في بلاد الحد الأدنى “من تونس إلى مصر”

نتمتع بقراءة التقاريرعن زنقة السيسي بعد انقطاع الرز الخليجي واضطراره لبيع أجزاء من مصر لتدبير مصروف الفول للعساكر ولكننا نغفل تراجع الدينار التونسي

لا أعيد هنا نقل نص روايتي التي تحمل نفس العنوان (صادرة بتونس سنة 2010 ولم توزع خارج العاصمة) ولكني أجري مقارنة بين حال تونس وحال مصر وأقول ليس بين الهموم اختيار فالبلدان يتجهان إلى كارثة والأسرع في السقوط سيكون الأقرب إلى الخلاص وتونس تتظاهر بالسلامة ولكن الجسد منخور نخرا. والنهايات المؤجلة لن يطول انتظارها. سيقول لي المصابون بداء التفاؤل المزيف أنت كافر بالنعمة فالمصري لا يجد نافذة حرية ليكتب ما تكتب ضد النظام ولكنني أرد بسرعة ما جدوى ما كتبنا فالأمر عندنا الآن كما كان في عصر مبارك قل ما تشاء والنظام يفعل ما يريد. فما نحن إلا نافخوا رماد يعمي عيوننا عن الحقيقة الفاجعة البلد ينهار ويتظاهر بالسلامة.

انهيار المؤشرات الاقتصادية والأمنية ونكوص عن الاستحقاقات السياسية ومحاولة تمييع الدستور والتراجع عن مكتسباته قبل تحقيقها. فماذا تركنا للسيسي ؟

الانهيار الاقتصادي الوشيك.

نتمتع بقراءة التقارير عن زنقة السيسي بعد انقطاع الرز الخليجي واضطراره لبيع أجزاء من مصر لتدبير مصروف الفول للعساكر ولكننا نغفل تراجع الدينار التونسي وارتفاع المديونية والعجز عن دفع الرواتب وإفلاس الصناديق الاجتماعية وعجز الحكومة عن استرجاع ديونها التي بذمة طبقة المال الفاسد وانجرارها إلى الاقتطاع من رواتب الموظفين الذين يعجزون كل يوم عن تدبير وجبة محترمة. لا شيء هنا يميزنا عن مصر بعد الانقلاب.

قانون الموازنة الجديدة لسنة 2018 يثير الغبار قبل مناقشته والتصديق عليه فنقابة الأعراف تهدد بإغلاق المصانع احتجاجا على توظيفات ضريبية، ونقابات الموظفين تهدد برفضه عبر إضرابات وحشية، ووثيقة قرطاج التي قامت عليها الحكومة لم تعد محل إجماع الموقعين عليها وأزمة البطالة تتفاقم بخريجي السنة الجامعية المنصرمة والتسريح الاقتصادي من القطاع العام الذي أملته دوائر المال العالمية على قدم وساق. والسنة الزراعية تتأخر بتأخر الغيث للسنة الخامسة على التوالي بما رفع أسعار المنتجات الفلاحية وأجبر الناس على العيش تحت الحد الغذائي المقبول .بماذا نفتخر إذن على السيسي و عسكره؟

الحالة الأمنية تجبر الناس على الانكماش من جديد

صباح الأول من نوفمبر 2017 أفقنا على خبر عملية إرهابية طعنا بالسكاكين قبل ذلك كنا نعدد عمليات إجرامية تقوم بها عصابات منظمة وصل حجم بعضها إلى 50 شخصا مسلحا بالأسلحة البيضاء وكل يوم تتواتر أخبار قتل وسرقات منظمة واعتداءات وقطع طرق يزيد إعلام مأجور من تأجيجها بالنقل المفبرك. ويشك أغلب المحلليين في أن هذه المبالغة وهذا الإفراط يتم بأمر النقابات الأمنية التي تعمل جاهدة على فرض قانون زجر الاعتداء على الأمنيين وهو قانون مركون في البرلمان لصبغته الفاشية. (من الواضح للعيان وجود شبكة متقنة تعمل بتناغم بين إعلاميين وأمنيين لتعفين الوضع والدفع في هذا الاتجاه).

الخوف يسيطر على نفوس كثيرة والناس ينكمشون تحت شعور بعدم وجود أمان كامل في الطريق أليس هذا هو وضع المصريين تحت حكم السيسي فبماذا نزايد عليهم ونقول الوضع عندنا أفضل (نحن أيضا تحت قانون الطوارئ). والموضوع المسكوت عنه هو نظام (افرح بي) وهو نظام الرشوة لقضاء الشؤون في الطريق وفي الإدارة فلا مناص من الدفع الموازي للحصول على حق يخوله القانون. يطلب تمرجي بيت الأموات في مصر (حلاوة الميت) ويطلب حفار القبور في تونس (مبروك القبر). فالحصول على قبر في العاصمة أعسر من العثور على شقة للكراء.

الهروب من الاستحقاقات السياسية

للمرة الرابعة يفشل البرلمان في إفراز رئيس للهيئة الانتخابية المستقلة فشل متعمد إذ يهرب النواب من المجلس فلا يحصل المترشح على العدد الكافي من الأصوات. نواب حزب النداء والمشروع (المنشق عنه) يحدثون الفراغ عمدا ليفشل مسار الانتخابات (في الأثناء تعرت كذبة التوافق). إن الانتخابات البلدية تعني الدخول فعليا في تنفيذ الدستور وتطبيق مجلة الجماعات المحلية التي صيغت على هدى الباب السابع منه أي باب الحكم المحلي. والجميع يعرف أنه الباب الذي سيفكك على مدى متوسط وبعيد كل السلطة المركزية ويحرم المتعيشين منها من منافع السلطة التي ستصير وإن أبطأت السير إلى الجهات لتحكم نفسها وتقطع دابر المركزية في القصبة وقرطاج. هذا هو السيناريو الكارثي على النظام القديم وأحزابه ونخبه الاقتصادية وهو مطلب الثورة الدستوري الذي ينتظره الناس.

لذلك يعمل حزب النداء وبكل شقوقه الدستورية واليسارية ومثقفيه الفرنسيين على منع حصول ذلك و يهربون الآن من الاستحقاق الانتخابي للبلديات. لقد تأجلت الانتخابات مرتين والموعد المضروب في مارس لم يقرّ بعد بل سيؤجل هذا إذا لم يسقط المسار كله في سيناريو انقلابي يعد له بعناية وعليه مؤشرات كثيرة منها استعادة رجال أمن بن علي لوزارة الداخلية والدفاع. وهو أمر لم يكن يتوقعه أحد سنة 2014.

لا فرق بين التجربتين

وهذا ليس كفرا بنعمة السلم الأهلي السائدة في وسائل الإعلام التونسي فقط التونسيون مثل المصريين يعانون في تدبير عيشهم كل يوم. ويخافون على مصير أبنائهم في نظام تعليمي يجهل ولا يربي ويتقافزون إلى قوارب الموت هروبا من بلدهم الذي دفعت في حريته الدماء.

ربما يجد المواطن المصري نفسه معذورا لعدم مواصلة ثورته حتى مداها فالآلة العسكرية المتوحشة تقطع عليه الأكسجين. بينما التونسي يتمتع بحكم مدني ولكنه يتقاعس أكثر من المصري في فرض مطالبه السلمية على نظام مدني. يزعم البناء الديمقراطي ويتظاهر بمعاداة الانقلابات العسكرية. لكنه يمارس الانقلابات الناعمة أو كما يقول التونسيون القتل بالعرق (أو القتل بالتفصيل وليس بالجملة).

يكفي من استعمال الحالة المصرية كحالة مثالية في سوئها لتزيين الانقلاب على الدستور والمؤسسات باسم السلم الأهلي. هذا هو الشعور السائد الآن لدى قطاعات واسعة من التونسيين الذين استسلموا للتخويف من القتل الجماعي فقتلوا فرادى ووئدت أحلامهم في البناء الديمقراطي المتدرج. لقد تبين أن التخويف سياسة تشبه سياسة الجدات وهن يخوفن أحفادهن من الغول فلا يخرجون للعبث ليلا. من الطريف أن الرئيس التونسي يمكنه أن يكون جدا لكل التونسيين الموجودين الآن على الخريطة ويبدو أنه يمارس تخويف الجدات على شعب طفل يسهل خداعه لكنه يوم يفيق على انقلاب تام سيكون الانتباه تأخر كثيرا وسيكون الغول قد دخل البيت فعلا لربع قرن آخر أو يزيد وموعد التونسيين آخر سنة 2017 لإفاقة مرعبة على نسخة مصرية بدماء أقل ربما ولكن بمذاق أشدّ مرارة مما يتجرع المصري اليوم تحت حكم السيسي.  

الحد الأدنى من الديمقراطية ليس إلا خطوة للانقلاب عليها بمختلف الوسائل. هذه بلاد الحد الأدنى للشعب الأدنى تحت الحكومة الأدنى من كل الحكومات.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه