا يكمن فهم القضية، فليس هناك فرق بين احتلال واحتلال.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه