فوازير السيسي قبل رمضان

دعوني أتحدث بصراحة وأسأل الرئيس السيسي نفس الأسئلة، لعل لديه إجابة، ولعل لديه الجرأة ليعلنها بدلا من دعوتنا للبحث عن قطة سوداء في صحراء مظلمة.

قبل أن تبدأ مصر طقوسها الرمضانية، استهلكت حصة من مخزون الغضب في “أسبوع الرعاع”، وسخرت بشدة من أسعار الياميش والسلع الغذائية، ثم شرعت في الانقسام على كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة العربية الإسلامية الأمريكية، بعضهم رآها كلمة قوية شجاعة، عبرت عن رؤية مصر لمشكلة الإرهاب بشكل شامل، من خلال أربعة محاور تتجاوز الحديث عن نطاق جغرافي أو تنظيم معين، للحديث عن المشكلة في نطاق العالم كله، وبمحددات أوسع تشمل كل من يخالف القوانين المحلية والقوانين الدولية، في حين رأى البعض الآخر أن الكلمة كانت غامضة و”هروبية” وتجنبت تسمية الأشياء بمسمياتها، حيث ابتعدت عن المواجهة السياسية المباشرة، واكتفت بالتوصيف “الفكري” للإرهاب وأسبابه والدعوة من أجل مواجهته، دون أن تسمي أيا من الكيانات الإرهابية، حتى ولو على سبيل المثال، وهذا يعني أن الفريق الذي أعد الكلمة لم يكن فريقا سياسيا احترافيا يدرك خطورة المؤتمر الذي ستلقى فيه الكلمة، بقدر ما كان مجموعة من الباحثين الذين صاغوا الكلمة، وكأن الرئيس سيلقيها في ندوة بحثية لمناقشة مشكلة التطرف، لذلك كان اللجوء إلى التعميم بدلا من التحديد وتسمية الأطراف الذي تحدث  عنها، باعتبارها أطرافا تدعم وتمول الإرهاب، كما خلت الكلمة من تحديد الموقف المصري من الإجراءات المتوقع أن ينتهي إليها المؤتمر كخطوات على الأرض لمواجهة الإرهاب، وربما كان ذلك الغموض هو الدافع الذي جعلني أبدأ بالحديث عن شهر رمضان، لأنني فكرت في الكلمة وكأنها محاكاة متعمدة لأسلوب “فوازير رمضان”.

* الفزورة الأولى: متى توقفت الشراكة؟

في بداية كلمته استخدم الرئيس المصري خطابا بروتوكوليا فخيما، قفز فيه على مشكلات غير خافية في الواقع الاجتماعي والسياسي، موحيا بتجانس وتسامح ديني يجمع أصحاب الديانات الإسلامية والمسيحية والبهودية، ومؤكدا أن مصر  لها “إسهامات بارزة” في تاريخ الإنسانية والعلم.. حتى أصبحت رمزاً من رموز الاعتدال والوسطية والتنوير..!!، ثم وصف السيسي الاجتماع بأنه يحمل “قيمة رمزية” غير خافية على أحد.. وهي “عزمنا الأكيد.. على تجديد الشراكة بين الدول العربية والإسلامية.. والولايات المتحدة الأمريكية”، وبصرف النظر عن هذا البناء الكلامي الذي لا يطابق الواقع، شغلتني الفزورة الأولى وتتمثل في سؤال: ومتى توقفت تلك “الشراكة” التي يتحدث الرئيس (صاحب الحذاء المحبوب) عن عزمه وعزم الدول العربية والإسلامية على تجديدها؟!، فقبل أسابيع قليلة كان الرئيس نفسه في واشنطن، وتم التقاط صورة له واقفا خلف الرئيس ترمب ضمن موظفي المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وكشف في تصريح له عما أسماه “صفقة القرن”، وبمجرد عودته لبى طلب الرئيس الأمريكي إطلاق سراح الناشطة أية حجازي، دون أي اعتبار لإجراءات التقاضي التي تعطل الإفراج عن آلاف المصريين المحتجزين في قضايا رأي وتظاهر، ولا يحملون الجنسية الأمريكية، وهذا يعني أن “الشراكة” التي يتحدث عنها الرئيس المصري، ليست إلا تعبيرا مهذبا  عن التبعية الكاملة التي لم تتوقف منذ أواسط السبعينيات، عندما بنى كسينجر دعائمها بين القاهرة وواشنطن. 

* الفزورة الثانية: : أين تتوفر الملاذات الآمنة للإرهاب؟

الحديث عن تفاصيل المؤتمر الإسلامي الأمريكي، لن يقدم جديداً، فهو إعادة تكرار لفكرة الأحلاف التي يتم تداولها منذ عامين، بنفس الحجج التي أشعلتها ثورات الربيع العربي، وما تسلل إليه من سيناريوهات استخباراتية، وبدء تشغيل للخلايا السرطانية النائمة في جسد المجتمع العربي كله، بل إن التحالف الإسلامي قد تم تدشينه بالفعل قبل أكثر من عام، ولا أظنه يختلف في أسبابه ومستهدفاته عن التحالف الجديد، إلا في حضور ومباركة الرئيس الأمريكي، لذلك فإن الحديث عن رفض سياسة الأحلاف تحت أي مظلة غربية، يصبح أمراً مكررا ومملا، بعد أكثر من نصف قرن على فشل المحاولة الأولى لسياسة الأحلاف في المنطقة، وما جرته عليها من مصائب وويلات، وفي تقديري فإن كلمة السيسي في المؤتمر، جاءت غامضة، لكي تتجنب مخاطر الفشل المتوقع، والذي تمثل من قبل في عدم القدرة على تشكيل القوة العربية المشتركة، كذراع عملي لمواجهة الإرهاب، لأن هناك اختلافا كبيرا في التوصيف الواقعي للإرهاب في المنطقة، حتى أن كل دولة لديها “إرهابيون” ، بينما تتبناهم دولة أخرى وتدعو لمحاربة من ترى أنهم “الارهابيون” الذي يستحقون المواجهة، وهناك خلل في ترتيب الأولويات العربية، فمثلاً.. هل يبدأ اصحاب الجلالة والفخامة والسمو في حل الأزمة السورية، أم اليمنية، أم العراقية أم الليبية، أم يبدأون بتجفيف منابع الإرهاب وتصحيح البيئة التي تساعد على تفريخه داخل مجتمعاتهم؟، وما هو موقع القضية الفلسطينية من هذه الأزمات؟، وهل خرجت إسرائيل تماما من دائرة الاتهام بالإرهاب في تصورات الأنطمة العربية، وحلت محلها إيران كعدو أول؟، وإذا كانت دول الخليج لديها مخاوف واقعية من إيران، فهل تشعر القاهرة بهذه المخاوف بنفس الدرجة؟، أم أن القاهرة كما ألمحت كلمة السيسي تهتم بالتركيز على أعداء آخرين، لم تذكرهم بالاسم، لأن المحفل لا يحتمل ذكرهم، وفي تقديري أن الإشارات المصرية كانت تتجه مباشرة إلى جماعة الإخوان المسلمين في الداخل، وعلى الدول التي تدعمهم وتستضيفهم، لذلك اغفلت كلمة السيسي تسمية هذه الدول، وكذلك تسمية الجماعات الإرهابية، حتى لا تصطدم مع حلفائها في المؤتمر،

لكن أسئلة السيسي توحي بتأجيل الصدام مع الحلفاء وليس حله، فقد قال في كلمته بالنص: دعوني أتحدث بصراحة: أين تتوفر الملاذات الآمنة للتنظيمات الإرهابية لتدريب المقاتلين.. ومعالجة المصابين منهم.. وإجراء الإحلال والتبديل لعتادهم ومقاتليهم؟ مَن الذي يشتري منهم الموارد الطبيعية التي يسيطرون عليها.. كالبترول مثلاً؟ مَن الذي يتواطأ معهم عبر تجارة الآثار والمخدرات؟ ومِن أين يحصلون على التبرعات المالية؟ وكيف يتوفر لهم وجود إعلامي عبر وسائل إعلام ارتضت أن تتحول لأبواق دعائية للتنظيمات الإرهابية؟.. فهناك بكل أسف “دول”ً تورطت في دعم وتمويل المنظمات الإرهابية وتوفير الملاذات الآمنة لهم… كما أن هناك “دولاً” تأبى أن تقدم ما لديها من معلومات وقواعد بيانات عن المقاتلين الإرهابيين الأجانب.. وفي ختام هذه الفزورة دعوني أتحدث بصراحة وأسأل الرئيس السيسي نفس الأسئلة، لعله تكون لديه إجابة، أو لديه الجرأة ليعلنها بدلا من دعوتنا للبحث عن قطة سوداء في صحراء مظلمة.

* الفزورة الأكثر خطورة: من يتآمر على الدولة المصرية؟

يلتقي الرئيس السيسي مع الجميع فيتحدث عن “مؤامرة” خفية على مصر من أطراف غامضة، لم يعلن عنها أبداً، وفي كلمته كرر نفس الكلام باعتباره حقيقة مقطوع بها ومعروفة للجميع، فقال: “ليس بخافٍ عليكم.. أننا واجهنا في الأعوام الأخيرة محاولات ممنهجة.. وممولة تمويلاً واسعاً.. لتفكيك مؤسسات دولنا.. وإغراق المنطقة في فراغٍ مدمر.. وفر البيئة المثالية لظهور التنظيمات الإرهابية واستنزاف شعوبنا في صراعات طائفية وعرقية”… الرئيس الذي حمل التحية من مصر المعتدلة التي تجمع كل أصحاب الديانات في تسامح عبر التاريخ، نسي ذلك واستخدم واقع الصراعات الطائفية والعرقية، عندما احتاج إلى الاستشهاد به، لدعم “نظرية المؤامرة” ضد مؤسسات الدولة الوطنية في العالم العربي.. وتلبية تطلعات وإرادة الشعوب للوفاء بمعايير الحكم الرشيد.. واحترام حقوق الإنسان..

وتذكروا أن تعبيرات “إرادة الشعوب” و”حقوق الإنسان” تأتي ضمن كلمة يقرؤها السيسي أمام العالم، بينما سياساته تدوس على إرادة شعبه، وعلى أي مظهر لحقوق الإنسان في فترة حكمه!، لكن الفزروة الأخطر والأكبر في هذه الفقرة تخص تلك “الدول” التي سعت لتمويل المحاولات الممنهجة لتفكيك الدولة المصرية.. يا ترى من تكون هذه الدول التي يغمز إليها السيسي دون أن يسميها؟.. والأهم متى يجرؤ على اتباع سياسة الشفافية ويصارح شعبه والعالم، بأطراف المؤامرة التي تهدد بلاده؟

 

وحتى لا أطيل أكتفي بهذا القدر من فوازير السيسي، متمنيا للأمة العربية والإسلامية الخير والسلام في شهر رمضان الكريم.. وكل عام وأنتم كرماء أصحاء أحرار

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه