في تركيا: الختان بنكهة عثمانية

ويذكر حافظ محمد أفندي في كتابه الشهيرة “حفل ختان الأمراء” أن حفل الختان السلطان أحمد الثالث استمر على مدى23
يوما

عادة ختان الأطفال الصغار من العادات الاجتماعية المعروفة في كافة البلدان الاسلامية، كما يقوم بها أتباع الديانة اليهودية، وبعض العائلات المسيحية الأرستقراطية في أوربا، حيث يتم إجراء جراحة للطفل يتم خلالها إزالة الغشاء الذي يحيط بالعضو الذكرى بهدف وقايته من الأمراض التناسلية التي يمكن أن يتعرض لها في حال عدم ختانه.

ورغم أن المسلمين عموما باختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم الاجتماعية يحتفون بتلك المناسبة احتفالا يليق بكونها تقليدا إسلاميا بالدرجة الأولى، فإن الأتراك ومنذ عهد الإمبراطورية العثمانية أولوا تلك العادة اهتماما كبيرا ووضعوا لها الكثير من التقاليد الخاصة؛ كونهم يعدونها الخطوة الأولى التي يخطو من خلالها الصغير نحو عالم الرجولة مودعا مرحلة الطفولة، لذا فقد تفننوا في جعل التقاليد التي تتبع في تنظيم هذا الاحتفال مبهرة بكل المقاييس حتى يظل هذا اليوم عالقا في الأذهان، ويوما لا ينسى في حياة الطفل وأصدقائه وأفراد العائلة جميعهم.

زي الختان العثماني

احتفالات الختان تجرى عادة خلال موسمي الصيف والخريف مع بداية الإجازة الصيفية وقبل بدء العام الدراسي، ويتم التحضير لها قبلها بفترة طويلة، إذ يتم تجهيز الملابس الخاصة التي يرتديها الطفل المقرر ختانه وإبلاغ أصدقائه وجيرانه من الأطفال الذين سيحضرون تلك الاحتفالية حتى يقوم كل واحد منهم بتحضير الزي الخاص الذي سيرتديه في هذه المناسبة الخاصة جدا.

 الزي الذي نتحدث عنه له نفس مواصفات الزي الذي كان يرتديه الأمراء الصغار في القصور العثمانية أثناء حفل ختان أحدهم، وهو زي مصنوع من الساتان الأبيض المطرز بأنواع من الزهور وأوراق الشجر وبعض الأشكال الهندسية بلون أزرق جميل موشى بخيوط من الفضة ومكتوب عليه بحروف مزركشة ” ما شاء الله” ومزين بريش أبيض وله غطاء للرأس عليه ريشه بيضاء كبيرة، بينما يفضل البعض الآخر أن تكون زخرفة الزي بخيوط ذات لون ذهبي وزخرفة باللون الأبيض البراق. ويتم إعطاء الطفل الذي سيختن عصى تشبه في شكلها صولجان الملك كناية عن أن الصغير أصبح رجلا يمكنه تحمل المسؤولية وتولى إدارة الأمور بما فيها شؤون الحكم وممارسة السياسة.

ونظرا للأهمية الكبرى التي أولاها الأتراك العثمانيون لعملية الختان، كانت قصور السلطنة في الغالب تحوي غرفة خاصة يتم فيها إجراء عملية الختان للأمراء الصغار على يد طبيب القصر، فيما يقام الاحتفال الكبير في حديقة القصر، والذي يحضره رجال الدولة وكبار التجار وعلية القوم، يتزامن ذلك مع الاحتفال الذي يقام في شوارع المدينة حيث توزع المأكولات والحلوى وتصدح الموسيقى وتعلو الأصوات بالأغاني المبهجة التي يتراقص على أنغامها العامة في الطرقات مشاركين سكان القصر احتفالهم بالصغير.

ويذكر حافظ محمد أفندي في كتابه الشهيرة “حفل ختان الأمراء” أن حفل الختان السلطان أحمد الثالث استمر على مدى23 يوما، أقيم خلالها حفل ختان لثلاثة آلاف و902 طفلا يوميا ومن بينهم أطفال رجال الدولة العثمانية وأطفال الفقراء، وتكلف السلطان بجميع مصاريف تلك الحفلات.

أما أشهر حفل ختان في العهد العثماني فكانت لشاه زادة محمد بن السلطان مراد الثالث، والذي استمر لشهرين كاملين وذلك في العام 1582. وأقيمت في الحفل ولائم كبيرة، دعي إليها العديد من رجال الدولة وأركان القصر والضيوف الأجانب.

أدعية وابتهالات

أما حاليا فإن تلك العملية تتم في قاعة كبيرة يتم حجزها بأحد الفنادق أو مقر البلدية للقيام بعملية الختان وسط جمهور المدعوين من الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران، حيث يتم اختيار أحدهم ليقوم بمهمة الإمساك بالصغير حتى ينتهي الطبيب من عمله مستخدما القليل من المخدر، وهو الشخص الذي يعده الصغير بمثابة الأب الروحي له، والذي يظل ملازما له مدى حياته، فيما يقوم باقي أفراد الأسرة بقراءة آيات من القران الكريم، وتلاوة الأدعية والابتهالات والدعاء بأن يحفظ الله تعالى الصغير ويرعاه في مشوار حياته المقبلة، بينما يقوم أخرون بملاطفته ووضع الحلوى في فمه حتى لا يصرخ.

أثناء عملية الختان.

بعد انتهاء الطبيب من عمله يوضع الطفل في سرير مفروش باللون الأبيض مزين بوسادة كبيرة عليها نقوش ملونة، وبعض الأدعية الاسلامية لحماية الصغير ودرء الحسد عنه، مثل عبارة ” ما شاء الله” و ” الله أكبر ” وسط القاعة، ليحتفل وأصدقائه بهذه المناسبة في جو مفعم بالبهجة والفرح حيث الاستعانة ببعض المهرجين والحواة وممثلي الشخصيات الكرتونية التي يعشقها الصغار لإضفاء جو من المرح على الاحتفال فيما تعزف الموسيقى والأغاني الشعبية والدينية، بينما يقوم الأهل والأقارب بتهنئة الصغير ومنحه الهدايا الذهبية واللعب والحلوى.

أما في الأناضول، فما زالت عادات الختان التي كانت سائدة في عهد الدولة العثمانية مستمرة، إذ تفضل العائلات هناك إقامة حفلات الختان في البيوت، حيث يتم استقبال المدعوين وتقديم الطعام المعد خصيصا لتلك المناسبة، وتلاوة القرآن الكريم أيضا، وغالبا ما تختار العائلات شكل المراسم التي تتم في تلك الاحتفالات وفق مقدرتها المادية.

حفلات ختان جماعية

وفى كثير من الأحيان يتم تنظيم حفلات ختان جماعية تتولى رئاسة كل حي الأشراف عليها حيث يتم الاحتفاء بختان ما بين 20 إلى 30 طفال في الاحتفالية التي يتم الاعلان عن موعدها قبلها بشهرين، ليتمكن الآباء الراغبين في ختان أبنائهم من تسجيل أسماء أطفالهم وإعداد الزي الخاص بالمناسبة، وفى الموعد المحدد يتوجه الجميع إلى مقر الاحتفال الذي يحضره في الغالب مسئول البلدية ورئيس الحي وعدد من الشخصيات السياسية والحزبية ورجال الأعمال الذين يشاركون البلدية في نفقات تلك الاحتفالية خصوصا في الأحياء الفقيرة، التي يستطيع الأهل فيها عمل احتفالية خاصة بصغيرهم نظرا للتكلفة المرتفعة التي تتطلبها هذه الاحتفالات.

لذلك تقوم الدولة ممثلة في البلديات بمساعدة رجال الأعمال في كل منطقة بالتكفل بإقامة احتفال جماعي مرة أو مرتين في العام وفق عدد اطفال المنطقة المطلوب ختانهم، حيث يحتفى الجميع برجال المستقبل، ويتم تقديم الأطعمة والحلوى للحاضرين بينما تعزف الموسيقى التركية التقليدية، ويتم تسجيل تلك اللحظات بصور فوتوغرافية توزع على أهل كل طفل في نهاية الاحتفال.

توثيق الحدث

وكما أن عملية الختان والاحتفاء بها أيام الدولة العثمانية تم توثيقها عبر عدد من الرسومات واللوحات الفنية التي نقلت لنا بدقة كافة تفاصيل ذلك الاحتفال وطقوسه، قامت بلدية أنقرة بتوثيق صرخات ودموع الصغار أثناء عملية الختان في مشروع مصور، تم خلاله رصد خطوات القيام بعملية ختان الأطفال من دون استخدام أي مخدر على اعتبار أن الشعور بالألم وتحمله هو أحد علامات الذكورة ودليل على الرجولة المبكرة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه