في مئوية ميلاد عبد الناصر

كوبا مثلاً، وفيها من روح الناصرية وتشابهاتها الكثير لا تزال على حالها منذ أن سيطر على الحكم الثوري فيدل كاسترو عام 1959

 

الإثنين الماضي “15 يناير 2018” يكون قد مر مائة عام على ميلاد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر “15 يناير 1918″، وعندما راقت لي هذه الفكرة للكتابة فيها، طرحت على نفسي سؤالاً: ماذا لو كان العمر امتد به حتى اليوم؟، هل كان لا يزال ممسكاً بالحكم، ومتمسكاً به، معانداً لطبيعة الأشياء، مستنداً إلى أنه والد الأمة المصرية، كما كان روبرت موجابي يعتبر نفسه والداً لزيمبابوي، ثم استيقظ من غفوته على رفض الأبناء جميعاً له؟، أم أن ثورة 25 يناير 2011 كانت ستطيح به هو، فلن يكون وقتها هناك رئيس اسمه مبارك؟، أم أن تحركاً شعبياً كان سيجرى قبلها ضده، أم سيقوم بنفسه بالتغيير من داخل النظام لإصلاحه وتطويره، أو يتم التغيير بغير إرادته، ومن داخل النظام أيضاً؟.

الرؤية الناصرية

خلاصة الأسئلة، هل كان نظام الحكم في ظل الرؤية الناصرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً سيظل قائماً وصالحاً رغم المتغيرات الدولية الكبرى، أم أن التغيير كان لا بد أن يكون إجبارياً؟، لا يمكن القطع بأن حركة التاريخ كانت ستفرض مجراها التحديثي والإصلاحي في مصر، كوبا مثلاً، وفيها من روح الناصرية وتشابهاتها الكثير لا تزال على حالها منذ أن سيطر على الحكم الثوري قيها فيدل كاسترو عام 1959، ولمدة 49 عاماً، والذي تغير فقط أن راؤول ورث شقيقه فيدل في السلطة بعد أن اشتد عليه المرض عام 2008، وقبل أن يموت بـ 8 سنوات، كوبا ظلت بلا تغيير ينقلها إلى حالة توافقية جديدة مع طبيعة العالم من حولها الذي أدركته جاراتها في أمريكا اللاتينية حيث انتقلت من حكم الفرد، إلى حكم الديمقراطية، ومن شعارات الثورة، إلى شعارات الدولة.

 لو لم يكن عبد الناصر قد رحل في 28 سبتمبر 1970، ماذا كان شكل ووضع مصر اليوم من حيث الحرب مع إسرائيل لغسل عار هزيمة يونيو 1967؟، هل كان سيعجل بها لاسترداد سيناء كلها، أم جانباً منها، ثم يتجمد الوضع إلى اليوم مثل الجولان في سوريا، لا حرب، ولا سلم ؟، أم كان سيضطر للدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل، كما فعل السادات، ولو بطريقة وإخراج آخر؟، وماذا عن الحريات التي انفرجت في عهد السادات، وعودة الأحزاب السياسية حتى لو لم تكن بفاعلية كبيرة، لكنها كانت بادرة جيدة أفضل من السابق.

الأسئلة كثيرة، وسنة الله في خلقه التغيير، وليس الثبات، ومن ضمن ذلك الوفاة التي تطوي صفحات أشخاص، وتفتح صفحات آخرين، وفي حالة الاستبداد تكون الوفاة حلاً طبيعياً إلهياً لتغييب شخص معين عن منظومة حكم قد تحدث بعده انفراجه، إنها مأساة أن يتحكم فرد واحد في مصير دولة وشعب، ولا يقدر أحد على زحزحته من مكانه.

الوفاة

جاءت وفاة عبدالناصر قبل 48 عاماً لتبدأ مصر عهداً جديداً مختلفاً، لكنه كان في الشكل، وبعض التفاصيل فقط، لم يمس الجوهر كثيراً، جوهر الحاكم الفرد، والدولة التي في قبضته، والشعب الذي بلا حول ولا قوة، بنية استبدادية سلطوية تأسست وتجذرت في سنوات ليست طويلة، وقد ثبت أن تحريكها من مكانها ليس هيناً، والدليل الحي ثورة يناير، إذ ليس بعد الفعل الثوري شكل تغييري أعلى وأرقى منه، ففي خضم النشوة بنجاح الثورة استفاق الجميع على أن الذي سقط هو مجرد فرد واحد في نظام كامل اسمه مبارك، بينما النظام باق، ولم يتغير فيه شيء، ويستعصي على الانتقال من حالة إلى حالة، هذا هو جوهر النظام العميق الذي استقرت أركانه جيداً في التربة المصرية زمن عبدالناصر، وبعد رحيله كان رأس النظام يتغير اسماً ورسماً فقط، إنما النظام جوهراً وفكراً وعقلاً وسياسةً وروحاً فهو ثابت يقاوم التحديث والإصلاح الديمقراطي، ولو من داخله وبمبادرة ذاتية منه في استجابة طبيعية لحركة التاريخ.

ليست مصر وحدها دولة الحاكم الفرد، البلدان العربية كلها هكذا منذ غادرها الاستعمار وحلت محله حكومات وطنية، لم تكن فكرة الديمقراطية وحكم الشعب والمؤسسات الدستورية ودولة القانون وبناء مجتمع مدني قوي مطروحة، كان توجه الحكام الجدد وجلهم من الضباط، هو الحكم ومصادرة فكرة الحرية، وشركاء الحكم لم يكونوا يتورعون عن تصفية بعضهم بعضاً، أو مواصلة الانقلابات في سبيل التشبث بالسلطة، ولم تكن الشعوب وحقوقها السياسية في أجندتهم.

الدولة العربية واحدة مهما اختلفت طبيعة النظام السياسي سواء كان تقليدياً وراثياً، أو جمهورياً استبدادياً، لكن يُحسب للشرعيات التقليدية أنها أكثر صراحة ووضوحاً ولا تنافق شعوبها أو تخدعهم بديمقراطيات اسمية مزيفة، أو بمشروعات اجتماعية بائسة، أو خطط اقتصادية بلا جدوى في التنمية، كما أنها نجت ببلدانها ومواطنيها من مغامرات وكوارث الأنظمة الأخرى، رغم أن إرادة الشعوب ليست في حسبانها أيضاً.

قبل الثورة

للإنصاف لا نستطيع القول إن مصر قبل عبدالناصر ورفاقه في حركة الضباط الأحرار التي أطاحت بالملكية عام 1952 كانت ديمقراطية ليبرالية حقيقية، من يعش في ظل الاحتلال لن يتمتع بحرية، أو استقلالية، أو ديمقراطية، و”الوفد” الحزب الشعبي حكم سبع سنوات وعدة أشهر فقط متفرقة منذ أول انتخابات عام 1924 حتى ثورة يوليو 1952، أي في خلال 28 عاماً، وإذا كان الوعي في مصر لدى فئات معتبرة لا يزال محدوداً ونحن في الألفية الثالثة رغم التطور الحضاري والفكري والثقافي والتعليمي والتقني والإعلامي الهائل، فما بالنا بحال تلك الفئات وأحجامها قبل أكثر من 70 عاماً حتى يمكن الحديث عن ديمقراطية للشعب كله، وليس ديمقراطية لأشخاص بعينهم؟.

الأحزاب قبل 1952 لم يكن لها وجود مؤسسي وشعبي وبرامج لصالح عموم المصريين، كانت ضعيفة، وولاءاتها موزعة بين قصر عابدين “مقر الملك”، وقصر الدوبارة “مقر السفير البريطاني”، والوفد الحزب الحقيقي بينها لم يكن لعموم المصريين أيضاً، كان يسيطر عليه، وعلى مراكز القيادة والترشيحات للبرلمان، والمناصب الوزارية شريحة من الأغنياء والإقطاعيين، وبطبيعة الحال عندما يطيح ضباط الجيش بالملك، فإنهم يطيحون معه بكل النظام السياسي القائم في عهده، وهذا ما حدث، والخطوة الأخرى كانت السيطرة على الحكم، وهذا ما كان، ولذلك فإن مسألة عودة الجيش للثكنات، وإعادة الديمقراطية، كانت تجديفاً عكس طبيعة ومنطق التغيير بالقوة العسكرية سواء في مصر أو في كل الدول التي شهدت التغيير بالدبابة أو الكفاح المسلح في غالبية العالم الثالث فيما يُسمى بحركات التحرر الوطني، ضباط يوليو كانوا ناقمين على الأوضاع كلها، وعلى مجمل الطبقة السياسية، ولم يكونوا يسمحون باستمرارها، ولا بإعادة إنتاج حكم سياسي مدني ديمقراطي.

وفي منشأ الديمقراطية والحريات في أوربا عندما وقع انقلابان عسكريان في إسبانيا واليونان فإنهما حكما بقوة فاشية، ولم تعد الديمقراطية إلا بعد أن استنفد النظامان وقتيهما ووصلا نهايتيهما وآمنت النخب والقوى السياسية والفكرية والثقافية وجماعات المصالح وكذلك الشعوب بأن الأسلم للجميع هو النهج الديمقراطي لفك اشتباكاتها وصراعاتها وتناقضاتها بشكل آمن وعادل.

التغيير الديمقراطي

لم يكن عبدالناصر ابتداعاً في ديكتاتورية السلطة، كان جزءاً من تيار عام سيطر على عالم الجنوب، وبعد رحيل عبدالناصر بنحو نصف قرن، وما صاحب ذلك من حراك سياسي طويل، هناك سؤال محوري: ما هو التغيير الديمقراطي اليوم؟، للأسف، لا نزال ندور في نفس الدائرة، ونعيش في نفس بنية نمط الحكم، وبارقة الأمل التي لاحت بعد 25 يناير تعرضت لإخفاق سريع على أيدي القوى التي كانت تندد بالحكم العسكري وتنادي بالديمقراطية، وعندما جاءتها الفرصة خانت شعاراتها، وظهر خوائها، وثبت أن قوى الدولة العميقة أكثر ثباناً وثقة بالنفس ودهاءً من قوى المعارضة الطائشة المراهقة.

دعاة الديمقراطية والمؤمنون بها أقلية الأقلية في عالمنا العربي، وخصومها أكثر مما نتوقع، ليس من اليوم، إنما منذ أمد بعيد، الجميع شركاء في العصف بها كفكرة قبل أن تكون بذرة قابلة للإنبات والحياة، وعندما يتفق دعاتها وخصومها على أهمية هذه البذرة ونموها ورعايتها هنا يبدأ العصر العربي الجديد، كما بدأ العصر الأوربي الجديد قبل نحو قرنين من الزمان.

الأقرب للواقعية في الحكم على عبد الناصر مقولة إنه كان صاحب إنجازات عظيمة، وأخطاء عظيمة أيضاً

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه