فن تحويل الهزيمة إلى نصر

ابتسام تريسي*

 
ليس الإعلام وحده من يستطيع صياغة الخبر المأساوي لأيّ كارثة إنسانية، فيحوّلها إلى دراما، أو كوميديا سوداء.. فقد اشتهر رجال السياسة عبر التاريخ، بكتابة انتصاراتهم، وانتصاراتهم الساحقة فقط، حتّى لا نكاد نجد خبراً عن هزيمة لقائد إلاّ إذا قرأنا تاريخ العدو! وخاصة في السير الذاتية التي كتبها كبار المنظّرين والسياسيين والمحاربين في القرن الماضي. القرن الحافل بالحروب والنكبات والنكسات التي تحوّلت إلى انتصارات بقدرة الواحد الأحد!
الشعوب لها “ثلثي الخاطر” في تلك الانتصارات، فهي الحاضنة للفكر الجمعي الرافض لفكرة الهزيمة، المتغذي على حلم التحرير والنصر والمقدرة الخارقة للقيادة الحكيمة، خاصة وهو يبذل الغالي “الدم، والروح” الذي لا يملك من متاع الدنيا غيره، والرخيص “ممتلكاته التي لا تتجاوز احتياجات الحياة اليومية!
الخط البنفسجي
لم يكن سهلاً على تلك الحاضنة الشعبية الحالمة تلقي فكرة الخسارة في حرب حزيران “67” فرفضت فكرة تنحي عبد الناصر عن الحكم، وخرجت تطالبه بالعودة! الشعب المنوّم بفكرة القطيع، لا يستطيع أن يقتلع خيمة الأمان الممثلة بالقائد، ليجد نفسه في العراء من دون حماية. هكذا يظنّ على الأقل.
على الجانب السوري، كان الأمر أشدّ مأساوية، فقد باع حافظ الأسد الجولان وقبض ثمنها “كاش”، وأعلن سقوط القنيطرة من الإذاعة، والجنود ما زالوا يقاتلون على الجبهة، وجاءهم الأمر بالانسحاب الكيفي.. وصلت الوحدات الإسرائيلية إلى خط التلال البركانية التي تعتبر موقعًا إستراتيجيًّا.. وهناك قبلت إسرائيل بوقف إطلاق النار.. وسمِّي الخط «الخط البنفسجي».
هذه الهزيمة استغلها حافظ الأسد فيما بعد، ليظهر القائد الحامي للحدود، ويسترجع القنيطرة في معركة الشرف التي خسرت فيها سوريا ما يقرب من ست و ثلاثين قرية، لكن لعبة المفاوضات، والتسويات، أعادت له القنيطرة
حرب الغفران
في حرب تشرين/ اكتوبر، التي سمّاها اليهود “حرب الغفران”، وكانوا محقين في التسمية، ومدركين أنّ مسميات الأشياء، هي الفاتحة التي تؤدي إلى تحقيق الغرض. خاض الشعب السوري، والمصري حربهما المصيرية لاستعادة ما خسراه في حرب حزيران /يونيو/ .. لكنّ الشعب المندفع بقوة الحلم، لم ينتبه أنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين! فالذي باع الجولان، هو نفسه القائد لمعركة التحرير والنصر!
وعلى سيرة المؤمن الذي لا يلدغ من الجحر مرتين،
كان عند جدي حمارة اسمها الخضراء، كانت تعرف الدرب جيداً من زقاق بيتنا القديم إلى الطاحون.. صدف مرّة أن وقعت في حفرة، أحدثتها البلدية لمد أنابيب الماء.. الحمارة غيّرت طريقها، ولم تعد تسلك القديم أبداً، حتّى بعد ردم الحفرة.  هذا شأن الحمير، لكنّ البشر مختلفون بعنادهم؛ لذا سلكت ليلى الطريق الطويل على الرغم من تحذيرات أمّها.. وأكلها الذئب!
الذئب المتمثل بالقائد الفذ، الذي يعرف جيداً كيفية نصب الفخاخ، ووضع الطُعم، الذي يستدرج الفريسة الغافلة.. الشعب السوري الذي رضي البقاء داخل المصيدة ثلاثين عاماً من حكم الأسد الأب، لم يرفع رأسه حين ولِي الابن، الذي أكمل مسيرة الأب في القتل، والنّهب، والتّهجير، والتّدمير.
الإعلام حوّل هزيمة الجيش السوري إلى نصر، يتغنّى به كلّ عام، وتقام الاحتفالات على شرف ذلك اليوم الذي استعاد فيه “القنيطرة” والتي أصبحت مزاراً لكلّ الوفود الأجنبية القادمة إلى البلد، وبمعنى آخر “باب شحاذة”.. لم يعمّرها من جديد، وبقيت متحفاً يشهد على الوحشية الإسرائيلية، استغله الأسد للحصول على الدعم “المادي” من الدول الغربية والصديقة. تماماً كما كان “يشحذ” باسم الفلسطينيين اللاجئين في سوريا. ليس من الغرب فقط، بل كان كل مواطن سوري ملزم طيلة حياته بدفع تبرع لصالح اللاجئين في المدرسة، والجامعة، والمؤسسات، والمعاملات الرسمية!
منذ بداية الثورة السورية المسلحة، والجيش السوري يخسر المعركة تلو الأخرى أمام أبناء المدن المدافعين عنها، وبعد كل معركة، تأتيه الأوامر بالانسحاب التكتيكي! ويتكتك الجيش مرّة أخرى؛ ليجمع فلوله، ويعيد الانتشار! ويخسر من جديد، ويعاود الانسحاب!
في المعارك الأخيرة الدائرة في محافظة إدلب وريفها، صار الجيش ينسحب كيفياً، لم يعد قادته يسألون عن المجندين “سوريين وإيرانيين ولبنانيين” والشبيحة، بل يهربون هم، ويتركونهم لمصيرهم.. منهم من يستطيع الوصول سالماً إلى بلده، ومعظمهم يقتلون! لكنّ الإعلام يرفض الاعتراف بالهزيمة، كما ترفض صفحات المؤيدين على مواقع التواصل ذلك، فيبثون أخباراً تؤكد انسحاب الجيش “تكتيكياً” وسيعيد الانتشار. آخر معارك الجيش الباسل في جسر الشغور “في المستشفى الذي حوّلته عصابات الأسد إلى ثكنة عسكرية، انسحب الجنود والضباط كيفياً تحت تغطية كثيفة من نيران الطيران، وقتل معظمهم، وهم يهربون، وعمّت الفرحة التلفزيون السوري، ومواقع التواصل، لأنّ الأسد الذي ألقى كلمة وعد فيها المحاصرين في المستشفى بفكّ الحصار عنهم، قد وفى بوعده، وفكّ الحصار!
الهزيمة التي مني بها النظام في محافظة إدلب، والتي تحوّلت إلى نصر، وملحمة صمود داخل المستشفى المحاصر، تكررت في معسكر المسطومة، وأريحا..
بعد أريحا صار المؤيدون يقولون “المهم الشباب بخير، ووصلوا لبلدهم.. وسيعيدون الانتشار، ويستعيدون المناطق التي خسروها!
جيش أبو شحاطة
أمّا صفحات المشاهير منهم على الفيس بوك، فقد طفحت باقتراحات “هولوكستية” تذكرنا بهتلر النازي الذي أحرق اليهود في أفران.. الشبيحة يطالبون الأسد رمزهم، وقائدهم، بتدمير إدلب، وحرق أهلها بالكيماوي عن بكرة أبيهم! وما زالوا يحلمون ببطولات خرافية على نمطية أغانيهم الهابطة، التي أسّست لأخلاقيات منحطة في قرى ومدن سورية كثيرة شعارها العهر والانفلات الأخلاقي.
ليس هناك ما هو طبيعي في سوريا، مادام الشبيحة هم فلاسفة العصر، الذين يبررون هزائم جيش “أبو شحاطة” لفشله المتكرر في تحقيق وعوده، بالإضافة لفضائحه مع داعش، التي بات جلياً للعيان أنّها ليس صنيعة النظام وربيبته، بل هي يده القوية التي يضرب بها الثورة بعد أن شلت يده الثانية المتمثلة بجيش الهزائم المدعوم من حسن زميرة وعصابته.
الملفت للنظر أكثر، الشبيحة الصغار المتعطشين لأخبار الانتصارات، والذين لا يتنازلون عنها أبداً، فهم على استعداد لتصديق الأكاذيب مهما كبرت.. وهؤلاء هم أحد نقاط الأمان لبروباغندا النظام الأسدي /الإيراني. فهم مطمئنون أنّ المؤيدين لهم، ينتظرون بلهفة تحليلاتهم التي تفسر الهزائم على أنّها نوع آخر من الانتصارات الإلهية.
متلازمة البوط العسكري والبقلاوة
نستطيع القول إنّ فن تحويل الهزيمة إلى نصر، والذي أتقنته عصابة حسن نصر الله، أكثر من نظام الأسد، فهي تعلن عن النصر قبل وقوع الحرب.. جعل مؤيدي النظام السوري يشعرون بالحسد، والضيق؛ لأنّ إعلامهم لم يرتقِ إلى مستوى الإعلام اللبناني، فصاروا يستعينون بمحللين لبنانيين؛ ليدافعوا عن نظام الأسد، وانتصاراته.. ومع كلِّ انتصار يخرج السّوريون المؤيدون؛ ليرقصوا، ويغنوا في الساحات، وعلى رؤوسهم البوط العسكري..
بينما يخرج اللبنانيون في الضاحية الجنوبية، يحملون “البقلاوة”، ويوزعونها على الناس “حلوان” الانتصارات المزعومة

________________

* روائية سورية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه